عــرس حمودة الكاتبة السورية: إيمان الدرع
عــرس حمودة
الكاتبة السورية: إيمان الدرع
نقرتْ الباب بعكّازها، تصيح بصوتها المكدود: ـــــ يا أهل الدار:أما زلتم نائمين؟! اليوم عرس حمّودة..هيّا انهضوا... هالة تفرك عينيها متثائبة ــ جدتي: الفجر لمّا يطلع بعد، قد أنهكت أجسادنا تدابير العرس، فلم تغمض عيوننا إلاّ للتوّ.
تدفعها مداعبة: كسولة أنت، وكالنعناع طريّة..خلّني أدخل حجرة أمّ العريس ..الويل لها إن كانت غير صاحية بعد..
الأمّ تضحك ضحكةً مكتومةً، وهي تنزع عنها الغطاء،تتجه بخفّةٍ نحو فناء الدار. الجدّة تناجي وجهاً لايغادرها، يتصدّر الجدار:
ـــ انظر قاسم: حمّودة صار عريساً، كالنخلة تطاولتْ قامته، افرح ياولدي،واهنأ في رقدتك. يسألها حمّودة وهو يطبع قبلة على كفّها المتغضّن:
ــــ جدتي: أما زلتِ تناجين طيف حبيبك الراحل؟
ـــ أزفّ له البشرى، ألم أحمل عنه الأمانة ربيتكم في حضني،وسقيتكم ماء عيني تعال أقبّلك، أعانقك، ما أطيب شذاك. وأطلقت زغرودة ملعلعة، تشقّ فضاء الصبح الهادئ: (((أوييها.. حوّطتك بياسين، أوييها .. يازهر البساتين، أوييها... وحمّودة حلو.... أوييها ...وماطبق العشرين..ولولو...ش..))) الأمّ تشاركها الزغرودة، وهي ترتّب الأسرّة : ـــ نكافئك يوم عودتك من الحجاز يا حاجّة. تصل العمّة، تحمل على رأسها طبق الخبز التنّوري، تضاحك الجدّة:
ــ على رسلك أمي، لم يحظَ ولدي سعيد بمثل هذه الحفاوة يوم عرسه،اييييييه الدنيا حظوظ، لا عجب، إنه حمّودة حبيب قلبك.
تشدّه من جديد إلى صدرها:ــ نعم هو حشاشة كبدي، ولد الغالي، انتظرت هذا اليوم طويلاً، كفّي عن الثرثرة وجهّزي القهوة المرّة، أخاف أن يسبقنا الوقت، وأنت حمّودة : البس ثياب عرسك، خلّني أتأمّلك..
يتملّص منها مقهقهاً: بعد الحلاقة سأفعل ..
تفوح رائحة الياسمين، ممتزجة بأبخرة الطعام الشهيّ المعدّ للضيوف.
عماد يوزّع الكراسي في صحن الدار، بعد أن مدّ حبال الإنارة بين قضبان العريشة، يرسل لأخيه حمّودة ..نظرات حنانٍ مجدولةٍ بالفرح.
بدأ الضيوف بالتوافد، الكراسي تُملأ تباعاً، صوت الجار عادل يهدر زاجلاً، يترنّم الجميع، الدفوف تشاغب الأشعار، تهتزّ كخصر صبية صاخب الإيقاع، النسوة تزغرد، تفيض من حناجرها جميع فنون الحبّ المكنوز في الصدور النقيّة، لينطلق على فطرته دون قيود، حمّودة هو ابن الضيعة المحبوب، طيّب، دمث الطبع، شهم، حيّي.
تزداد وتيرة الغناء، الدبكة أشعلت فتيل الفرح، الصبايا تناثرن كالورود في أديم الدار، تقطر خدودهنّ خجلاً، من عيون أفراسٍ تسترق بعض نظرات، لأحلامٍ قادمةٍ ..
يأخذ الجدّة الحماس، تهبّ لتقف وسطهم، تحمل عكّازها، تهزّها في الهواء، ترقص، أعظامها الناتئة تشتكي،لا تبالي، مازالت ترقص، تلهث، تتقطّع أنفاسها، تجرّها لتزغرد على وهن، تطلق مواويلها، يأخذها عصفٌ من اللهاث، تجلس على حافة حجر الحوض . ظلّان لشابين يافعين، يمرّان من جانب البيت، خرجا للتوّ من الجامع بعد صلاة الفجر، يضربان كفّاً بكفٍّ : لا حول ولا قوّة إلا بالله، جُنّت العجوز، من يوم أن أُزهقتْ أرواح أحفادها ، وأمهم..على أيدٍ تتريّة النصل، مجنونة الحقد، أحالت شراشف أسرّتهم البيضاء، إلى بركان دم يتفجّر لعنات على البشرية كلّها.
منذ هذا اليوم الأسود وهي تأتي في نفس التوقيت، تحاكيهم، تقبّل أطيافهم، تحتضن تردّد أنفاسهم، نعم جُنّت وذهب عقلها ــ أعانها الله ــ لم تستوعب بعدُما حصل لهم، ترفض تصديق ماجرى، إنها تراهم حقيقة، وتخمش مولولة وجه كل من يقول لها: إنهم ماتوا.
سمع المزيد من رجال الضيعة أصواتها المذعورة، فتوافدون تباعاً.
كانت ما تزال بيأسٍ تستجدي حضورهم مردّدةً: ــــ قوموا..أفيقوا ، ردّوا عليّ، أينكم أينكم ؟؟قومووووا..يا أهل الدار!!
بحّ صوتها بانكسار، وابتلعت الكثير من حروفٍ لم تعد مفهومة..
ــ تعالي يا حاجة : هيا معنا ، ليسوا هنا ، تعالي ياخالة.
تتملّص من بين أيديهم: دعوني..اتركوني يا كفرة، لن أذهب معكم قبل أن أزفّ حمّودة، اليوم عرسه، وراحت تخبط العكّاز بالأرض يمنة ويسرة، وهي تميل بجسدها النحيل على وهنٍ: شوبااااااش للعريس..حوّطتك بياسين... ثمّ راحت تلطم خدّيها، وتشقّ جيبها، تقرفص متكوّمة على بعضها كظلّ أسودَ هزيلٍ، أخذ يمتدّ ليغطّي كلّ المساحات، مطلقةً صرخةً، أدمتْ بزوغ الفجر،هزّت غضب الريح:
آااااااااااااااااااااااااه .......... يا اولاااااااااااادي. الجمعة 24 من شوال 1437 هــ 29 يوليو 2016 الاهرام