قصيدة بوفسيو والسبع
قراءة في لعبد الكريم الفيلالي
يعتبر الفنان الراحل عبد الكريم الفيلالي من رواد الأغنية الشعبية الأصيلة، وهو الدي أبدع خلال فترة الستينات والسبعينات من القرن الفارط،، في فن الأغنية الروائية الملتزمة، متخدا من الأسواق الأسبوعية، على الهواء الطلق، مسرحا للإنشاد الهادف إلى إصلاح التنشئة من خلال مناهضة الفساد الاجتماعي ومحاربة الاستلاب والشعوذة . وإن كان البعض يصنف الفنان عبد الكريم الفيلالي في خانة المبدعين المنسيين الدين تنكر لهم الزمن الردئ، فإن أحد الأدباء المغاربة، وهو ابراهيم زيد، رد إليه نوعا من الاعتبار من خلال الاشتغال على قصيدته " بوفسيو والسبع" في إبداعه القصصي "برق الليل". ويتطرق عبد الكريم الفيلالي في قصيدة " بوفسيو والسبع" إلى موضوع الصراع حول السلطة واسترداد الحقوق المنهوبة بفضل العزيمة والإرادة الحرة، دونما الاكتراث إلى القوة المادية التي يتسلح بها الطرف المعتدي. ويأتي الحوار في القصيدة بلسان الطير والوحش، على غرار أشعار لافونطين وكليلة ودمنة، كطريقة خاصة في التعبير من أجل تجاوز الأسلاك الشائكة، وفي دلالة على تأزم العلاقة بين المثقف البدوي المؤمن بالقضية والسلطة القائدية التي تسعى إلى تدجين الصوت الحر. والبطلين الرئيسين في القصيدة هما بوفسيو والسبع اللدان يتم تقديمهما للمتلقي بهده البدايات: " قصة بوفسيو والسبع، سمع وتصنت يا من هو سمع، بوفسيو والسبع تدابزو في الملوكية، هدا في هداك ما شفع، قاموا في الحركة، كلا يضرب على حكامتو.. بوفسيو يحكم في الطيور، السبع يحكم في الوحوش، آها ننا هاننا ".
والحالة هده، فإن الراوي يضعنا أمام مشهد تصادمي بين جرة من طين وجرة من حديد، فيقدم لنا السبع، وهو المفترس من الحيوان بقوته وعظمته، وجها لوجه أمام بوفسيو، وهو الطائر الزئبق، الخفيف والنحيف الدي لا وزن له على الساحة/ الشجرة، كما تصوره الأمثال الشعبية، عندما يقال: " بوفسيو حط على الشجرة وقال ليها سمحي لي يا ميمتي ثقلت عليك"، " بوفسيو نعس في شجرة، وفي الصباح شاف الندى، وقال ليها: آعمتي سمحي لي عرقت عليك، وقالت ليه الشجرة: والله ما عرفت آش من عرش حاط عليه". وعلى الرغم من هدا البون الشاسع بين التواضع الهزيل عند بوفسيو والبأس الشديد لدى السبع، فإن القصيدة تساوي بين الطرفين،وتصورهما في وضعية الند للند، بل وتلمح إلى انتصار البطل الضعيف على الغريم القوي من خلال التقديم والتأخير في العنوان: بوفسيو والسبع، واستغلال تقنية المفاضلة بين الكائنات السماوية والمخلوقات الأرضية: العصفور سماوي، والسبع أرضي. علما بأنه في سورة الفيل، بالقرءان الكريم، كانت طير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، و في الحروب الحديثة، من يمتلك القدرات الجوية يسحق القوات البرية ويحسم المعركة على الأرض. والهدف المتوخى من قلب الموازين، من طرف الراوي الدي ينحاز لنصرة المستضعف على الجبار، هو هزم شريعة الغاب التي تنظر إلى الحجة الصحيحة على أنها حجة الأقوى، كما هو متعامل به في العلاقات الدولية بين الكيانات الصغيرة والقوات العظمى، التي لها كلمتها في جمعية الأمم المتحدة.
في بداية القصيدة يترصد الراوي اضطراب الحالة النفسية للسبع، المندهش من تلقيه الإندار الأول من بوفسيو، عندما طالبه هدا الأخير بالتنحي عن طيب خاطر دون اللجوء إلى القوة. حيث تولد لديه شعور بالمهانة والمذلة، ورفض الرضوخ لإرادة كائن لا حول له ولا قوة، نعته تحقيرا بالأنثى، وأنكر عليه صفات الرجولة. يقول الراوي:
"ناض السبع معا لبيتو، طلعو الغابة يهيتو، راح الليل جاو يبيتو ، جاو العرصة تحت كرمة مسقية... السبع جلس في باب دارو، طلع عينو معا شفارو، هبط عينو معا ظفارو، قال آخايت هدي دليا، حتى بوفسيو ولا بكلمتو... بوفسيو ارسل للسبع، وزيرو هو والضبع، قال ليه معاك بالله والشرع، هديك العرصة راها ليا، آها شرع الله معاكم حيدو. تكلم السبع به نادى،واش هاد العرصة مخلدا؟ والله منها لا حيدت لك يا ابن لمريا".
وأمام تعنت الوحش وتمسكه بالبقاء في الأرض، على رغم أنف أصحابها الشرعيين ، لم يبق أمام العصفور غير خيار الحرب لاسترداد الحق المغتصب، ومهما كلف دلك من تضحيات. فبادر عند إشراقة الصباح إلى نصب خزانته في العرصة، متخذا منها قاعدة للأركان الحربية ، فأعلن حالة التعبئة العامة والتأهب القصوى: " شد حزامك كل شئ عدو". وكلف الطائر اللقلاق/ بلارج بمهمة الدعاية والإعلام، وأمره بتجنيد جميع القادرين على حمل السلاح، الكبار دون الصغار، من دوات الأرياش البرية والأهلية، بما فيها الجوارح و الطيور ذات الأصوات الجميلة، حتى يفي كل واحد لغرضه، على أن يفدوا إلى ساحة القتال راجلين أو ممتطين الخيول. و هده بعض الفقرات المجتزأة من الأمر الحربي. يقول الراوي:
"جيبو موكا مع الحدية، جيبو الطير الحر والتوامة، جيبو الحداد جيبو الحناش أمير القومية.. جيبو فرك الزرزور،.. جيبو فرك الكطا مزين الحطة في الوطا .. جيبو ليا يسحاق يفاجي الهول عليا. جيبو الحبشي مع حميمو، جيبو سطيلة العاطشة في شربيا، جيبو دجاج الريش ونا غير دريويش، يقول لي أنا نحكم في الريش،.جيبو الفروج الأحمر بوشاشيا، باز معوج قزيبتو... يجيو خيول ورجليا.. كلا يليق لحاجتو".
ومن جهته، أرسل الوحش في طلب الحيوانات المديالة استعدادا للمواجهة. فدعى الى الانخراط في قواته المسلحة كل من الخرطوميات والخيليات والأبقار، الوحشية منها والأهلية، والقطط والقنافد المدججة بالسلاح، هدا المشهد يعيد بنا إلى الأدهان خرافة لافونطين حول دهاب الأسد إلى الحرب، عندما سخر الفيلة لحمل العتاد فوق الظهور، والدببة للوثب، والثعالب للحيل، والقردة لإلهاء العدو ، والأرنب لحمل الرسائل . وأما الجمع بين كل الأجناس المتنافرة من الحيوانات ، وهي في لحظة تضامن وتراص من أجل درء الخطر، فهو يشبه حيوانات سفينة نوح الدين يصفها أحمد شوقي، بقوله: "لما أتم نوح السفينة، وحركتها القدرة المهينة، حتى مشى الليث مع الحمار وأخد القط بأيدي الفار، واستمع الفيل إلى الخنزير، مؤنسا بصوته النكير". يقول الراوي:
" السبع يفرق في الدعاوي، يقول ليهم بن الخاوي، هاد الحركة جايا ليا.. جابو القطوط والمشوش، قال ليهم ماتنفعوش، هاد الحرامي جاي حارك ليا.. قال ليهم جيبو الكنفود تاهوا يخلع... جيبو الثعيلب تاهيا... اطلب الاعانة للحمير،الكبير والصغير، جيبو الحمار الأشهب ولد الوحشية، يخلعهم بتهرنيطتو. اطلب الإعانة للبقر، الأحمر مع الأصفر، اللي يدور في الظهر..".
بعد تنظيم الصفوف وتوزيع المهام والمواقع بين عناصر الوحوش والطيور، اختلط الحابل بالنابل، في ساحة القتال، فاقتصر الأمر في البداية على استعمال السلاح الأبيض: "ضرب السيوف والسكاكن، كل يضرب على كلمتو" . لولا أن بوفسيو ارتأى حسم المعركة باللجوء إلى نوع من الأسلحة الجرثومية التي لم تكن تخطر على بال. فاستعمل الدبيبيات وهي الحشرات من ذوات الجناحين، على اختلاف أصنافها، ومنها مستقيمة الأجنحة، ونصفية الأجنحة، ومجمدة الأجنحة. فسلط كببا من النموس على السباع والضباع، والنعرة على الخيليات، والطيكوك على الأبقار، حتى اندحرت قوات العدو وتفرقت شر مضر جميعها في الفيافي والقفار. يقول الراوي:
ارسل طيكوك عل البقر، كل شي جفل، ما بقات بقرة ولا عجل، ارسل النعرة عل الحمير، ما تسمع عا الزفير، كيدازت الخيل عل الرجليا، ياراسي أنا كين دير. الأشهب هرب بعلافتو... ارسل النموس للسبع،.. الحلوف كدام الضبع، قالو اهرب يا بن الأصكع، مخيبها حركة جرات هاد العشية".
وعلى الرغم من الهزيمة النكراء للسبع في واقعة العرصة، فإن موقفه جاء مختلفا عن ما هو عليه في خرافة لافونطين حين استسلم للأمر الواقع بعد قهره من طرف دبيبة صغيرة. ولكنها ليست نفس الظروف أو البيئة، لأن سادة القبيلة، أو حتى تلك الدمى المستنسخة لصورة السبع في الانتخابات الجماعية، تظل تكابر عند اجترار الهزيمة، فتهدد وتتوعد، وتختلق لنفسها الأعذار، حفاظا على ماء الوجه و ما تبقى من الهيبة أمام الأنصار والتابعين. يقول الراوي:
قال ليهم شدو ليا ابن الأزفر، ضحك عليا ما بقى وقر.
نعيش أنا ما نصبر، حتى نقطع راسو، على ركبتي ابن الخطية".
طهير الجيلالي
من اراد سماع القصيدة mp3