تأملات في رحلة الإيمان والعلم والعمل
تأملات في رحلة الإيمان والعلم والعمل
[date] 2017/08/24
محمد الهادي الحسني
تعبّد الله- العليم الحكيم- المسلمين بعدة أنواع من العبادات، وهي تتميز ببعدين: بعد فردي، وبعد اجتماعي.
فأما البعد الفردي للعبادات فغايته تربية المسلم تربية روحية، وتهذيب سلوكه، وترهيف شعوره، وترقيق قلبه، وتليين نفسه، فيمشي على الأرض هونا، ويكظم الغيظ، ويعفو عن الناس، ويعرض عن الجاهلين، ويمر باللغو كريما. كما تزود هذه العبادات المسلم بطاقة معنوية كبيرة، تمكنه من مواجهة مصاعب الحياة، والتغلب على مشكلاتها بصبر وتعقل، وتجنبه الاضطرابات النفسية والتوترات العصبية، وترفعه إلى درجة "النفس المطمئنة". ولعل هذا ما يفسر قلة نسبة الانتحار بين المسلمين، بالرغم من معيشتهم الضنك، والاضطرابات الاجتماعية والتوترات السياسية.
فالصلاة تريح المسلم من هموم الحياة، أو تخففها عنه، إذ تربطه بالمطلق، وتحرره من النسبي. وكان رسول الله –عليه الصلاة والسلام- يهرع إلى الصلاة كلما حزبه أمر، ويقول لصاحبه – رضي الله عنه: "أرحنا بها يا بلال".
والزكاة أنجع دواء يستشفى به من داء البخل، ويطرد به الخوف من الإملاق واقعا أو متوقعا. والصوم تحرير للمسلم من الشهوات التي تستعبد الإنسان، وقد تخرجه عن إنسانيته، وتلحقه بالأنعام العجماوات، وهو تدريب على التقوى التي هي خير الزاد.
والحج امتحان لعزيمة المسلم لما فيه من مشقة وعسر، ولذلك جعله الله – اللطيف الخبير- مرة في العمر. ولولا هذه العزيمة لما أقدم المسلم باختياره على ترك أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، ولما تشجع على ترك أمواله، ومغادرة بلاده للقيام برحلة شاقة، مضنية – رغم التسهيلات- قد لا يعود منها- وقد لاحظ المسلم الألماني، مراد هوفمان، صبر المسلم على ذلك كله فقال: "إن الصبر هو أفضل فضائل الحج". (هوفمان: الطريق إلى مكة. ص 10).
وأما البعد الاجتماعي فهو المقصد الأسمى للعبادات الإسلامية، لأن مثل المسلمين الحقيقيين كمثل الجسد الواحد. فالإسلام ينشئ المسلم على المعنى الاجتماعي، فما أن يصرح قائلا: "أشهد..." (بصيغة المفرد) حتى يصير جزءا من كل. ولو لم يكن المعنى الاجتماعي هو المقصود، فلماذا يعطي الله –عز وجل- للمسلم الذي يصلي مع الجماعة سبعا وعشرين درجة، ويعطى المسلم الذي يصلي منفردا درجة واحدة، مع أن الصلاة هي هي، لا زيادة فيها؟
ويظهر البعد الاجتماعي في عبادات الإسلام كلها، فالصلاة تفرض على المسلمين جميعا التوجه نحو قبلة واحدة، وتعلم المسلم الاصطفاف المستقيم، لأن الله –سبحانه وتعالى- لا ينظر إلى الصف الأعوج، وتحثه على إلصاق كتفه وقدمه بكتف أخيه المسلم وقدمه.. وعندما يقرأ المسلم التحية للخروج من الصلاة، يسلم على النبي – عليه الصلاة والسلام- وعلى نفسه، وعلى عباد الله الصالحين.. ويقول: "السلام عليكم" ولو صلى منفردا.
والزكاة (الشخصية والمالية) تنمي في المسلم روح التكافل الاجتماعي نحو أخيه المسلم، وقد نسبها الله –عز وجل- لمستحقيها من السائلين، والفقراء، والمساكين، والغارمين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب.. ويؤديها المسلم دون حسيب أو رقيب، ويتقبلها المسلم الآخر المحتاج دون حرج من غير أن يعلم مصدرها.. والصوم تذكير للمسلم المكتفي ماديا بما يكابده طول السنة أخوه المسلم الذي لا يجد قوته وقوت من يعول من والدين كبيرين، وزوج، وولد.. فما أرحم الإسلام وأعظمه لو فهمه المسلمون، وراعوه حق رعايته.
وأما الحج فهو التطبيق العملي لمعنى الآية الكريمة "وأن هذه أمتكم أمة واحدة"، حيث يجتمع المسلمون أياما معلومات في أماكن محدودات، وقد جاءوها من أقطار معدودات، أعراقهم، وألوانهم، وألسنتهم وأوضاعهم شتى، ولكن توحدت قلوبهم، وائتلفت أرواحهم.. ولعل هذا بعض الحكمة من إطلاق اسم الحج على سورة من القرآن الكريم، حيث لا توجد سور قرآنية تحمل أسماء العبادات الأخرى.
"الحج جامعة متنقلة" هكذا وصف المسلم الألماني مراد هوفمان الحج، لأن حجاج كل إقليم يجلبون معهم معارفهم، وثقافاتهم، وبضائعهم، ويتبادلون هذه المعارف والثقافات، ويعقدون فيما بينهم الصلات، وكم قرأنا أن الكتاب الفلاني، أو الفكرة الفلانية انتقلا من منطقة إلى أخرى نتيجة لقاء تم في الحج، أو في الطريق إلى الحج، ألم يتعرف الإمامان ابن باديس والإبراهيمي على بعضهما في الحج، ويتفقا هناك على العمل لإقالة الجزائر من عثرتها، وإنهاض شعبها؟
وقد أدركت فرنسا الصليبية هذا البعد في الحج، فمنعت الجزائريين في عهد الحاكم العام دوقيدون من الحج، تحت ذريعة انتشار الأمراض، واحتمال نقلها إلى الجزائر، ولكن الحقيقة هي كما اعترف الفرنسيون أنفسهم "أن التجربة أثبتت أنهم – الجزائريون- يعودون منه- أي الحج- وهم أشد ما يكونون تعصبا، وأقل استعدادا للاستسلام والخضوع لسيطرتنا". (محمد العربي ولد خليفة: المجتمع الجزائري في مخبر الأيديولوجيا الكولونيالية. ص 120).
وحتى عندما كانت فرنسا تسمح للجزائريين بالحج "كانت تحجج في كل سنة بضعة من صنائعها، ترسلهم دعاة ليسبحوا بحمدها، ويوافوها بالأخبار والتقارير". (الإبراهيمي جريدة البصائر في 20-10-1947).
والحجاج الذين كانوا يسافرون برا، وما يزال بعضهم كذلك، يمرون على بلدان متعددة، فيعرفون –كل حسب مبلغه من العلم- تاريخ تلك البلدان وجغرافيتها، وخيراتها، ويشاهدون عمرانها وآثارها، ويحتكون بأهلها فيتعارفون وينقلون عن بعضهم عاداتهم، وتقاليدهم، ومعارفهم.. وكم أثمرت هذه الرحلات من كتب قيمة، تضمنت معلومات هامة، وصارت مصادر لا يستغنى عنها...
فإذا حط الحجيج رحالهم في تلك البقاع الطاهرة تداعت الذكريات الدينية والتاريخية، فيمزجون الذكرى بالذكر، ويصلون النظر بالفكر، فهناك البيت العتيق، أول بيت وضع للناس، وهو يذكرهم بأبي النبوة، إبراهيم – عليه السلام- الذي رفع القواعد من ذلك البيت، وأذن في الناس بالحج، وهناك المسعى الذي يذكرهم بهاجر، وهي تستغيث لإنقاذ وليدها، وهناك زمزم، هذه البئر التي انفجر ماؤها في تلك البقعة القاحلة، ولم ينضب معينها إلى الآن، بالرغم من كثرة ما يمتح منها.. وهناك عرفات الذي يذكرهم بحج رسول الله – عليه الصلاة والسلام- وخطبته التي ودع فيها المسلمين، واستودعهم أمانته، واستشهدهم بعدما أشهد ربهم –عز وجل- على تبليغها، وفي مني يستحضر المسلمون معاني التضحية، كما جسدها سيدانا إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام.
وفي المدينة المنورة يحس المسلمون برهبة وجلال وجمال وهم يقفون أمام ذلك القبر الطاهر، حيث مثوى رسول الله –عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام- وفيها يتذكرون أزواجه الطاهرات وأصحابه الأبرار من المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم أجمعين.. هذا وغيره تحتمله كلمة "ليشهدوا منافع لهم"، الواردة في قوله تعالى لخليله –عليه السلام.. "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم"، سواء كانت هذه المنافع دينية أم دنيوية، أم معنوية.
إن كثيرا من المسلمين لا يحققون– مع الأسف– في حجهم مقاصد الحج، ومقاصد الإسلام عموما من هذا الركن الذي بشر رسول الله –عليه الصلاة والسلام- من أداه على أكمل ما يكون بالرجوع إلى أهله مغفورا له، كيوم ولدته أمه، ولا جزاء له إلا الجنة.
إن كثيرا مما يقع في الحج من مظاهر سيئة وتصرفات شيناء، تؤكد أن أكثر عباداتنا خالية من روحها، ولا تؤدي بما يجب من الإخلاص، ولذلك لم تظهر ثمراتها في معاشنا، وفي شؤوننا الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية..
إن الحج وغيره من أركان الإسلام لن تؤتي المرجوّ من ثمراتها، ولن تحقق المأمول من فوائدها إلا إن أدّيت كما فرضها العزيز الحكيم، وجسدها الرسول الكريم، وكان لبّها الإخلاص، وإن أحسن مكان يعين على استحضار الإخلاص هو تلك البقاع الطاهرة، التي تذكر بيوم الحشر، حيث لا ينجو إلا من أتى الله –سبحانه وتعالى- بقلب سليم..
فاللهم تقبل – بفضلك وكرمك- حج عبادك، وقد جاءوك شعثا غبرا، فأجب دعاءهم، وامنن عليهم، وعلينا جميعا، بغفرانك، ورحمتك التي وسعت كل شيء.. ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، وبما فعل السفهاء منا.. واحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.. واكفنا فساد المفسدين، ومكر الماكرين..