فضاءات واد زهور

واد زهور

فضاء التربية والتعليم

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
kenefkamel
مسجــل منــــذ: 2013-02-10
مجموع النقط: 27.53
إعلانات


وقف المساجد ودوره في تعزيز التقدم الثقافي والعلمي

أولا: وظيفة المسجد في الإسلام: ليس المسجد في الإسلام مكاناً للعبادة فحسب، بل إن له إلى جانب ذلك دوراً بالغ الأهمية، في التنشئة الثقافية، والفكرية، والعلمية، والتقدم المعرفي، إضافة إلى كونه مصدر إشعاع تربوي واجتماعي. وهذا الدور للمسجد يتعاضد مع دور الأسرة والمدرسة والمؤسسات الأخرى.
فمِنَ المسجد تشع الثقافة الإسلامية الأصيلة، ويُعزَّز التقدم المعرفي، وينبعث الوعي الديني، ويُعرَف الحلال والحرام، وبخاصة مع كثرة وسائل الإعلام المضللة.
وفيه تُعرَف فضائل الإسلام وآدابه وأحكامه، ويجد المسلم القدوة الحسنة، ويحاكي الصالحين الأبرار، ويتعلَّم ضبط النفس، والصبر على الشدائد، والتحلي بالأمانة والعفَّة، وتحمُّل المسؤولية بعزم ورجولة، والحرص على الانضباط الاجتماعي، والاهتمام بالنظافة، وتعوُّد النظام… وفيه يعرف الفرد وظيفته في المجتمع، ودوره في الحياة، وعلاقته بالأسرة والجيران والأصحاب، كلُّ ذلك من خلال ما يسمعه ويراه من كلام المتحدثين في الخُطَب والمواعظ والدروس العلمية، في المواسم والمناسبات اليومية والأسبوعية وفي غيرها …. لذا كان المسجد موضعَ الاهتمام المبكِّر من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي حثَّ علـى بناء المساجد، ورغب في إعمارها بالعبادة والتعلُّم والتعليم …
ثانيا :وقف المساجد في العهد النبوي: يعتبر مسجد قُباء في التاريخ الإسلامي أول مسجد يُبْنى ويوقف في سبيل الله، لأن النبي صلى - صلى الله عليه وسلم - أسَّسه حال قدومه مهاجراً من مكة إلى المدينة، وذلك قبل أن يدخلها و يستقر بها.
ثم قام ببناء المسجد النبوي عند مَبْرَك ناقته، وكان المكان أرضاً لبني النجار، فأراد أن يدفع لهم ثمنها فقالوا: ( لا، واللهِ لا نطلب ثمنه إلاَّ إلى الله … ).
ثالثاً: دور المسجد النبوي في العصر الأول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعقد حلقات العلم في مسجده، ومن خلالها يُنمِّي ذهنيات أصحابه، ويرتقي بمستوياتهم المعرفية والسلوكية، ويغرس فيهم الآداب والفضائل والقيم الخيِّرة. قال صفوان بن عسَّال المُرادي - رضي الله عنه -: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهـو في المسـجد، فقلتُ له: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إني جئتُ أطلب العلم، فقـال: " مرحباً بطالب العلم، إنَّ طالب العلم تَحفُّه الملائكـة بأجنحتها ".
وقال أبو واقد الليْثي - رضي الله عنه - بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد، فوقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمَّا أحدهما فرأى فُرْجَة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم. فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ أمَّا أحدُهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرضَ، فأعرضَ اللهُ عنه"
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه – "أنه مرَّ بسوق المدينة فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق، ما أعجزََكم! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقْسَم وأنتم ها هنا؟ ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سِراعاً، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لَكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فيه، فلم نرَ فيه شيئاً يقسم! فقال لهم: وما رأيتم في المسجد أحداً؟ قالوا: بلى، رأينا قوماً يُصلُّون، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم، فذاك ميراث محمد - صلى الله عليه وسلم ".
وإضافة إلى هذه الحلقات العلمية التي كانت تُعقَد في المسجد النبوي، كانت هناك خطبُ الجُمَع، والأعياد، والمناسبات، التي كانت تطرأ على المجتمع الإسلامي، فيعالجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه ومن بعدهم، بالإرشاد والتوجيه والتوعية والتعليم والتثقيف …
وكم خرَّج المسجد النبوي من صحابة وتابعين، وما زال يخرج علماء ومدرسين، في شتى فروع المعرفة، انتشر كثير منهم في أرجاء الأرض يبلِّغون الديـن ويعلِّمون الناس، ويغرسون الفضائل والقيم، ويسهمون في تعزيز التقدم المعرفي، والارتقاء بعقول الأفراد وتنمية المجتمعات…
رابعاً: إقبال السلف على بناء المساجد وتعزيز دورها: قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتاً في الجنة ". وفي ضوء هذا الترغيب يمكن اعتبار المساجد من أهم وأول المؤسسات الخيرية الوقفية، التي اهتم بها المسلمون عبر عصورهم الممتدة، فقد أقبلوا على بنائها ووقفها بحماس وسخاء، وإنك لا تجد مدينة أو بلدة أو قرية فيها مسلمون، إلا ويسارعون في بناء المساجد أوَّلاً، ويجعلونها وقفاً لله تعالى عن رغبة واختيار، طمعاً في عظيم ثواب الله…
ومن أشهر المساجد في تاريخ الإسلام بعد المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، الجامعُ الأموي بدمشق، الذي أنفق فيه الوليد بن عبد الملك الخليفة الأمــوي أموالاً طائلة، مما لا يكاد يصدِّقه الإنسـان. وقد كان لوقوع هـذا الجامع في مدينة دمشق، التي كانت تُعدُّ مركزاً ثقافياً وعلمياً مهماً خلال فترات طويلة من تاريخ الإسلام، أكبر الأثر في تعزيز التقدم المعرفي وتنمية الحركة العلمية فيه، واستخدامه في الأغراض التعليمية، حيث كانت _ ولا تزال _ تعقد فيه الحلقات العلمية والوعظية والتثقيفية التي تُسهم في الارتقاء الفكري والمعرفي فضلاً عن النمو السلوكي في حياة الناس.
وكم تردَّد على هذا المسجد الجامع من علماء أفذاذ، وطلاب علم، ملؤوا الدنيا خيْراً وبِرَّاً، وفضلاً وعِلْماً، ومعرفة وثقافة، وتصنيفاً وتحقيقاً …
ومن المساجد المشهورة في تاريخ الإسلام أيضاً: الجامعُ الأزهر في القاهرة، الذي كان _ ولا يزال _ يقصده طلاب العلم والمعرفة من شتى الأقطار والبلدان، لينهلوا من علوم الشريعة والعربية ومن العلوم الإنسانية والتطبيقية …
ومن المساجد المشهورة أيضاً: جامعا القيروان والزيتونة بتونس، وجامع القَرويِّين بالمغرب، وجامع نيْسَابور ـ في شرقي إيران اليوم ـ وجامع هرات في غربي أفغانستان، وجامع قُرْطبة في الأندلس، وغير ذلك مما هو منتشر في أصقاع بلاد الإسلام قديماً وحديثاً .
وقـد ذُكـر أن عـدد مسـاجد مدينـة قرطبـة الأندلسية ـ بأسبانيا اليوم ـ في القرن الثالث الهجري _ التاسع الميلادي _ بلغ ستمائة مسجد.
خامساً: إقبال المسلمين اليوم على إعمار المساجد وتعزيز دورها: لا يزال المسلمون ـ بحمد الله تعالى ـ إلى اليوم يُدركون أثر المسجد في تكوين الشخصية المسلمة، المتكاملة في جوانبها المعرفية والروحية والسلوكية، الخاصة والعامة، التي تُمارِس دورَها التنموي الفاعل في الحياة، ولهذا حرصت كثير من الدول الإسلامية، ومنها المملكة العربية السعودية على الإكثار من إشادة المساجد وبنائها في عموم مدن المملكة وبلْداتها وقراها، وفي خارج المملكة في البلدان الإسلامية، وفي غيرها في قارات أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا، والقيام على رعايتها مادياً ومعنوياً، وتعزيز دورها العلمي والثقافي والمعرفي.
ومن الجدير هنا: الإشارة أيضاً إلى النهضة الكبيرة التي شهدتها وتشهدها حلقات دراسة وتحفيظ القرآن الكريم، ودراسة اللغة العربية وغيرها من العلوم، التي تُعقَد في كثير من مسـاجد البلاد الإسلامية، وفي مقدِّمتها المملكة العربية السعودية، التي كان لها أوفر نصيب في هذا المجال، حيث بلغ عدد تلك الحلقات المنتشرة في عموم المُدن والبَلْدات والقرى الآلاف، بل عشرات الآلاف، وأقبل عليها الغِلْمان والشباب في كافة مراحلهم الدراسية والعُمْريَّة، مما كان له الأثر الفعَّال في تعزيز التقدم الثقافي والمعرفي الديني، فضلاً عن تنمية سلوكهم الأخلاقي والمجتمعي، واستثمار طاقاتهم وإمكاناتهم في طلب العلم والمعرفة، وفي العمل الجماعي المنتج، بدلاً من إفنائها وتضييعها في مسالك اللهو والانحراف والجريمة، كما هو مشاهد في بعض البلدان...
هذا، وقد حرصت أيضاً الجاليات المسـلمة المقيمة في غير البلاد الإسلامية على بناء المساجد ووقْفهـا، حتى بلغ عددها في هولندا ـ مثلاً ـ ثمانية عشر مسجداً، بل بلـغ عددُها في مدينة بروكسـل - وحدها- عاصمة بلجيكا عشـرين مسجداً، وذلك من أجل إفساح المجال أمام المساجد في أداء وظيفتها في تعزيز التقدم المعرفي للمسلمين هناك، وتحقيق أهداف تلك الجاليات الإسلامية في الحفاظ على الهوية الإسلامية، وأداء الواجبات الدينية، وبعث الفكر الديني الرشيد، ونشر الأحكام والفضائل الإسلامية، وتنمية السلوك الفردي والمجتمعي في نفوس المسلمين هناك، الذين تتزايد أعدادهم في تلك الأصقاع، إضافة إلى سعيهم الصادق إلى حفظ أولادهم وصيانتهم عن المفاسد والانحراف في تلك البيئات الفاتنة، وملء بعض أوقاتهم بالتردُّد على تلك المساجد، والإفادة منها في دراسة وحفظ القرآن الكريم ودراسة العلوم الأخرى المتاحة كالعربية والرياضيات والعلوم واللغات، والاستماع إلى المحاضرات والندوات، والمشاركة في اللقاءات، والنشاطات، والمسابقات الثقافية والاجتماعية والترفيهية، التي تعقد في تلك المساجد والمراكز الإسلامية...
سادساً: الوقف على مستلزمات المساجد: تحتاج المساجد إلى دعائم بشرية تُسهم في التنمية الدينية والعلمية وتعزيز التقدم المعرفي، وتتفرغ لحراسة العقيدة ورعاية الشعائر الإسلامية، وتبذل العلم والمعرفة لطلابهما.
وقـد أدرك المحسنون من المسـلمين ـ قديماً وحديثاً ـ هـذه المعاني، فوقفـوا الأموال الكثيـرة _ المنقولة وغير المنقولة _ على أئمة المسـاجد وخطبائها والمعلمين والمؤذنين فيها، وقفـوا على طـلاب العلم الذيـن يَجْلسـون في حلقاتها الدراسـية، وعلى القائمين برعايتها وإضاءتها وتنظيفها … ويسَّروا للجميع أسباب السكنى والمعيشة، لضمان استمرارهم في أداء رسالتهم وتحقيق مزيد من التنمية العلمية والمعرفية، وإيجاد الفرد الصالح في شتى ميوله واتجاهاته.
وقد ذُكِر أن مئات الآلاف من دنانير الذهب، وُقفت مراراً عبر العصور الإسلامية على خطباء المساجد وأئمتها، وعلى المعلمين والطلاب والمؤذنين فيها، وعلى الفرَّاشين والموظَّفين الآخرين.
كما وُجِّهت كثير من الأموال الموقوفة إلى بناء المساجد وترميمها، وشراء ما يلزمها من طنافس، وسُرُج، وقناديل، وشموع، وسُتور توضع على الأبواب والنوافذ، لتُيسِّر العبادات على المصلين، وتمكِّن الأساتذة والطلاب من التعليم والتعلُّم والوعظ والإرشاد. يضاف إلى هذا وقف الآبار، وأحواض المياه، وأماكن الطهارة وأدواتها من أباريق ونحوها....
ولا يخفى أن هذه الصور الكريمة لا تزال تتجدَّد اليوم في مجتمعاتنا المعاصـرة، من خلال إقبال الحكومات، والأثرياء من المسـلمين ـ بل الأفراد العاديين من المسلمين ـ على التبرع للمساجد والإسهام في الوقف على مستلزماتها واحتياجاتها.
إن الصور والحالات السابق ذكرها في الوقف على المساجد ومستلزماتها البشرية وغيرها، أسهمت إسهاماً حقيقياً في إيجاد الوعي الثقافي، وتنشيط الحركة العلمية، وتعزيز التقدُّم المعرفي، ونشر القيم الدينية والأخلاقية، فكان الناس ولا يزالون يقبلون على المســاجد ينهلون منها الفضـائل والآداب الاجتماعية، والثقافات والعلوم النافعة، دون أن يعرفوا ظرفاً زمانياً أو مكانياً يحول بينهم وبين التردُّد عليها؛ لترشيد سلوكهم وتنمية عقولهم وعلومهم ومعارفهم وممارساتهم الحياتية، بل كان شعار كل واحد منهم: طلبُ العلم من المهد إلى اللحد.
*أستاذ الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية في جامعة الملك سعود بالرياض.

تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة