الرئيس الجزائرى عبد العزيز بوتفليقة يكتب لـ«الأهرام»: «الأمير عبدالقادر» شخصية فذة وقائد عسكرى وثائر عظيم وفيلسوف صوفى تحت دوى الرصاص
الرئيس الجزائرى عبد العزيز بوتفليقة يكتب لـ«الأهرام»:
«الأمير عبدالقادر» شخصية فذة وقائد عسكرى وثائر عظيم وفيلسوف صوفى تحت دوى الرصاص
عبد العزيز بوتفليقة
حين طُلبَ منّى كتابة مقدمة الترجمة العربية لهذا المؤلّف الموسوم بعنوان « صقر الصحراء.. عبدالقادر والغزو الفرنسى للجزائر» لصاحبه الكاتب السياسى والشاعر والمؤرخ والرّحالة المغامر سكاون ويلفريد بلنت، لم أتردّد لحظة فى تلبية الطلب، إذ وجدتنى وأنا أقرأ هذا الكتاب المتميّز، أمامَ عملٍ يتسّق فيه التأريخ والإبداعُ، وتتناسقُ فيه الثورةُ والإيثار.. إنّ رجلا عظيما مثل الأمير عبد القادر استطاعَ أن يوجّه مشاعر الإنسانية كلّها من حالات مختلفة إلى حالة مشتركة تحملنا على حبّه والبحث فى سيرته ومساراته، عن الإكسيرِ الذى جعل منه قائدا للثورة وقائدا للمحبّة.. مشرّعا للدولة ومشرّعا للإنسانية.. حاملا السيف والورد معا ليمنح الأملَ للمظلومين المستضعفين، أو كما خاطب الفرنسيين فى كبرياء «لا تنسوا أن الإنسان فيه رقّة الحرير وصلابة الحديد». فإن التاريخ، قديمه وحديثه، لمْ تخلُ فيه حرب واحدة من الحبّ. وكم كان العالم سينعم بالأمن والاستقرار والازدهار لو لم يتسلل إلى الحب حرف الراء البغيض.
إنه لحريّ بنا، فى هذا المقام، أنْ نقف متسائلين عن ثورة لعلع فيها الرصاص وصمت فيها الحبّ، وعن أخرى علا فيها صوتهما معا. فالأمير عبد القادر الجزائريّ أدرك جيّدا أن لا قيمة للمقاومة حين تخلو من قيم ومبادئ إنسانية، بل ـ ونحن نستقرئ فكره ـ ندركُ أنّ المحبّة والإنسانية وقيم التسامح كانت تسبق دائما صليل السيوف ودوّى المدافع ولعلعة الرصاص.. فاحترمه العدوّ قبل الصديق، وأحبّه البعيد قبل القريب، وهذه رسالة أحدهم يوصى فيها صديقه بزيارة للأمير فى سجنه قائلا: «إنك ستجده معتدلا بسيطا جذابا متواضعا ثابتا لا يشكو أبدا، معتذرا لأعدائه حتى أولئك الذين ما زال يمكن أن يعانى على أيديهم كثير، ولا يسمح أن يُذكروا بسوء فى حضوره، ورغم أنّه قد يشكو، عن حق، من المسلمين أو المسيحيين فإنهم جميعا يجدون عنده الصفح إذ يلقى تبعة هؤلاء على الظروف، وتبعة أولئك على أمن وشرف الرّاية التى حاربوا تحتها. إنّك فى ذهابك لزيارة هذه الشخصية النبيلة السامية ستضيف عملا آخر صالحا إلى أعمالك الأخرى التى أصبحت حياتك متميزة بها».
وحدث مرّة أنْ أبدى أسيران فرنسيان رغبتهما فى اعتناق الإسلام ظنّا منهما أنّه السبيل الوحيدُة لنيل حريّتهما وخوفا على حياتهما، ولما خبِرَ الأميرُ الغايةَ من طلبهما طمأنهما على سلامتهما إن بقيا على دينهما، فقد كان يعمل بقوله عزّ وجلّ «لا إكراه فى الدّين». وفى وضع مشابهٍ، أطلقَ الأمير سراح عشرات الأسرى بعدَ أنْ تأكّد له عدم قدرته، ومن معه، على ضمان سلامتهم. أضربُ هذين المثالين لأؤكد أن هذا الرّجلَ لم يكنْ رجل حرب بقدر ما كان رجل سلم، ولم يكن حامل سيف بقدر ما كان حاملَ ورد.
ولم تكن الزّمالةُ وحدَها عاصمة الأمير المتنقلة. لقد كان قلبه وطناَ كبيرا يحمله بين جنبيه أينما يحللّ ويرتحل، لذلك لا غرابة فى أن يرفض إغراءاتِ نابليون الثالث ويعتذر له عن تيجان الشرف وأوسمة المجد ليطلب الاستقرار بسوريا لأنها، فى اعتقادي، البلد الأقربُ إلى قلبه الوطن.. ولأنّ فرنسا لا تشبه أبدا جنّة قلبه الخضراء، ولا نضارة وردته الحمراء، ولا صفاء ياسمينته البيضاء. وعندما آوي، وحمى هناك فى دمشق، هو وأهله وذووه، آلاف المسيحيين الفارّين من فتنة عام 1860 بالشّام، كان يعمل وفق عقيدته السمحة مخالفا حينها التوجّه الدينيّ الضيّقَ، الذى نراه اليوم، ليؤسس لسلوك إنسانيٍّ أوسعَ، نحن فى أمس الحاجة إليه فى هذه الظروف التى تعيشها البشرية عموما والعالم العربيّ خصوصا، فلم يمنعه المشترك الدينيّ بينه وبين المسلمين والدّروز من إيواء المسيحيين الذين استجاروه وطلبوا حمايته بحكم ما كان له من مقام ومهابة، ولم يكن يرى المختلَف الدينى بينه وبين المسيحيين سببا لكى يوصد أبوابه فى وجوههم، وهو ما دعا الشيخ شامل الداغستانى إلى أن يراسله شاكرا له صنيعه هذا قائلا: «إلى من اشتهر بين الخواص والعوام وامتاز بالمحاسن الكثيرة عن جملة من الأنام، الذى أطفأ نار الفتنة.. واستأصل شجرة العدوان.. المحبّ المخلص السيد عبد القادر المنصف.. فقد قارع سمعى ما تمجّه الأسماع.. سمعتُ أنك خفضت جناح الرحمة والشفقة لهم وضربت على يد من تعدى حدود الله تعالي.. لذلك رضيتُ عنك والله تعالى يرضيك.. لأنك أحييتَ ما قال الرسول العظيم الذى أرسله الله رحمة للعالمين..».
ولعل الأمير سبق إعلان حقوق الإنسان بعقود حين ردّ على أسقف الجزائر وقتذاك السيد بافى وهو يحييه على صنيعه هذا فى حق المسيحيين، حين راسله الأمير قائلا : «إنّ هذا السّلوك فرضه الإسلام على أتباعه ويستجيب أيضا إلى حقوق الإنسانية».
وحين اختلفت الآراء وتضاربت المصالح عشية افتتاح قناة السويس 1869 صدح بفتوى جواز افتتاحها وكان من الشخصيات البارزة إلى جنب عظماء العالم فى ذلك الحدث العظيم فى تاريخ الشقيقة مصر..
لذلك بات لزاما على الشعوب التى ترغبُ فى أنْ تتسّم بالنبل وتتصّف بالفضل، أن تجعل من الأمير عبد القادر الجزائرى مشتركا إنسانيا بينها وهو القائد العسكرى والشاعر الأديب والعالم الفقيه والفيلسوف الصوفيّ والثائرُ النبيه الألمعيُّ الذى ما وطئت قدماه أرضًا إلا وترك شيئا من روحه فيها. فلا غرابة، إذن، فى أن يسبق فكرُ الأمير عبد القادر البشريّة جمعاء فى وضع أول قانون إنسانيّ، سبقَ ظهور الصليب الأحمر بسنوات عدّة، ولا أدل على ذلك من شهادة أحد دعاة الاستعمار الفرنسى للجزائر، الذى ذكر فى كتابه « نابليون الثالث والأمير عبد القادر» حيث أبان كيف أن أعدادا من الأسرى الفرنسيين القدامى الذين تلقوا علاجا من قبل الأمير، كانوا يأتون من مناطق نائية فى اتجاه قصر (بو) وقصر (أمبواز) حيث كان الأمير معتقلا، لتحية من كان المنتصر بالأمس، وكان يقصد الأمير عبدالقادر. ولا غرابة أيضا فى أن تحمل مدينة بمقاطعة كلايتون الأمريكية اسم «القادر» اعترافا من الأمريكيين بعظمة الأمير عبدالقادر. لقد تأثر مؤسسو هذه المدينة حينها بهذا البطل الشاب الثائر ضد المستعمر الفرنسي، ورأوا فيه صورة من صور جورج واشنطن، أوّل رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، ولم يتوقف انبهارهم بشخصية الأمير عند حدود تسمية المدينة باسمه فحسب، بل أسسوا متحفا يضم كتبه وسيرته وإجازاته وصوره وبعض التذكارات والمقتنيات الصغيرة التى حصل عليها مسئولو «بلدة القادر» فى إطار توءمة مع بلدية مُعسكر مسقط رأس الأمير.
وخلافا لما اتفقتْ أو اختلفتْ فيه دساتير العالم وقوانين الدول آنذاك، فإنّ عظمة الأمير عبد القادر تظهر جليّة فى المبادئ العامّة التى حملها مشروع الدولة الجزائريّة، ذلك أنّه، رغم الظروف السياسية التى أحاطت بالأمير والتى لم تكن لتسمح بظهور فكر سياسى استثنائى خارق، فإننا نلمح فى مشروعه ملامح ومعالم دولة مدنية حديثة ليضعها فى منعطف تاريخيّ غير مسبوق، برؤية حكيمة رزينة متزنة، وإنّ مبادئ الدولة الجزائرية التى تصورها عبد القادر الجزائري، نبعتْ من رجل سياسى مقاوم فيلسوف أديب مثقف وفقيه يقول وهو ينبذُ الفرقة بين الديانات ويقدّم نفسه كرجل حوار: «لو كان العالم يسمعنى لجعلتُ من المسلمين والمسيحيين إخوة ولعملنا معا من أجل إرساء السّلام فى العالم، فالدين واحد باتفاق الأنبياء، وإنما اختلفوا فى بعض القوانين الجزئية»، وإن الدولة المدنية الحديثة التى قادها كانت تشتغل بحكومة مركزية لها وزارات وبرنامج عمل ومجلس شورى أميرى أعضاؤه من العلماء والحكماء يستشيره ويتداول معه شئون الحرب والسلم.
وهو القائدُ الحربيّ الاستراتيجيّ المقاومُ الذى أسّس لفلسفة جديدة فى المقاومة الشعبية حين نراهُ يجابه آليات العدوّ وجحافله الجرارة بحرب العصابات فيقول مخاطبا «جيشه المحمّدي» موضحا طريقته فى مواجهة العدوّ: «لا تحاربوا الفرنسيين فى جمع كبير، بل اقتصروا على مضايقتهم ومطاردة أجنحتهم، وقطع اتصالاتهم، والوقوع على معداتهم ووسائل نقلهم، والتراجع الخادع، ونصب الكمائن والهجوم المفاجئ، لزرع الارتباك والحيرة والدهشة فيهم».
ولم تكن السماحةُ والحبّ والإنسانية لتغفلَ الأمير عن مواقفه العنيدة الشرسة، وهو يجمع طرف برنوسه ويرفض مساومات المستعمرين فى سجنه قائلا: «لو وضعتم كل ثروات فرنسا وملايينها فى بُرْنُسى هذا لرميتها فى أمواج هذا المحيط».
إنّ شخوص التاريخ ورجالاته فى الغالب يبتعدون مع الزمن، يتحوّلونَ إلى اسم تؤثث به المعاجم وكتب التاريخ، لكن هذه الحال لا تنطبق على الأمير عبد القادر، لأنّه ببساطة مجموعة أفكار وقيمَ تنمو وتتطوّر مع مرور الزمن، ولعلّ حاجة البشريّة اليوم إلى حالة «الأمير» صارت ملحّة أكثر من أى وقت مضي، ذلك أنّ أفكاره تحمل قدرة عجيبة على التجدّد والتواؤم عبر مختلف العصور والأزمان، وأن الفكرة الأصيلة العميقة المتجدّدة لا تحدّها الجغرافيا ولا التاريخ، إنّها تتعدى الحدود المكانية والزمانيّة.
هذا، وأجدنى متفقا مع الكاتب سكاون بلنت، بل متقاطعا معه وهو يستحضر صورة الأمير عبد القادر فى عيون أبناء هذا الشعب، وفى أغانى من أرهقهن الظلم والقهر، تلك الأمهات الثكالى والنساء الأرامل وهنّ يلهجن باسمه لكى يلبى النداء ويخلصّهن من الظلم، لقد كانت جدّاتنا يلجأن إليه صباح مساء وهنّ يرينَ بزّة الاستعمارى الفرنسى تجوب المداشر والقرى والمدن والأرياف، فكان رجاؤهن المباشر بعد الله عزّ وجل ونبيه الكريم «سيدى عبد القادر» المتماهى روحيا مع القطب الربّانى سيدى عبد القادر الجيلاني.. ولم يكن الأمير ليصل إلى هذا المقام المقدّس فى وجدان الشعب ما لم يكنْ هذا الشعب على القدر نفسه من الحضور فى وجدان الأمير.
إنّ الذى يتمعن فى مسيرة هذا الرجل العظيم، يدرك جيّدا قيمةَ التسامح كحاجة إنسانيّة ملحّة تستحضرها البشرية اليوم وهى تغوص فى وحل الكراهيّة وبؤر التطرّف، فالتسامح هو الدواء الذى طالما رغبت عنه البشريّة ولا دواء لها غيره، وهو القانونُ الذّى أهمله المشرّعون وأعمله الأمير عبد القادر الجزائريّ وجعل منه دستورا فى معاملاته حتى مع المستعمر الفرنسي.. معلمًا البشرية أن هذه القيمة العظيمة لا تكون بين أفراد الدّين الواحد والوطن الواحد فحسب، بل حتى بين الديانات والأوطان لأن الإنسان واحدٌ فى نظر الأمير عبد القادر، وإن اختلفت ديانات البشرية ولغات شعوبها وأشكالهم، فإنّ مشاعرهم واحدة. واليوم يستعيد العالم بكلّ أطيافه مسألة الحوار بين الحضارات والثقافات والأديان إدراكا منهُ أن لا خلاص له إلاّ فى العودة إلى المنبع الذى ارتوى منه الأمير ومن كانوا من طينته، وما أقلهم.
فيا سيدى عبد القادر الجزائري؛ إنّ كلاما كثيرا يتزاحم اللحظةَ على طرف لسانى يرغب فى أن أُخرجَه، على هذه الصفحات، من القلبِ إلى محبيك، لكنّ ما قرأته فى الترجمة العربية الأولى لهذا الكتاب على يد الدكتور صبرى حسن، جعلنى أرتدى الفخر برنوسا، والعزّ عمامة، فإنّ من أعظمِ مشاعر الاعتزاز بمآثر ورجال تاريخنا الجزائرى أن نقرأهم فى كتب الآخرين، ونكتشفهم بعيون الأجانب ما يولّد حسّا جديدا وإحساسا مختلفا بذاتنا الجزائريّة والعربية والإنسانية.
ولعلّ ما يحفر فى وجدانى عميقا هو ما قرأته عن المؤلف بلونت، وهو الكاتب المثير للدهشة، فقد استحكمت فيه «العوربة» بعد زيارته الجزائر، وتخلّى عن «الأوْربة» التى نشأ على قيمها وثقافتها.. وذلك هو الإنسان الذى لا يمكن له أن يكون إلا منصفا عندما يرى الظلم والقهر.
فشكرا للمترجم الدكتور صبرى محمد حسن، وشكرا لمؤسسة «الأهرام» العريقة التى تحتلّ مكانة محترمة فى عالـم الصحافة والعلم والمعرفة، على هذا الجهد النافع المثمر، وإنّ طلبها منّا تصدير هذا الكتاب لثقة غالية أعتزّ بها، وإننى لأتشرّف بأنْ أصدّر للقارئ العربيّ هذا العمل الفريد المتميّز عله يجد فيه ما يساعدُه على فهمِ شخصيّة الأمير. وأؤكد لكم مرّة أخرى أنّ حاجتنا إلى البحث فى فكر الأمير أكبرُ من حاجة فكر الأميرِ إلينا، كونه من طينة الذين يصنعون التاريخ ولا تصنعهم الأحداث.