وفود قريش على سيف بن ذي يزن
وفود قريش على سيف بن ذي يزن
.
بعد قتله الحبشة
.
نعيم بن حماد قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري
.
قال : قال ابن عباس : لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة ،
.
وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم ،
.
أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه
.
وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه .
.
فأتاه وفد قريش ، فيهم : عبد المطلب بن هاشم ،
.
وأمية بن عبد شمس ، وأسد بن عبد العزى ،
.
وعبد الله بن جدعان ، فقدموا عليه وهو في قصر له يقال غمدان
.
فطلبوا الإذن عليه ، فأذن لهم ، فدخلوا فوجدوه متضمخاً بالعنبر
.
يلمع وبيص المسك في مفرق رأسه ، وعليه بردان أخضران ،
.
قد ائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر ، وسيفه بين يديه ،
.
والملوك عن يمينه وشماله ، وأبناء الملوك والمقاول .
.
فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام ؛
.
فقال له : قل ؛
.
فقال : إن الله تعالى أيها الملك أحلّك محلّاً رفيعاً ،
.
صعباً منيعاً ، باذجاً شامخاً ، وأنبتك منبتاً طابت أرومته ،
.
وعزت جرثومته ، ونبل أصله ، وبسق فرعه ، في أكرم معدن ،
.
وأطيب موطن ، فأنت - أبيت اللعن - رأس العرب ،
.
وربيعها الذي به تخصب ، وملكها الذي له تنقاد ،
.
وعمودها الذي عليه العماد ، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد ؛
.
سلفك خير سلف ، وأنت لنا بعدهم خير خلف ؛
.
ولن يهلك من أنت خلفه ، ولن يخمل من أنت سلفه .
.
نحن أيها الملك أهل حرم الله وذمته وسدنة بيته ،
.
أشخصنا إليك الذي أنهجك لكشفك الكرب الذي فدحنا ،
.
فنحن وفد التهنئة لا وفود المرزئة .
.
قال : من أنت أيها المتكلم ؟
.
قال : أنا عبد المطلب بن هاشم ؛
.
قال : ابن أختنا ؟
.
قال : نعم .
.
فأدناه وقربه ،
.
ثم أقبل عليه وعلى القوم وقال : مرحباً وأهلاً ، وناقة ورحلاً ،
.
ومستناخاً سهلاً ، وملكاً ربحلاً ، يعطى عطاء جزلاً ؛
.
فذهبت مثلاً .
.
وكان أول ما تكلم به : قد سمع الملك مقالتكم ، وعرف قرابتكم ،
.
وقبل وسيلتكم ، فأهل الشرف والنباهة أنتم ،
.
ولكم القربى ما أقمتم ، والحباء إذا ظعنتم .
.
قال : ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود ،
.
وأجريت عليهم الأنزال ، فأقاموا ببابه شهراً لا يصلون إليه ،
.
ولا يأذن لهم في الانصراف .
.
ثم انتبه إليهم انتباهة ، فدعا بعبد المطلب من بينهم ،
.
فخلا به وأدنى مجلسه ، وقال : يا عبد المطلب ،
.
إني مفوض إليك من سر علمي أمراً لو غيرك كان لم أبح له به ،
.
ولكني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه ،
.
فليكن مصوناً حتى يأذن الله فيه ، فإن الله بالغ أمره :
.
إني أجد في العلم المخزون ، والكتاب المكنون ؛
.
الذي ادخرناه لأنفسنا ، واحتجبناه دون غيرنا ؛ خبراً عظيماً
.
وخطراً جسيماً ؛ فيه شرف الحياة ، وفضيلة الوفاة ؛
.
للناس كافة ، ولرهطك عامة ، ولنفسك خاصة .
.
قال عبد المطلب : مثلك يا أيها الملك من برّ وسرّ وبشّر ،
.
ما هو ؟ فداك أهل الوبر ، زمراً بعد زمر .
.
قال ابن ذي يزن : إذا ولد مولود بتهامة ، بين كتفيه شامة ،
.
كانت له الإمامة إلى يوم القيامة .
.
قال عبد المطلب : أبيت اللعن ، لقد أبت بخير ما آب به أحد
.
فلولا إجلال الملك لسألته أن يزيدني في البشارة ما أزداد به سروراً .
.
قال ابن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد ،
.
يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمه ؛ قد ولدناه مراراً ،
.
والله باعثه جهاراً ، وجاعل له منا أنصاراً ؛
.
يعز بهم أولياءه ، ويذل بهم أعداءه ،
.
ويفتتح كرائم الأرض ، ويضرب بهم الناس عن عرض ؛
.
يخمد الأديان ، ويدحر الشيطان ، ويكسر الأوثان ، ويعبد الرحمن ؛
.
قوله حكم وفصل ، وأمره حزم وعدل ؛
.
يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله .
.
فقال عبد المطلب : طال عمرك ، ودام جدك ، وعز فخرك ؛
.
فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح ؟
.
فقال ابن ذي يزن : والبيت ذي الطنب ، والعلامات والنصب ،
.
إنك يا عبد المطلب ، لجده من غير كذب .
.
فخر عبد المطلب ساجداً .
.
قال ابن ذي يزن : ارفع رأسك ، ثلج صدرك ، وعلا أمرك ،
.
فهل أحسست شيئاً مما ذكرت لك ؟
.
قال عبد المطلب : أيها الملك ، كان لي ابن كنت له محباً
.
وعليه حدباً مشفقاً ، فزوجته كريمة من كرائم قومه ،
.
يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف ،
.
فجاءت بغلام بين كتفيه شامة ، فيه كل ما ذكرت من علامة ،
.
مات أبوه وأمه ، وكفلته أنا وعمه .
.
قال ابن ذي يزن : إن الذي قلت لك كما قلت ،
.
فاحفظ ابنك ، واحذر عليه اليهود ، فإنهم له أعداء ،
.
ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً ؛
.
اطو ما ذكرت لك ، دون هؤلاء الرهط الذين معك ،
.
فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة ، من أن تكون لكم الرياسة ؛
.
فيبغون له الغوائل ، وينصبون له الحبائل ، وهم فاعلون وأبناؤهم .
.
ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه
.
لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجره .
.
فإني أجد في الكتاب الناطق ، والعلم السابق ،
.
أن يثرب دار هجرته ، وبيت نصرته ،
.
ولولا أني أتوقى عليه الآفات ، وأحذر عليه العاهات ،
.
لأعلنت على حداثة سنة أمره ، وأوطأت أقدام العرب عقبه ؛
.
ولكني صارف ذلك إليك عن غير تقصير مني بمن معك .
.
ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد ، وعشر إماء سود ،
.
وخمسة أرطال فضة ، وحلتين من حلل اليمن ، وكرش مملوءة عنبراً .
.
وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك ،
.
وقال : إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره .
.
فما حال الحول حتى مات ابن ذي يزن ،
.
فكان عبد المطلب بن هاشم يقول : يا معشر قريش ،
.
لا يغبطنّي رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاذ ،
.
ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره لعقبي ؛
.
فإذا قالوا له : وما ذاك ؟
.
قال سيظهر بعد حين .
.
العقد الفريد لابن عبد ربه