العقل الإسلامي وإشكاليات النهوض الحضاري
×××××
عزالدين عناية*
ثمة مفارقة يشهدها تاريخنا الراهن تسترعي الانتباه.في الوقت الذي تعيش فيه الساحة العربية والإسلامية حالة من التأزم المريع مشوبة بالتشظي والتناحر والتهجير والاحتراب الطائفي،بسبب الدين والمذهب في مجتمعات عدة، يشهدالغرب المسيحي بشقّيه الكاثوليكي والبروتستانتيتقاربا وتكاملا باتجاه مسعى مسكوني. ففي موفى شهر أكتوبر القادم،وتحديدا في الحادي والثلاثين،تحل الذكرى المئوية الخامسة لحدث الانشقاق العظيم الذي شهدته أوروبا بسبب حركة الاحتجاج/الإصلاح، يتحول بموجبها بابا الكنيسة الكاثوليكية فرانسيس برغوليو إلى سويسرا رفقة سكرتير المجلس البابوي المونسنيور بريان فايل (Brian Farrell)،لدعم أواصر وحدة المسيحيينوإعلان بدء فعاليات المصالحةبقصد دفن اتهامات الفتنة ورأب الصدع،وبقصد التوجه فيمسار مسكوني جامع نحو أنجلة العالم.وما شهدته أوروبا جراء الفتنة البروتستانتيةصدعٌرهيبٌهزّ الغرب تخلّلته معاناة طويلة ودامية، لعلّ أبرزها حرب الثلاثين سنة (1618/1648م) التي انتهتبعقد صلح أوغسبورغ بين الأطراف المتنازعة، الذي تمخض عن قاعدة (cuius regio eiusreligio)، أي أن كل حاكم يقرّ دين رعاياه بمعزل عما تمليه عليه كنيسة روما، وهو ما تطور لاحقا إلىبلورة "إيتيقا اجتماعية"تقوم على إجلال كرامة الكائن البشري وترسيخ مبدأ التسامح وإقرار حرية المعتقد.يتحول رأس الكنيسة فرانسيس إلى سويسرا–إحدى معاقل حركة الاحتجاج- بقصد إعلان وثيقة مشتركة بين الفرقاء بعنوان "من الصراع إلى الوحدة" كخلاصة لأعمال اللجنة العالمية للحوار بين الكاثوليك واللوثريين، ولترسيخ فعلي لما ألغاه مجمع الفاتيكان الثانيعن إخوة الدين من نعت البروتستانت بـ"الهراطقة"،بسبب الأطروحات الخمس والتسعين للوثر التي أعلنهاعلى كاتدرائية فيتنبيرغ سنة 1517.
بعد هذه اللفتة الخاطفة عمّا نغرق فيه نحن وما يسير فيه الآخرون، أعود إلى موضوع المداخلة الأساسي "العقل الإسلامي وإشكالية النهوض الحضاري". أقول يستعصي بناء وحدة، أيا كان شكلها، في ظل غياب أسس جامعة وقواعد ناظمة. والوحدة الحضارية الإسلامية المنشودة هي ضربٌ من تلك الوحدات، التي يتعذّر قيامها ما لم تنبنِ وفق استراتيجية عقلانية واضحة. فلا نزعم أننا أول من استفزّته مسألة الوحدة أو أغوته، ونحن نقف على عديد التجارب السابقة في تاريخنا الإسلامي أو من التجارب العالمية. ففي ظرف تاريخي صعب، تمر به البلاد العربية وما جاورها من البلاد الإسلامية، يتميز بالارتباك والانفراط على كثير من الأصعدة، لم يبق فيها الدين بمنأى عن هذا التشتت؛ بل بات عاملا قويّا في تأجيج هذا التفجر وشحذ التشظي، بما يتناقض كليا مع آمال النهوض الحضاري التي راودت ولازالتالعقول الحية في هذه الأمة مشرقا ومغربا.والوضع الصعب المتميز بالصراع، والاحتقان، والتردي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني إلى حد العفونة، لم يبق فيه العقل الإسلامي، بتجلياته الفقهية والمذهبية والإدراكية، بمنأى عن التسريع في النزول إلى قعر هاوية العبث والتفرقة، بما يتناقض مع لمِّ الشمل والنهوض المنشود، لذلك آثرنا التطرق في مداخلتنا إلى هذاالموضوع تحديدا: "العقل الإسلامي وإشكالية النهوض الحضاري"، باعتباره مربط الفرس في ما نعيشه وما نتطلّع إليه.ذلك أن العقل الإسلاميالمشار إليه هو تلك الحصيلة الحضارية من الإدراك الواعي للوجود،كونه رأسمال النباهة الذي نعوّل عليه في ظرف يطغى عليه الاستحمار بتوصيف المفكر الراحل علي شريعتي[1]. للأسف، العقل الإسلامي تتأكد استقالته عن ذلك الدور القيادي،أو كما يصف الفيلسوف الإيطالي جاني فاتيمو الأمر إصابته بالخمول ناعتا إياه بـ"العقل الخامل". لذلك وجب العودة للتساؤل البديهي: هل هناك عقل إسلامي حضاري اليوم إن كان أثره باهتا؟وفي حالافتقادنا إلى عقل حضاري إسلامي كيف يتولد هذا العقل من ركام حضارة جريحة؟ الأجوبة تبدو سلبية صادمة. فالشيء البارز الذي يتقدماليوم هو التشظي وبالمثل الشيء البارز الذي يتأخّر هو التوحد، وهي دلالات عميقة على غياب استراتيجية جامعة،أو لنقل على غياب آلة ناظمة،هي في وضعنا ذلك الأعدل توزعا بين الناس ألا وهو العقل. وعودة إلى ذلك العقل الحضاري الخامل،أو التائه،الذي أشرنا إليه آنفا، نتساءل اليوم عن دواعي تعثّرمجمل الأطراف الأكاديميةوالدينية،والمكونات السياسية والمذهبية، والمجامع الفقهية والمراكز البحثية، المستندة إلى المنظور الإسلامي، في بلورة نهج حضاري فاعل؟ لاشك أن ثمة خللا بنيويا في رؤية من يتمثّل نفسه وصيا،أو معنيا،بالعقل الإسلامي في فهم الوجود الكوني.
فمن المراوغة الحديث عن وعود نهوض إذا ما كانتمسارات النهوض الحضاري مختلة أو تعاني انسدادا، وآلة الدفع المركزية في العملية -كما يتراءى لنا- تشكو عطلا. وبكون حديثنا يدور تحترعايةمعقل علمي تاريخي بحجم الجامعة الزيتونية ورمزيتها،آثرناأن يكون حديثنافي مداخلتنامتركزا في المسألة المعرفية وفي الرأسمال المعرفي الذي تقف عليه هذه الجامعة ونظيراتها من الجامعات التاريخية مثل القرويين والنجف والأزهر. فهل العقل الأكاديمي الإسلامي النابع من هذه الجامعات يتموضع داخل التاريخ أم على هامشه؟ في عمق تفاعلات الأحداث أم في فقاقيع غثائها؟ وكل مؤسسة إسلامية من المؤسسات التي ذكرنا تزعم أنها وصية على الإرث الديني الإسلامي وعلى ترويج الترجمة الصائبة له. والحال أن المخزون التراثي الذي تشتغل عليه، في شتى فروع المعارف التي تقدّمها من علوم القرآن إلى علوم الحديث، ومن الفقه إلى أصوله، ومن علم الكلام إلى علم التصوف، وغيرها مثل علوم المقاصد والتفسير ينبغي أن يُطرح فيها سؤال الجدوى والإضافة إلى الإنسان. نقول ذلك لأن عاهة الاغتراب هي للأسف داء عضال سرعان ما يعتري اللاهوت وفق ملاحظةغوستافو غوتيراز[2]. فيتحول الحديث في الدين (وهنا نقصد العلوم الإسلامية الكلاسيكية المشار إليها آنفا) إلى خطاب في فراق مع قضايا الإنسان، الذي ما خلقه الله للسّبت ولكن خلق السبت لأجله، بحسب ذلك القول المأثور عن المسيح (عليه السلام). فكل علم شرعي أو لاهوتي، ليس له ارتباط بالواقع من حيث التأثر والتأثير فيه، هو لغوٌ ينبغي التخفف منه. ذلك أن المعارف الفاعلة هي المعارف التي تمليها الحاجة الحضارية،ولذلك وجب على الدارس المؤمن والذي يحمل همَّ حضارته وقضايا دينه أن يتحلّى بالشجاعة والصدق ويقرّ أوليس جل المعارف التي بحوزتنا، وفق المنهج الذي تدرَّس به، وتُعبَّأ به عقول الناشئة معارف انتهت صلاحيتها؟لذلك نحن لا نحتاج اليوم، بموجب مستلزمات رصّ صفوف الوحدة الإسلاميةإلى تدريس الفقه الجعفري جنب الفقه المالكي، أو استحضار "تفسير الميزان" للعلامة الطباطبائي جنب "التحرير والتنوير" للشيخ ابن عاشور؛ ولكن نحن بحاجة ملحة إلى معرفة علم أصول هذه المعارف: كيف نشأت؟ وضمن أي سياق تطورت؟ وأي إضافة حضارية يمكن أن تسهم بها اليوم لنخرج من ورطتنا الحضارية؟لإيماننا أن كلَّ فكر ديني، وكل علم شرعي، أو علم لاهوتيهو نتاجٌ سياقيٌّ ينشأ ضمن شروط تاريخية محددة. من هذا الباب نرتئي أن النباهةَالمعرفية، شرط تحقيق التحول الحضاري المنشود، مدعوةٌ إلى ترسيخ ما نطلق عليه "سوسيولوجيا المعارف"، التي تتناول علم تشكل تلك العلوم بهدف صوْن وعينا من الاستلاب، وهو ما يعاني المسلم من تبعاته اليوم بحدة، والمتمثل في التحزب إلى تلك المذاهب والرؤى والانحصار عندهادون رويّة، بما يحجب عنه رؤية العالم وحراكه. لكن لسائل أن يسأل عن سوسيولوجيا المعارف التي نطلبها بوصفها سبيل النجاة للخروج من واقعنا المزري، ضمن أي تجديد تتموضع؟ لن نقدر على تأسيس سوسيولوجياالمعارف ما لم ننشغل بترسيخ اهتمامعلميبثلاث مداخل تبدو حاسمة في تشكيل وعينا:
- تاريخ العالم الإسلامي الحديث، وهو المقررالرئيس في أقسامالدراسات الشرقية في الغرب والذي يغيب في جامعاتنا الدينية والمدنية على حد سواء؛
- علم الأديان بالجمع وعلم الدين بالمفرد بالشكل الذي أوضحهبالتتابع الفرنسي ميشال مسلانفي كتابه: "علم الأديان.. مساهمة في التأسيس"[3] والإيطالي جوفاني فيلورامو في كتابه: "ما معنى الدين؟: محاور ومناهج وإشكاليات"[4]؛
- وثالثة الأثافي في تلك المداخل الثلاثة دراسات العالم الغربي أو "الاستغراب" كما سماه البعض، نحوّل عبرهذلك الآخر الغربي، الذي نتدافع معه صباح مساء، إلى وعي علمي.
يا سيداتي سادتي، الهول الذي يجتاح مجتمعاتنا اليوم أمرٌ جلل، فإذا كان فخرُ الملك الآشوري أسرحدون في القرن السابع قبل الميلادوهو يصوّر زحف جيشه الظافر والغازي "أمامه مدينة وخلفه خراب"، فإنّمهمة المنكبِّين على قضاياحضارة الإسلاماليوم على نقيض جيش أسرحدونفقدرُهم "أن بين أيديهم خرابا وعليهم أن يخلّفوا وراءهم مدينة".
* أستاذ بجامعة روما-إيطاليا
والمداخلة ألقيت في مؤتمر دولي نظمته جامعة الزيتونة في تونس بعنوان: "الوحدة من منظور حضاري إسلامي حديث" بتاريخ 14-15 سبتمبر 2017.
[1]النباهة والاستحمار، الدار العالمية للطباعة، بيروت 1984، ص: 39-44.
[2]Gustavo Gutiérrez, Teologia della liberazione. Prospettive, Queriniana 1992, p. 170.
[3] ترجمة: عزالدين عناية، المركز الثقافي العربي، بيروت 2009.
[4]Giovanni Filoramo, Che cos’è la religione. Temi metodi problemi, Einaudi , Torino 2004.