التَّقَارُض اللُّغـوِيِّ
ظَاهِرَةُ التَّقَارُضِ اللُّغـوِيِّ
التَّقارضُ هو:" أَنْ تتبادلَ الكَلمتانِ حُكْماً خَاصًّا بهما؛ بمعنى أنْ تُعْطِي كُلٌّ منهما الأُخْرَى حُكْمًا مُساوِياً لِمَا أَخَذَتْهُ مَنْهَا". أو"هو أن يتبادلِ لفظانِ أَهَمَّ صِفَاتِهِمَا أَوْ عملهما، ويجري كُلُّ منهما مَجْرَى الآخر" أو "هو أن يجري أحدُ اللَّفظين مَجْرَى الآخر في إعماله أو إهماله والعكس صحيحٌ"(1). ويقولُ ابن يعيش:" التَّقارُضُ هو أَنَّ كُلَّ واحــــــدٍ منهما يَستعيرُ مِنْ الآخر حُكماً هـــو أخصُّ به "(2).
ويقعُ التَّقارضُ فِي الحُرُوفِ والأفْعالِ والأَسْماءِ، وقَدْ ذكرَ ابن هشام هذه الظَّاهرةَ فِي الْمُغنِي، ومن ذلك قوله :"القَاعِدَةُ الحَادِيَة عَشْرَة: مِنْ مُلَحِ كلامِهِمْ تَقَارُضُ اللَّفظينِ فِي الأَحْكَامِ"(3) ، وذكر أمثلة لها، منها :
1-(تقارُضُ غَيْرِ وإلاّ): فتُعطى (غَيْرُ) حُكْمَ (إلاّ) في الاستثناء بها؛ نحو قوله تعالى:(لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ)[النساء:95] فِيْمَنْ نَصَبَ (غيرَ). وتُعْطَي (إلاّ) حُكْمَ (غير) في الوصف بها؛ كقوله تعالى:?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا? [الأنبياء:22] فـــ(إلاّ) في الآية صِفَةٌ لِلنَّكرةِ قبلها (آلهة) بمعنى (غير)؛ أي: لو كان فيهما آلهة غيرُ الله . ومنه قول الشاعر:
وكلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوْهُ لَعَمْرُ أَبِيْكَ إلاّ اَلْفَرْقَدَانِ
أي : وكلُّ أخ غيرُ الفرقدين مُفارقه أخوه .
2-تقارض( أنْ المصدرية وما المصدرية ) : فتُعطى (أنْ) المصدرية حكم (ما) في الإهمال ؛ ومنه قراءة ابن مُحيصن : ( لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ ) [البقرة: 233] برفع (يتمُّ) . ومنه قو الشاعر:
أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا مِنِّي اَلسَّلاَمَ وَأَلاَّ تُشْعِرَا أَحَدَا
وتُعطى (ما) المصدرية حكم (أنْ) في الإعمال، كما رُوي من قوله صلى الله عليه وسلم:« كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ» بحذف النون من (تكونوا).
3- تقارض ( إنْ الشرطية ولو): فتُعطى (إنْ) الشَّرطيَّةُ حكم (لو) في الإهمال، كما روي في الحديث:«فَإِنْ لا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». وتُعطى (لو) حكم (إنْ) الشرطية فيُجزمُ بها. ومنه قول الشاعر:
لَوْ يَشَأْ طَارَ بِهَا ذُو مَيْعةٍ لاحقُ الآطَالِ نَهْدٌ ذُو خُصَلْ
4- تقارض ( ما النافية وليس) : فتُعطى (ما) النافية حكم (ليس) في الإعمال ، وهي لغة أهل الحجاز كقوله تعالى : (مَا هَذَا بَشَرًا ) [يوسف: 31] . وتُعطى (ليس) حكم (ما) في الإهمال عند انتقاض نفيها بإلاّ ؛ كقولهم:« ليس الطيبُ إلاّ المسكُ»، وهي لغة بني تميم.
ويُعلل ابن جني هذه الظَّاهرةَ بأنَّ السرَّ فيها توثيقُ الشَّبهِ بَيْنَ الصِّيغتينِ المُتقارضتينِ، فقال في الخصائص:"وهذه عادَةٌ مَألوفةٌ، وَسُنَّةٌ مَسْلوكةٌ: إِذَا أَعْطُوا شيئًا مِنْ شَيْءٍ حُكْمًا قَابلُوا ذلك بأَنْ يُعطُـوا المَأخُوذَ منه حُكمًا مِنْ أَحْكَامِ صاحِبِهِ، عِمَارةً لبينهما وتتميمًا للشَّبهِ الجَامِعِ لَهُمَا".(4)
ويمكن متابعة هذه الظاهرة في كتب التراث النحوي واللغوي
وكتاب الدكتور عبد الله أحمد جاد الكريم (ظاهرة التقارض في الدرس النحوي)
والله الموفق والمستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر : مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ، لابن هشام الأنصاري ، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت (2/697)، والأشباه والنظائر ، للسيوطي (1/296) ، وظاهرة التقارض في الدرس النحوي ، لعبد الله جاد الكريم ، مكتبة الآداب ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 2002م (ص11) وما بعدها .
(2) شرح المفصل (2/88)، وينظر: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، للزمخشري، تحقيق : عبد الرزاق المهدي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، (2/5/62).
(3) ينظر : مغني اللبيب ، لابن هشام (2/697).
(4) الخصائص ، لابن جني (1/69).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة التقارض في الدرس النحوي
د . عبد الله جاد الكريم