عن العربية
قال الثعالبي عن العربية في مقدمة كتابه ( فقه اللغة )
مَنْ أحبَّ الله تعالى أحبَّ رسولَه مُـحمدًا صلى الله عليه وسلم، ومَنْ أحبَّ الرَّسولَ العربيَّ أحبَّ العربَ، ومَنْ أحبَّ العربَ أحبَّ العربيَّةَ التي بها نزلَ أفضلُ الكُتُبِ على أَفْضَلِ العَجَمِ والعَرَبِ، ومَنْ أحبَّ العربيَّة عُنيَ بها، وثَابَر عليها، وصرف همَّته إليها، ومَنْ هَدَاهُ الله للإسلام، وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه؛ اعتقد أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم خيرَ الرُّسلَ، والإسلام خير المِلل، والعرب خير الأمم، والعربيةُ خيرُ اللُّغاتَ والألسنة، والإقبال على تفهَّمها من الدِّيانة إذ هي أداة العلم، ومفتاح التَّفقّه في الدِّين، وسبب إصلاح المعاش والمعادِ، ثُـمَّ هي لإحراز الفضائل والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب؛ كالينبوع للماء والزند للنار. ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها والتبحر في جلائها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن وزيادة البصيرة في إثبات النبوة لبتي هي عمدة الإيمان لكفى بهما فضلًا يَحْسُنُ فيهما أثره، ويطيب في الدارين ثمره، فكيف وأيسر ما خصَّها الله عزَّ وجلَّ به من ضروب الممادح يُكِلُّ أقلام الكتبة ويُتعبُ أناملَ الحَسَبَةِ.
ولِمَّا شرَّفها الله تعالى عزَّ اسمه وعظَّمها ورفع خطرها وكرَّمها وأوحى بها إلى خير خلقه، وجعل لسانَ أمينه على وحيه وخلفائه في أرضه، وأراد بقضائها ودوامها حتى تكون في هذه العاجلة لخيار عباده، وفي تلك الآجلة لساكني جنانه ودار ثوابه؛ قيَّض لها حَفَظَةً وخَزَنَةً من خواصِّهِ من خيارِ النَّاسِ وأعيان الفضل وأنجم الأرض؛ تركوا في خِدمتها الشَّهواتِ، وجابُوا الفُلوات، ونادموا لاقتنائها الدفاتر وسامروا القماطر، والمحابر وكدّوا في حصر لغاتها طباعهم، وأشهروا في تقييد شواردها أجفانهم، وأجالوا في نظم قلائدها أفكارهم، وأنفقوا على تخليد كتبها أعمارهم، فعظمت الفائدةُ، وعمَّت المصلحةُ، وتوفّرت العائدة، وكلَّما بدأت معارفها تتنكَّر أو كادت معالمها تتستّر أو عَرَض لها ما يُشبهُ الفترة؛ ردَّ الله تعالى لها الكرَّة، فأهبَّ ريحها، ونفق سوقها؛ بفرد من أفرادِ الدَّهر، أديب ذي صدر رحيب، وقريحة ثاقبة، ودراية صائبة، ونفس سامية، وهمَّة عالية، يحبُّ الأدب، ويتعصَّب للعربية، فيجمع شملها، ويكرم أهلها، ويحرِّك الخواطر الساكنة لإعادة رونقها، ويستثير المحاسن الكامنة في صدور المُتحلِّين بها، ويستدعي التأليفات البارعة في تجديد ما عفا من رسوم طرائفها ولطائفها.