أمريكا تترنح
ليس غريبا القول إن ما يجري في بلاد الشام والعراق كشف إلى مدى بعيد عجز الإدارة الأمريكية ومعها الإدارات الأوربية الغربية عن استيعاب التغيرات العميقة في التوجهات الثقافية والسياسية في المنطقة.. بل يمكن القول إن الإدارة الأمريكية هي الخاسر الكبير في حالة الاشتباك التي فرضتها على العراق وسورية بعد أن انكسر مشروعها العتيد "الفوضى الخلاقة" و"الشرق الأوسط الجديد" الذي يتضمن تقسيما جديدا للجغرافيا والشعوب في المنطقة على اعتبارات عرقية وطائفية وجهوية، واضمحل المشروع الأمريكي الذي ظن الأمريكان انه يستغرق مائة عام من الفوضى وها هي الإدارة الأمريكية تفقد أدواتها وحلفاءها بشكل مريع.
ينظر الأمريكان باحتقار نحو أهل المنطقة العرب والمسلمين عامة بعد ان شكلوا لهم نمطا كاريكاتوريا في المخيال الأمريكي من خلال الإعلام والسينما والسياسة فأصبح العربي والمسلم بمثابة إنسان خارج سياق التطور البشري وانه عبارة عن مخلفات من الماضي لابد من تحرير الثروة من عبثه.. وعلى هذا الاعتبار ينظر بأهمية نحو كيان سياسي مصطنع صغير محدود في كل شيء "الكيان الصهيوني" أكثر بكثير من النظر إلى أمة عربية وإسلامية تعد الآن بمئات الملايين من البشر وتكتنز طاقات وإمكانات كبيرة وتتوسط الجغرافيا الكونية.
يبالغ الأمريكان في إهانة العرب والمسلمين، غير مقدِّرين ما للزمان من قيمة في تدوير المواقع وما يتنامى من قوى دولية وإقليمية تفرض نفسها على المسرح الدولي بقوة وصلابة وكأن دوار القمة أصابهم فلم يعودوا يتدبرون خطواتهم ومواقفهم فكان الفشل نتيجة حتمية لعنجهيتهم وهم يتابعون سقوط أدواتهم واحدة تلو الأخرى.. ولعل التنافر التركي الأمريكي احد ابرز صور الفشل الأمريكي بما يعني ان معسكرا دوليا جديدا آخذٌ في التشكل.
في العراق وسورية ضربات متلاحقة للمشروع الأمريكي، هذا صحيح.. لكن لابد من الانتباه انه رغم الترنح الحاصل للواقع الأمريكي في المنطقة إلا أن الأمريكان حريصون على عدم تخفيض خطابهم ومواقفهم السياسية بما يتناسب مع احتمال حفاظهم على مصالحهم الكبيرة.. وفي هذه الأثناء الفارقة يبدو أن تشكلا قريبا للخريطة السياسية ومناطق النفوذ ترسم بقوة.. فلقد خرجت سورية ولبنان والعراق من النفوذ الأمريكي بنسبة كبيرة، كما أن الأتراك يسيرون إلى الخروج من ربقة حلف الناتو بعد ان تورط الأمريكان في دعم الانفصاليين الأكراد.
ولكن لابد من الانتباه إلى أن هناك أوراقا لم تستخدمها الإدارة الأمريكية بعد وأخطرها ما تكتنزه المنطقة من إيديولوجيات متخفية تتحكم فيها المشاعر التاريخية والتي يمكن تفجيرها بعنف في أكثر من مكان، وهنا تصبح فرصة شفاء المنطقة من السرطان الأمريكي محدودة وتحتاج إلى معارك من أنواع أخرى يبدو أن النظام العربي ليس مستعدا لها، بل لعله في كثير من الأحيان هو من يمد في عمر الهيمنة الأمريكية على قرار العرب وواقعهم، ورغم ذلك فإن الصيرورة تسير بالهيمنة الأمريكية إلى الانحسار شيئا فشيئا رغم قسوة الراهن وصعوبته.. تولانا الله برحمته.
صالح عوض
23/11/2017