بريطانيا العظمى أم انجلترا الصغرى..هذا هو السؤال!
بريطانيا العظمى أم انجلترا الصغرى..هذا هو السؤال!
لندن ــ منال لطفى
فى كاريكاتير على غلاف المجلة البريطانية الساخرة "برايفت أي" يحكى الرئيس الأمريكى باراك اوباما حكاية قبل النوم للأمير جورج، ابن الأمير ويليام، وينهى الحكاية بقوله:"ثم غادرت بلدك بريطانيا الأتحاد الأوروبى ولم يسمع بها أحد مرة أخري".
ليس هناك مبالغة فى التحذير. فإذا كانت هناك مخاوف مشروعة حول مستقبل اليونان وإسبانيا بسبب الأزمة الاقتصادية التى لم تتعافيا منها بعد، إلا أن القلق الحقيقى فى أوروبا هو على مستقبل بريطانيا أكثر من أى دولة أوروبية أخري.
فاستفتاء البقاء أو الخروج من الإتحاد الأوروبى المقرر يوم 23 يونيو الجارى قد يؤدى سريعا إلى تفكك الاتحاد البريطانى وتحول المملكة البريطانية من "بريطانيا العظمي" إلى "إنجلترا الصغري" مع ما سيترتب على هذا من تقلص فى مساحتها وعدد سكانها وأهميتها الاستراتيجية وقوة اقتصادها والأهم من كل هذا هويتها القومية ورؤيتها لدورها فى العالم، ورؤية العالم لها.
بعبارة أخرى يمكن أن يكون الإستفتاء بداية نهاية المملكة المتحدة. فإذا صوتت الغالبية للخروج من الاتحاد الأوروبى ستتجه أسكتلندا إلى الانفصال عن بريطانيا. وخلال سنوات ستختفى بريطانيا كما نعرفها اليوم من الخريطة ولن يعود لها وجود. هذا ليس ضربا من الخيال. فقد حدث أن اختفت من التاريخ دول كبرى خلال سنوات قليلة. والحالة الأقرب زمنيا هى الإتحاد السوفيتى السابق، والحالة الأقرب لبريطانيا هى "إتحاد مقاطعات المملكة الهولندية" الذى كان القوة الأولى فى العالم قبل تدهوره وصعود بريطانيا العظمى التى لا تغيب عنها الشمس مكانه بدءا من القرن السابع عشر وحتى القرن العشرين.
فبريطانيا اليوم ممزقة ومستقطبة بين تيارين كلاهما يريد أن "تعود بريطانيا عظيمة" لكن لكل منهما تحليل للأزمة وتوصيف للعلاج مختلف تماما عن الطرف الآخر. فمعسكر البقاء داخل الأتحاد الأوروبى يقول إن بريطانيا لا يمكن أن تكون عظيمة إذا اختارت "العزلة" عن محيطها الأوروبى الحيوي.
والخروج من الاتحاد الأوروبي، كما يرى هذا المعسكر الذى يضم الكثير من قيادات حزب المحافظين الحاكم، وحزب العمال، والخضر، والأحرار الديمقراطيين، والقومى الأسكتلندي، هو بداية العزلة. أنه علامة ضعف وعدم ثقة وتشكك فى المستقبل وفى الذات ودليل على الوهن. فكل انغلاق هو خوف وكل خوف هو ضعف. فهل هذه رسالة بريطانيا لنفسها عن العالم؟.
وكما يلخص رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون المؤيد للبقاء داخل الاتحاد:"المعركة بين من يريدون بريطانيا العظمي، الموجودة فى قلب الأتحاد الأوروبى والتى تؤثر على قراراته وتوجهاته وسياساته وتصلح مساره، وبين من يريدون إنجلترا الصغرى المعزولة التى تقف على الباب بانتظار القرارات دون أن يكون لها صوت".
معسكر المغادرة، الذى يضم أيضا الكثير من قيادات حزب المحافظين وحزب "استقلال بريطانيا" (يوكيب) اليمينى بزعامة نايجل فاراج، يسخر من هذا المنطق ويقول "أوروبا هى المشكلة". فمع توجه الإتحاد الأوروبى لتعزيز الإندماج السياسى بين الدول الأعضاء ومع سياسة الباب المفتوح والسماح بحرية حركة العمالة بين دول الأتحاد، وفتح المانيا أبوابها للاجئين بات الاتحاد الأوروبى خطرا على الأقتصاد والأمن والهوية القومية فى بريطانيا.
وكما يخلص أهم وجهين فى معسكر المغادرة عمدة لندن السابق بوريس جونسون وزعيم "يوكيب" نايجل فاراج:"لكى نعود عظماء من جديد يجب ان نخرج من الإتحاد الأوروبى الذى يقيد حركتنا فى أن نكون عظماء". يرى معسكر المغادرة أن بريطانيا ستخرج بعد الاستفتاء أكثر ثقة فى هويتها، وأكثر فاعلية اقتصاديا، وأكثر حرية فى سياساتها الخارجية، وأكثر قدرة على اقامة علاقات تجارية مع باقى دول العالم واختراقا للمزيد من الأسواق.
الجدال إذن ليس حصريا حول العلاقة مع الإتحاد الأوروبي، بل حول "كيف تعود بريطانيا عظيمة من جديد؟". هذا هو السؤال الحقيقى الذى يشغل البريطانيون اليوم. فبريطانيا لم تعد تلك القوى العظمى التى كانتها خلال القرون الماضية وهى تفقد قدرتها على التأثير داخل أوروبا تدريجيا. ويعانى أقتصادها، مثل الكثير من دول العالم، مشاكل متراكمة أثرت على مستويات الحياة والرفاه والوظائف ونسب النمو.
وفى نظر الكثيرين فإن السبب فى هذا التراجع المضطرد يعود إلى دخول بريطانيا نادى الاتحاد الأوروبي. لكن الحقيقى أن هناك تحولات كبيرة فى بريطانيا نفسها تلعب دورا فى المشاكل التى تواجهها اليوم أكثر من عضويتها فى الأتحاد الأوروبي.
فبريطانيا اليوم أقل من 1% من سكان العالم، بينما كانت كإمبراطورية تحتل الهند ومناطق شاسعة من الشرق الأوسط أكبر من ذلك بكثير. وهناك شعور لدى البريطانيين أنهم أصبحوا أكثر فقرا. فقيمة الجنيه الاسترلينى انخفضت بـ20% منذ عام 2008. وبريطانيا الثرية التى لا تغرب عنها الشمس كانت ثرية لأنها كانت تستحوذ على نصف أسواق العالم عبر مستعمراتها خاصة الهند درة التاج البريطاني. وعندما حصلت هذه الدول على إستقلالها ولم تعد مضطرة للتعامل حصريا مع المنتجات والسلع البريطانية وبات لديها حرية التجارة مع كل دول العالم وفق مصالحها، خسرت بريطانيا الكثير من الأسواق والنفوذ والثروة.
كما تعانى بريطانيا اليوم العديد من المشاكل بدءا من الرعاية الصحية والبنية التحتية والأقتصاد، إنتهاءا بمشكلة الإسكان ونظام الدعم الإجتماعي. ويسهل إلقاء المسئولية على الإتحاد الأوروبي، والمانيا وفرنسا بالذات، بوصفهما سبب العديد من المشاكل الهيكلية التى تواجهها بريطانيا اليوم. لكن الإتحاد الأوروبى لا يقل لك ماذا تفعل فى كل صغيرة وكبيرة. فداخل الإتحاد هناك تنوع هائل فى السياسات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية. وليس هناك نموذج موحد يسير عليه الجميع. فمثلا هناك فروق هائلة بين بريطانيا من ناحية وفرنسا والمانيا من ناحية أخرى فيما يتعلق بالسياسات التعليمية. فبينما تفرض الجامعات البريطانية مصاريف باهظة للدراسة الجامعية، تكاد تكون الدراسة الجامعية مجانية فى فرنسا والمانيا. ونفس الشيء ينطبق على السياسات الاقتصادية والضرائب والانفاق العام والسياسة الخارجية.
ففى السبعينيات مثلا، كانت بريطانيا ثانى دولة أوروبية بعد السويد من حيث ضيق الفجوة فى مستويات المعيشة. لكن منذ السبعينيات بدأت بريطانيا تصعد فى سلم اتساع الفجوة الطبقية والتباين فى مستويات المعيشة بسبب انتهاجها سياسات نيوليبرالية مماثلة لامريكا. وهذا هو السبب الحقيقي، وليس الهجرة حصريا، للأزمات التى تعانى منها بريطانيا اليوم ومنها الفقر والبطالة وتدهور مستويات المعيشة ونقص الإسكان والاعتماد المتزايد على برامج الدعم الاجتماعي.
واليوم بريطانيا من بين أكثر دول العالم فى عدم المساواة الطبقية. فأغنى 1% من البريطانيين يأخذون 14% من الثروة. فيما أغنى 1% فى سويسرا يأخذون 7% من الثروة.
نفس الشيء ينطبق على مشكلة الإسكان، فالهجرة تشكل ضغطا على المساكن ما يؤدى لإرتفاع أسعار الإيجار والشراء. وبريطانيا اليوم بها أعلى إيجارات وأسعار شراء للمنازل فى كل أوروبا، لكن فى الواقع مشاكل قطاع الإسكان فى بريطانيا لا علاقة لها ببروكسل بل بقوى السوق البريطانية التى مالت دوما لمصلحة توفير إسكان للطبقات الوسطى والغنية على حساب الطبقات الفقيرة ومحدودة القدرة الشرائية.
والمشكلة الحقيقية أن الحكومات البريطانية المختلفة إختارت على الدوام تقليص الإنفاق العام من أجل ضبط الميزانية، حتى باتت ضمن الدول الأقل إنفاقا على الخدمات العامة. واليوم تدفع ثمن هذا عبر التضعضع فى مستويات الخدمات العامة. ويمكن لبريطانيا أن تخصص ميزانية أعلى للصحة أو لشبكة المواصلات العامة أو للتعليم الحكومى إذا زادت الضرائب وقررت تقليص الأنفاق على بنود أخري. لكن هذا هو خيار الحكومة هنا وليس خيار الإتحاد الأوروبي.
ففرنسا والدنمارك والمانيا والسويد والنرويج وايطاليا ينفقون أكثر من بريطانيا على الخدمات العامة وبالتالى لديهم نظام تعليم أفضل ورعاية طبية أفضل ومواصلات أفضل ومساكن أكثر.
وفى سويسرا تنفق الحكومة ضعف ما تنفقه بريطانيا على الفرد فى مجال الصحة، أما النرويج فتنفق 81% أعلى من بريطانيا، وهولندا 59% أعلي، والمانيا 49% أعلي، والدنمارك 41% أعلي، وفرنسا 27% أعلي.
لكن للصورة وجه أخر، فبريطانيا تجذب نحو ضعف الإستثمارات الأجنبية المباشرة مقارنة بالدول الصناعية المماثلة بسبب انفتاحها الإقتصادي. كما تصدر 50% من صادراتها لدول الإتحاد الأوروبي. وهى لا تعانى مشكلة اندماج للمهاجرين بنفس الدرجة التى تعانيها فرنسا مثلا. كما أنها أكثر دولة أوروبية جذبا للطلاب الأجانب. وباتت لندن العاصمة الأوروبية الأولى لرجال الأعمال الروس والصينيين والعرب الذين يريدون أن يكون لهم مقرات دائمة فى أوروبا.
خروج بريطانيا أو بقائها داخل الإتحاد الأوروبى سيكون له تداعيات كبيرة على مستقبلها كأمة موحدة ودولة لها دور فى العالم. وفى خطاب وقعه 300 من كبار المؤرخين فى بريطانيا وبينهم نيل فيرجسون وسيمون شاما ونشرته صحيفة "الجارديان" حذر هؤلاء المؤرخين من أن خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبى سيؤدى لـ"تدهور كبير فى أهميتها العالمية"، وسيفقد أوروبا "الدور الذى لا يمكن الاستغناء عنه والذى تلعبه بريطانيا داخل القارة". وهذا حقيقي. فالخاسر من خروج بريطانيا المحتمل سيكون بريطانيا والأتحاد الأوروبى أيضا. وهناك عصبية ملحوظة ومتزايدة فى لندن وبروكسل وستتزايد خلال الأيام المقبلة وحتى موعد الإستفتاء. فإستطلاعات الرأى العام فى بريطانيا تشير لتقارب كبير جدا بين معسكر البقاء ومعسكر المغادرة مع تقدم طفيف فى الأيام الأخيرة لمعسكر المغادرة الذى نقل النقاش من أرضية الآثار الاقتصادية للبقاء فى الاتحاد إلى أرضية "الحفاظ على الهوية القومية والسيادة البريطانية".
وفى استطلاع للرأى عام 2008 حول الخوف من فقدان الهوية القومية والثقافة الشعبية بسبب العلاقات مع الأتحاد الأوروبي، جاءت تركيا فى المرتبة الأولى على قائمة "الدول الخائفة" على هويتها، تلتها بريطانيا ثم كوسوفا.
أنها الدول على "حافة" القارة الأوروبية التى تظهر خوفا أكبر من أن تصبح "أكثر أوروبية". لكن تركيا وكوسوفا فعلا على "حافة" أوروبا جغرافيا واقتصاديا وسياسيا وأستراتيجيا. بينما بريطانيا وإن كانت على حافة أوروبا جغرافيا، إلا أنها فى مركزها سياسيا واستراتيجيا واقتصاديا وثقافيا. لقد ظلت بريطانيا دائما مترددة إزاء نوعية علاقاتها مع أوروبا، ومعضلة الاستفتاء المرتقب أنه لن يحدد فقط علاقة بريطانيا بمحيطها الأوروبى الحيوي، بل أيضا استمرارها كبريطانيا العظمى من عدمه. وكما يقولون هنا "أنه أصعب تصويت أمام البريطانيين منذ أجيال".
لندن ــ منال لطفى / الاهرام