أثر الثقافة ودورها المهم في بناء المجتمع
ما الذي تقصده عندما تقول أنَّ فلاناً مثقف؟، هل تقصد بالضرورة أنه قرأ مئات الكتب؟، أم أنك تقصد تمسكه بنمط معين من العادات اليومية، أو العامة، أو ربما معرفته لكمية كبيرة من المعلومات العامة؟، الثقافة من أكثر المفاهيم التي تتداخل مع مفاهيم أخرى، يختلف معناها، باختلاف ظروف استخدام المصطلح، فصفة الثقافة للفرد، تختلف جذرياً عن صفة الثقافة للمجتمع، كما أن للثقافة فروعها المتعددة، ومواردها الكثيرة.
هذا التعقيد الذي امتاز به المصطلح، أدى إلى تشويش كبير على المعنى، وتعددٍ في التعريفات، والتفسيرات، لكن القدرة على استنباط تعريف واحد، من كل تلك التعريفات لا تبدو مستحيلة، إلا أننا لن نتمكن من كتابة سطرين أو ثلاثة في هذا الصدد، بل نحتاج لمجلدات كثيرة، منها ما هو موجودة بالفعل، كما أن المحاولة مازالت مستمرة لتفسير أبعاد هذا المصطلح.
المعنى اللغوي الواسع لكلمة (ثقافة) أحد أسباب تعقيد المصطلح
في معجم مختار الصحاح، لأبي بكرٍ الرازي، نجد كلمة (ثَقُفَ) بمعنى صار حاذقاً خفيفاً، فهو ثَقْفٌ، على غرار ضَخُمَ، فهو ضَخْمٌ، وثَقِفَ الأمر، أي فهم مقاصده، كما يقال (تَثقيفُ الرماح) أي تسوية رؤوسها، أما في قوله تعالى، في سورة البقرة: "اقتلوهم حيث ثقفتموهم"، بمعنى حيث وجدتموهم، أو عرفتموهم؛ فالكلمة في العربية، تعني المعرفة، والتبصر، كما لا تدل على نوعية هذه المعرفة، أو مصادر استقاءها، إنما هي المعرفة كيفما جاءت، حيث يعتبر المعنى الفضفاض لكلمة (ثَقافة) من العناصر التي ساهمت في تعقيد المصطلح، وتعدد دلالاته، لنجد أنفسنا أمام مئات التعاريف لذات المصطلح، تتفق فيما بينها في بعض النقاط، وتختلف في نقاط أخرى.
أما الكلمة المقابلة في اللغة الإنجليزية، هي (Culture) وفق قاموس أوكسفورد (Oxford Dictionaryy)، تعبر الكلمة عن كل مظاهر الإنجاز الفكري البشري، مجتمعةً، بمعنى آخر، تمثل الثقافة الجانب غير المادي من الحضارة الإنسانية، كما تمتد جذور الكلمة إلى اللاتينية، لتعبر عن التهذيب والاعتناء، كما تشمل النمو والتطور، حيث أن الكلمة (Culture) ما زالت تستخدم للدلالة على الرعاية بالنباتات، وعملية الاستنبات، إضافة إلى الدلالة على تطور الأحياء المجهرية، ونمو الأنسجة النباتية، والحيوانية.
الثقافة كلمة متفق عليها في اللغة، لكنها كمصطلح، من أكثر المصطلحات إثارة للجدل، والخلافات، بين الباحثين اللغة، والأنثروبولوجيا، سنرصد معاً دلالات المصطلح، ومفهومه العام.
يوجد أكثر من مائتي تعريف للثقافة حتى الآن!
حاول الباحثون إيجاد تعريف شامل للثقافة، لكن تلك الجهود لم تصل إلى مرادها، بل أنتجتْ مئات التعريفات، التي اتفقت فيما بينها على بعض النقاط، إلا أنها اختلفت في تفاصيل أخرى، كما أن محاولة الوصول إلى التعريف الشامل، ما تزال جارية حتى الآن، وربما لن تتوقف، سنورد بعض أبرز التحليلات لماهية الثقافة:
معجم مصلحات الثقافة والمجتمع
المعجم من تأليف طوني بينيت (Tony Bennett)، ولورانس غريسبيرغ (lurans Jrysbyrj)، إضافة إلى ميغان موريس (Megan Moores)، ويقدم المعجم مجموعة كبيرة من المصطلحات الثقافية، والاجتماعية، كما يتبع أسلوب عرض وجهات نظر عديدة لكل من تلك المصطلحات، لكن المؤلفين افتتحوا تقديمهم لمصطلح (الثقافة) بشيء من الحيرة، واليأس من الوصول إلى تعريف نهائي، حيث يذكرون:
"وكما تم الإعراب عن المصاعب حول قيمة مفردة الثقافة، فإن مدى السياقات التي تظهر فيها هذه المفردة في الوقت نفسه، صارت تتضارب، تضارباً استثنائياً في السنوات الأخيرة، (...) فالثقافة الخليعة، والثقافة الإباحية، والثقافة السوداء، والثقافات العرقية، وثقافات الشتات، والثقافة العابرة للقومية؛ كلها حالات تصب في هذه النقطة..."
كما يرى المؤلفون، أن الانتقال من المعنى الفردي للثقافة، إلى المعنى الاجتماعي، هو العنصر الأهم في توسيع سياقات استخدام هذه المفردة، وأن هذا الانتقال، والتوسع، بدأ مع نهايات القرن الثامن عشر، وبدايات القرن التاسع عشر، واستمر بشكل كبير وواسع حتى منتصف القرن العشرين، حيث تبلورت معظم استخدامات المصطلح، لتشمل مئات الفئات التي تضاف لها كلمة الثقافة، على غرار الثقافة الجنسية، الثقافة التربوية، والثقافة الاجتماعي، إضافة إلى علم النفس الثقافي...إلخ.
"وقد تأثر الترتيب المادي الكامل لمدنية القرن التاسع عشر، تأثراً جذرياً بهذا المفهوم عن الثقافة، وحراكها كقوة أخلاقية، يمكن من خلالها للأفراد أنّْ يطوروا أنفسهم لتحقيق نوعٍ من الاتزان والكمال..."
يفرد هذا الكتاب اثنتي عشرة صفحةً لهذا المصطلح وحده، يناقش من خلالها التعريفات المختلفة للثقافة، كما يستعرض تطور استخدام المصطلح، وخروجه من الاستخدام اللغوي، إلى الدلالة الاصطلاحية، ثم تعديه حدود الفردية، ليصبح سمة اجتماعية، تميز فئة عن أخرى، من خلال ما تتبعه هذه الفئة من طريقة حياة، وأنماط سلوك عامة.
كتاب الثقافة البدائية
الأنثروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور (1832-1917Edward Burnett Tylor)، هو أحد أبرز علماء الأنثروبولوجيا، بل يعتبر من مؤسسيه، وهو صاحب كتاب الثقافة البدائية (Primitive Culture)، يرى أن الثقافة:
"هي المركب الذي يتكون من المعرفة، والاعتقاد، والفن، والأخلاق، والقانون، والأعراف، إضافة إلى كل الملكات الأخرى، والعادات التي يكتسبها الإنسان، من حيث هو عضو في المجتمع"
كتاب تاريخ الثقافة العالمية
تشيكالوف (Chekalov) وكوندراشوف (kundrashuf)، في كتابهما (تاريخ الثقافة العالمية) عام2011، توصلا بعد استعراض عدة آراء لعلماء بارزين، إلى أن الثقافة لها منهج محدد، يقوم على ثلاثة عناصر أساسية، أولها السلوك، (بناء على تعريف تايلور السابق)، وثانيها الاستمرارية، وآخرها التراكم، حيث أن الثقافة لا تنتهي بمجرد انتاج أحد وجوهها، بل لا بد من عملية تراكمية:
"بصفة عامة يمكننا القول، أن مفهوم الثقافة، يتضمن منهج السلوك، والاستمرارية، والتراكم، (...) إذن يمكن القول، أن الثقافة تفترض نقلاً غير جيني، للخبرة من فرد لآخر، ويجب أن تكون هذه الخبرة مثبتة في بنى مادية، غير بيولوجية، على غرار الكتب، والرسوم...إلخ"
يحصل الفرد المثقف على مركزٍ اجتماعي مميز
مما سبق؛ يمكن رصد تطور المصطلح (الثقافة، المثقف) من خلال نقطة تحول أساسية، تتمثل في توسع استخدام المصطلح، من استخداماته الفردية، إلى استخداماته العامة، لكن ما الذي نقصده بالقول أن فلاناً مثقف؟.
ترتبط صفة المثقف بالمعرفة، حيث يُعتبر كل العاملين في الشؤون المعرفية، من الطبقة المثقفة، كالكتاب، والشعراء، والمخرجيين، والممثلين...، كما نجد أن هذه الصفة، تكسب صاحبها احتراماً اجتماعياً، حيث تعتبر الطبقة المثقفة، مسؤولةً بشكلٍ مباشر، عن المساهمة في تطوير الثقافة العامة في المجتمع، وتحمل على عاتقها، الهموم الاجتماعية للناس، المعيشية منها، والسياسية، والدينية...إلخ.
كما سيحاسب المجتمع المثقف في حال تقاعسه، أو اتخاذه موقفاً لا يتسق مع مواقفه السابقة، لأن المجتمع ينظر إلى المثقف كمدافع عنه، وحافظٍ لوجوده الحضاري، بينما لا يحفل الناس، بتغير مواقف السياسيين، لأن هذا هو عملهم، ولا بد من الإشارة؛ إلى أن الثقافة على المستوى الفردي، لا ترتبط بالشهرة، أو الإنتاج الإبداعي، بل ترتبط بالمعرفة، حيث أن الإلمام بمواضيع عديدة، سيجعل من الفرد مثقفاً، حتى وإن لم يقدم منتجاً.
إذاَ... المؤلفات المذكورة سابقاً، والتي تعتبر من أبرز المؤلفات التي ناقشت مفهوم الثقافة، تقدم صورة واضحة نسبياً، عن حقيقة مفهوم الثقافة، وعن الاستخدامات الاصطلاحية للكلمة.
الثقافة والمجتمع
كما ذكرنا؛ فإن انتقال المصطلح، من الاستخدام الفردي، إلى الاستخدام الجماعي، قد ساهم كثيراً في تعقيد المصطلح، وتشعب دلالاته، حيث أن الثقافة للفرد ترتبط بالمعرفة، لكن الثقافة بالنسبة إلى المجتمع ترتبط بالمميزات الاجتماعية، بعيداً عن كونها معرفية، حيث يمكن اعتبار العادات والتقاليد، كعادات الزواج، جزء من ثقافة المجتمع، كما يمكن اعتبار أسلوب تعامل المجتمع مع الأجانب، دالاً على ثقافته، إضافة إلى المقياس المعرفي، كالكتب، والتاريخ، والحركة المسرحية، أو السينمائية، كلها تدخل ضمن المؤشرات الثقافية للمجتمع.
هذا التشعب في الاستخدام الاجتماعي لصفة الثقافة، أدى إلى ظهور سياقات كثيرة، وتقسيمات عديدة، كان أبرزها، الثقافات القومية، ومثقفي البروليتاريا، إضافة إلى صراع الثقافة الرأسمالية، والثقافة الاشتراكية، فضلاً عن مصطلحات كثيرة، كالثقافة الاستهلاكية، وثقافة التسامح، وثقافة الانترنت....إلخ، لكن؛ ما هو دور الثقافة في المجتمع؟
دور الثقافة في المجتمع
يناقش الباحثون ماهية عمل الثقافة في تطوير المجتمع، وتنميته، كما يبحثون عن الدور الذي تلعبه الثقافة في النهضة الحضارية الشاملة لأمة من الأمم، لكن المتفق عليه، أن النهضة الثقافية لا يمكن لها أن تُحدث التغيير الذي يرجوه المثقفون، أو العامة، إلا إذا ترافقت مع نهضة عامة في مجالات أخرى.
حيث لا يمكن الفصل بين النهضة الثقافية، والنهضة الأخلاقية، والاقتصادية، إضافة إلى النهضة العسكرية، والاجتماعية، بل تعتبر الثقافة، محصلةً لكل أوجه النهضة تلك، لكن لا يمكن اعتبارها مقياساً مستقلاً للتقدم، أو التحضر، حيث أنها في حال تقهقر الأمة في المجالات الباقية، لا تعدو كونها انتاجات فريدة، ينسبها المجتمع إلى نفسه، ليتمكن من التصالح مع تخلفه في مجالات أخرى، أما النهضة الثقافية الجماعية، تكون مترافقة مع نهضة عامة، في كل المجالات، كما أن مجالاً قد يسبق الآخر، ببضع خطوات، لكن خط السير واحد، ومن هنا نستطيع أن ننفي الدور المبالغ فيه للثقافة، والمثقفين في صناعة التقدم منفردين، دون أن يكون هناك بنية نهضوية متكاملة.
من جانب آخر، فإن نمو الوعي التاريخي لدى الإنسان، خاصة مع نهايات القرن السابع عشر، أدى إلى الرغبة بالتعرف على الثقافات المختلفة، كما أنتج هذا الوعي، الفكرة السائدة التي تقول: "إن البشرية جمعاء، كانت تخضع (وما تزال) لعملية تربية، وتثقيف، شبيهة بالتي يخضع لها الفرد في حياته"، أي أن المكتسبات الثقافية للإنسانية كلها، هي مكتسبات تراكمية، تؤدي إلى تغير وعي الجماعة البشرية كلها في بعض الأمور، حسب مجريات التاريخ، ويمكن تتبع ردة فعل المجتمع الياباني، بعد تعرضه لكارثة القنبلة النووية، حيث تغيرت وجهة نظر شعب كامل في الحياة، نتيجة تعرضه لصدمة حضارية.
أخيراً... لا يمكن إنكار دور الثقافة والمثقفين، في بناء وتطوير الوعي العام للمجتمعات، لكن في نفس الوقت، لا يجب تحميلهم أكثر مما يحتملون، حيث أن الجهود الرامية إلى التقدم، هي جهود جماعية، يحمل مسؤوليتها المثقف، والسياسي، والتاجر، إضافة إلى العمال، وأرباب العمل ...إلخ، وكل أفراد المجتمع، لتأتي المنتجات الثقافية، كتعبير عن تلك النهضة، التي أحدثها المجتمع في بنيته.