سيدنا عمير بن سعد الأنصاري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
كيف نشأ عمير بن سعد الأنصاري ؟
أيها الأخوة الأكارم, مع بداية الدرس الثامن والعشرين من دروس صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابيّ اليوم سيدنا عمير بن سعد، وقصته وقعت يوم كان في السنة العاشرة من عمره، انظروا إلى عظمة الإسلام شيخ في الثمانين يجاهد في سبيل الله ليصل إلى القسطنطينية، ويدفن هناك، وطفل في العاشرة من عمره، كأن صحابة رسول الله رضوان الله عليهم يمثِّلون كل النماذج البشرية، ويمثِّلون كل الأعمار، وكل الأحوال، وكل الأطوار، وكل البيئات، وكل المستويات، وكل القدرات والإمكانات، والإسلام يجعل من الإنسان بطلاً ولو كان صغيراً، ويجعل من الشيخ بطلاً ولو كان متقدماً في السن .
الغلام الصغير عمير بن سعد الأنصاري تجرّع كأس اليُتْم والفاقة منذ نعومة أظفاره، فقد مضى أبوه إلى ربه، ولم يترك له مالاً ولا معيلاً، لكن أمه ما لبثت أن تزوجت رجلاً ثريًّا من أثرياء الأوس في المدينة يدعى الجلاَّس بن سويد، فكفل ابنها عميراً، ولقي عمير مِن برِّ الجلاس وحسنِ رعايته وجميل عطفه ما جعله ينسى أنه يتيم .
أحب عمير الجلاس حبَّ الابن لأبيه كما أولع الجلاس بعمير ولع الوالد بولده، كأن عمير ابن الجلاس، وكأن الجلاس والد عمير، وكان كلما نما عمير وشب يزداد الجلاس له حباً وبه إعجاباً كما كان يرى به أمارات الفطنة والنجابة التي تبدو في كل عمل من أعماله .
يا أيها الأخوة الأكارم, إذا كان لأحدنا طفل صغير فليتأمّل منه خيرًا إن شاء الله، فهذا عمير في العاشرة من عمره كان بطلاً، وسوف ترون من قصته العجب العجاب، والذي عنده طفل عليه أن يعتني به، وعليه أن يرعاه، وأن يعلمه, عليه أن يؤدِّبه، فعليه أن يربِّيَه على قراءة القرآن ، وعليه أن ينشئه على حب النبي العدنان عليه أتم الصلاة والسلام .
متى أسلم عمير , وهل أسعد إسلامه والدته ؟
أسلم الفتى عمير، وبايع النبيَّ عليه الصلاة والسلام وهو صغير لم يجاوز العاشرة من عمره، فوجد الإيمان في قلبه الغض مكاناً خالياً فتمكن منه .
أيها الأخوة الأكارم, كلما بكّرتم بالإيمان كلما تمكّن الإيمان في قلوبكم، وكلما كانت نشأتكم منذ البداية على طاعة الله وطاعة رسوله وحب القرآن وحبِّ أهل الإيمان، كلما نما الإيمان وترعرع حينما تكبرون, مَن لم تكن له بداية محرقة، لم تكن له نهاية مشرقة، ريح الجنة في الشباب، هذه القصة عجيبة جداً لطفل في العاشرة مِن عمره .
مرة قلت لكم: دخل وفدٌ من الحجازيين على عمر بن عبد العزيز فانزعج الخليفة منهم، لأن فيهم غلاماً صغيراً، وكأن هذا الغلام انتقص من قدره، والأغرب من ذلك أن هذا الغلام وقف ليتكلم, فقال له الخليفة عمر:
((اجلس، وليقمْ مَن هو أكبر منك سناً، فقال: أصلح الله الأمير، المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا وهب اللهُ العبدَ لساناً لافظاً، وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمة مَن هو أحقُّ منك بهذا المجلس))
الغلام الثاني دخل على أحد الخلفاء الكبار مِن بني أمية, هشام بن عبد الملك، فلما رأى طفلاً صغيراً بين الوفد عاتب الحاجب، وقال:
((ما شاء أحدٌ أن يدخل عليَّ إلاّ دخل، حتى الأطفال، فقال هذا الغلام الصغير: أيها الأمير, إنّ دخولي عليك لن ينقص من قدرك، ولكنه شرَّفني, أصابتنا سَنَة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة دقَّت العظم، ومعكم فضولُ مالٍ، فإن كانت هذه الأموال لكم فتصدقوا بها علينا، وإن كانت لله فعلام تحبسوها عن عباده، فقال الخليفة: واللهِ ما ترك هذا الغلام لنا في واحدة عذرًا))
ومِن البطولات الغلمان، يُذكر أنّ عبد الله بن الزبير لما مرّ به سيدنا عمر، وكان مع جمع غفير من غلمان المدينة يلعبون، وكان عمرُ ذا هيبة عظيمة، فلما رأوه فرّوا وولّوا هاربين إلا عبد الله بن الزبير, فلَفَت نظرَ عمر بن الخطاب وقوفُه وأدبهُ، فقال:
((يا غلام, لِمّ لمْ تهرب مع من هرب؟ قال: أيها الأمير, لستَ ظالماً فأخشى ظلمك، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك، والطريقُ يسعني ويسعك))
ما هذا الإسلام الرفيع؟ ما هذا الأدب؟ وما هذه الفصاحة؟ بل ما هذه الجرأة؟ .
تفتح قلب عمير للإيمان، وتمكن الإيمان من قلبه، وألفى الإسلامُ في نفسه الصافية الشفافة تربةً خصبةً فتغلغل فيها، فإذا نشأ الإنسان في طاعة الله، أو أسْلم على كِبَرٍ فلا بأس، جزاه الله الخير، لكن الكبير في السن لا يعلم كثيراً مِن دينه، قال لي أحدُهم وهو يُعَبِّر عن تقدمه في السن: أنا الدولاب عندي ماسح، والعداد قالب، لا يكاد يعلم ما حوله، تكلمه عشر ساعات فيبقى محدودا، ومَنْ شبَّ على شيء شاب عليه، ومَن شاب على شيء مات عليه، ومَن مات على شيء حُشِرَ عليه، ومَن بلغ الأربعين ولم يغلب خيرُه شَرَّه فليتجهز إلى النار، فأروع ما في الحياة أن ترى شاباً ناشئاً في طاعة الله، إن الله ليباهي الملائكة بالشاب المؤمن, فيقول:
((انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي))
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ))
[أخرجه أحمد عن عقبة بن عامر في مسنده]
همّه فهمُ القرآن وحفظه, همه حضور مجالس العلم, همه صلاة الليل, همه فهم العلم, هذا الشاب المؤمن يساوي وزنه ذهباً كما يقولون، إنه شيء ثمين جداً .
أيها الأخوة الأكارم, أقول هذا لآباء الشباب المؤمنين: واللهِ أيها الأب, لو أنك تملك ملء الأرض ذهباً فإنّ هذا لا يقاس بابنٍ لك نشأ في طاعة الله، لأن هذا الابن ثروة حقًّا، وكل ثروتك تتركها في الدنيا, لكن هذا الابن المؤمن ثروة دائمة دنيا وأخرى, هذا الابن المؤمن الذي ينفع الناس مِن بعدك, هذا الابن المؤمن الذي يعلم الناس مِن بعدك, هذا الابن المؤمن الذي يعد استمراراً لك من بعدك, وهو الثروة الكبرى، لذلك فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ, قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ))
[أخرجه أبو داود في سننه عن عائشة]
كانت أمُّه كلما رأته ذاهباً إلى المسجد أو آيباً منه تغمرها الفرحة، ويملأ قلبها السرور، وإذا كنتُ أعجب لشيء لا أعجب إلا مِن أبٍ ينهى ابنه عن الصلاة في المساجد، ولا أعجب حائرًا إلاَّ من أبٍ لا يريد ابنه أن يسلك طريق الإيمان، فيضغط عليه بكل الوسائل ليصرفه عن طريق الحق، إن أخبره ابنه أنه كان مع رفاق السوء وفي دور الملاهي فلا يتكلم كلمة راشدة، ولا يعترض، أمّا إذا بلغ الأب أن الابن كان في مجلس علم أو في مسجد يقيم الدنيا ولا يقعدها، فما أشقى هذا الأب الذي يمنع ابنه عن سلوك أهل الإيمان؟ .
إليكم التجربة القاسية التي تعرض لها عمير ؟
سارت حياة الغلام عمير بن سعد على هذا النحو هانئة وادعة، لا يعكِّر صفوها معكر، ولا يكدِّر هناءتها مكدِّر حتى شاء الله، وها نحن الآن دخلنا في العقدة، أول قسم في فنّ القصة اسمه البداية، والبداية تنتهي حينما تستقرّ الأحداث، أما إذا تأزّمت وتداخلتْ ونشأت المشكلة فهذه هي العقدة، حتى شاء الله أن يُعرِّض الغلام اليافع لتجربة من أشدّ التجارب عنفاً، وأعظمِها قساوةً ، وأن يمتحنه الله امتحاناً قلّما مرّ بمثله فتىً في سنه, في السنة التاسعة للهجرة أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عزمه على غزو الروم في تبوك، وأَمَر المسلمِين بأن يستعدّوا، ويتجهزوا لذلك، هذه من أصعب الغزوات لبعد المسافة، والوقت كان في أشد أشهر الصيف حرارةً، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يغزو غزوة لم يصرِّح بها، وأوهم أنه يريد جهةً غير الجهة التي يقصد إليها، لأن الحرب خدعة، إلا في غزوة تبوك فإنه بيَّنها للناس لِبُعْدِ الشُّقَّة، وعِظَم المشَقَّة، وقوة العدو، ليكون الناس على بيّنة من أمرهم، وليأخذوا للأمر أهبتَه، ويعدّو له عدّته، وعلى الرغم من أن الصيف كان قد دخل، وأنّ الحرّ قد اشتدّ، والثمار قد أينعت، والظلال قد طابت، والنفوس قد ركنت إلى التراخي والتكاسل, على الرغم من كل ذلك فقد لبّى المسلمون دعوةَ النبي عليه الصلاة و السلام، وأخذوا يتجهزون، ويستعدَّون، فالمؤمن الصادق أداؤه للواجبات الدينية ليس على مزاجه، ولا حسبَ فراغه، ليس له خِيار .
غير أن طائفة من المنافقين أخذوا يثبِّطون العزائم، ويوهنون الهمم، ويثيرون الشكوك, و يغمزون الرسول صلوات الله عليه، ويطلقون في مجالسهم الخاصة من الكلمات ما يدمغهم بالكفر دمغاً دائماً، فالمنافق دائمًا يشكِّك, ويقول: أنا لا أقبض فلانًا، دائماً يطعن، دائماً يثبِّط العزائم، دائماً يبثُّ الشكوك، ويثير الفتنَ، ويشقُّ الصفوفَ، ويوهن العزائمَ، هذه مهمة المنافق، إنه طابور خامس ، يضعف معنويات المؤمنين، ويضخم مِن قوة أعدائهم، ويحلُّ بينهم الشقاق بين المؤمنين، ويضعف عزائمهم، ويطعن في نواياهم .
وفي يوم من هذه الأيام التي سبقتْ رحيلَ الجيش عاد الغلامُ عمير بن سعد إلى بيته بعد أداء الصلاة في المسجد، وقد امتلأت نفسُه بطائفة مشرقة من صور بذل المؤمنين وتضحيتهم، لقد رآها بعينه، وسمعها بأذنه، رأى نساء المهاجرين والأنصار يُقْبِلن على رسول الله، ينزعن حليهن ، ويلقينها بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، وأبصر الغلامُ عميرُ بعين رأسه عثمانَ بنَ عفان يأتي بجرابٍ فيه ألف دينار ذهباً، وقَدَّمه للنبي عليه الصلاة والسلام .
مَن الذي قال لك: قوةُ المال أقلُّ من قوة العلم؟ المال قوةٌ كبيرة في الحياة، والعلم قوة كبيرة، وإذا تعاون المال والعلم تحقّق المستحيل، أُناس آتاهم الله علماً، وأناسٌ آتاهم الله مالاً، أناس آتاهم الله وجاهةً وقوةً، هذه القُوى الثلاث تشكِّل القوة الكبرى في المجتمع، لذلك فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ, احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ, وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ, وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا, وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ, فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ))
[أخرجه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة]
لا بد من التفوق، وإنّ علو الهمة من الإيمان، لأنك إذا كنت كذلك كنت عوناً للمسلمين، وكنت قوةً لمجموع المسلمين .
وحملَ عبدُ الرحمن بن عوف على عاتقه مئتي أوقية من الذهب، وألقاها بين يدي النبي الكريم، هذا ما جاد به هؤلاء الأغنياء، أمّا الفقراء فصحابي جليل حمل على كتفه فراشه الذي لا يملك غيره، وَعَرَضَه للبيع، ليشتري بثمنه سيفاً يقاتل به في سبيل الله، فالكبير والصغير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، كل هؤلاء الصحابة الكرام بذلوا لهذه المعركة الحاسمة الشاقة والطويلة.
هذا الطفل الصغير عمير بن سعد استعاد هذه الصورة الفذة الرائعة، لكنه عجب أشَدّ العجب لتباطؤ الجلاس زوج أمه عن الاستعداد للرحيل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعجِب لتأخره عن البذل على الرغم من قدرته ويساره، وحينما عرض عمير بن سعد على عمه زوج أمه هذه الصور الفذّة، وهذه البطولات الرائعة، وهذا البذل السخي، وهذه التضحية، أراد أن يستثير حماسة عمّه، فقصَّ عليه أخبار ما سمع، وأخبار ما رأى، وخاصةً خبر أولئك النفر من المؤمنين الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه في لوعةٍ أن يضمّهم إلى الجيش الغازي في سبيل الله فردَّهم النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه لم يجد عنده من الركائب ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَناً ألا يجدوا ما يبلغهم أمنيتَهم في الجهاد .
لكن الجلاس زوج أم عمير بن سعد الذي أحبّه حبًّا جمًّا ما كاد يسمع من عمير ما سمع حتى انطلقت من فمه كلمة أطارت صواب الفتى المؤمن، قال الجلاس:
((إن كان محمّدٌ صادقاً فيما يدّعيه من النبوة فنحن شرٌّ من الحمير، -ما هذه الكلمة؟ هذه كلمة الكفر بعينها- فدهش عمير مما سمع، ولم يكن يظن أن رجلاً له عقل عمّه وسنّه تندُّ من فمه مثل هذه الكلمة، التي تُخرِج صاحبَها من الإيمان دفعة واحدة، وتدخله في الكفر من أوسع أبوابه))
هنا المشكلة، غلام في سن العاشرة حُمِّل ما لا يطيق فإنْ سكت على عمّه، وتستر عليه فقد خان الله ورسوله، لأن النبي يحسبه مؤمناً، بينما هو منافق وليس مؤمناً، بل كافرٌ محسوب على النبي أنه من أصحابه، وإنْ أذاع هذا الكلام كان عقوقاً لعمّه، وهو الذي أنقذه من الفقر واليتم ، وأكرمه، وأطعمه، وألبسه، ورعاه، وقدّم له كل ما يحتاج، إنه موقف عسير وخطير وشديد، وإنه لصراع عنيف، وكان على الفتى أنْ يختار بين أمرين، أحلاهما مُرٌّ, إن أبلغ النبي فقد عقَّ عمّه، وإن سكت عنه فقد خان النبي .
ما هو موقف عمير من الجلاس حينما سمع منه تلك الكلمة, وهل أنكر الجلاس كلام عمير أمام رسول الله وكيف تبينت الحقيقة ؟
أيها الأخوة, التفت عمير بن سعد إلى الجلاس، وقال:
((واللهِ يا عمّ ما كان على ظهر الأرض أحدٌ بعد محمد بن عبد الله أحبّ إليّ منك، وقد كنتَ آثرَ الناس عندي، وأجلَّهم يداً عليّ، ولقد قلتَ مقالةً: إنْ ذكرتُها فضحتْكَ، وإنْ أخفيتُها خنتُ أمانتي، وأهلكت نفسي وديني، وقد عزمتُ على أن أمضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قلت، فكن على بيِّنة من أمرك, وتصرف الفتى هذا لم يكن من خلف ظهر علمه .
-طبعاً العم كبير وثري، ومن وجهاء المدينة، والطفل عمره عشر سنوات، فهل يُعقَل أنْ يقبل التحدِّي؟- فمضى الفتى عمير بن سعد إلى المسجد، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما سمع من عمه الجلاس بن سويد، فاستبقاه النبي عليه الصلاة والسلام عنده، وأرسل أحدَ أصحابه ليدعو له الجلاس، وما هو إلا وقت قليل حتى جاء الجلاس فحيّا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:
?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ?
(سورة المجادلة الآية: 8)
وجلس بين يدي النبي، وقال عليه الصلاة والسلام: يا جلاس، مقالةٌ سمعها منك عمير بن سعد، وذكر له ما قاله، فقال: يا رسول الله, كذب عليَّ وافترى، فما تفوهت بشيء من ذلك، فكيف صار وضع هذا الطفل الصغير؟ وأخذ الصحابة ينقِّلون أبصارهم بين الجلاس وفتاه عمير بن سعد، كأنهم يريدون أن يقرؤوا على صفحتيْ وجوههما ما تكنُّه صدورهما، وجعلوا يتهامسون، فقال واحد من الذين في قلوبهم مرض: فتى عاق، أبَى إلا أن يسيء لمَن أحسن إليه، وقال آخرون: بل إنه فتىً نشأ في طاعة الله، وإن قسمات وجهه لتنطق بالصدق, التفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى عمير فرأى وجهه محتقنًا بالدم، والدموع تنحدر من عينيه، وتتساقط على خديه وصدره، وهو يقول: اللهم أنزل على نبيك بيانَ ما تكلمتُ فيه .
هذا الطفل الصغير يدعو الله عز وجل أن ينزل وحياً يصدِّق مقالته، فانبرى الجلاس، وقال: إنّ ما ذكرته لك يا رسول الله هو الحق، وإن شئتَ تحالفنا، نقسم بين يديك، وإني أحلف بالله أني ما قلت شيئاً مما نقله إليك عمير، فما إن انتهى من حلفه، وأخذت عيونُ الناس تنتقل عنه إلى عمير بن سعد حتى غشيت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه السكينةُ، فعرف أصحابُه أنه الوحي، نزل الوحي مباشرةً، فلزموا أماكنهم، وسكنت جوارحهم، ولاذوا بالصمت، وتعلقت أبصارهم بالنبي عليه الصلاة والسلام، وهنا ظهر الخوف والوجل على الجلاس، وبدا التلهُّفُ والتشوُّفُ على عمير، وظل الجميع كذلك حتى سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا قوله جل جلاله:
?يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ?
(سورة التوبة الآية: 74)
فارتعد الجلاس مِن هولِ ما سمع، وكاد ينعقد لسانه من الجزع، ثم التفت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: بل أتوب يا رسول الله، بل أتوب، صدق عمير يا رسول الله، وكنت أنا من الكاذبين ، اسأل اللهَ أنْ يقبلَ توبتي، جعلت فداك يا رسول الله، وهنا توجّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام إلى الفتى عمير بن سعد، فإذا دموعُ الفرح تبلِّل وجهه المشرق بالإيمان، فمدَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام يدَه الشريفة إلى أذنه، وأمسكها برفق، وقال: وفّتْ أذنُك يا غلام ما سمعت، وصدَّقك ربك ، وعاد الجلاس على إثر هذه الحادثة إلى حظيرة الإسلام، وحسُن إسلامُه .
-أمّا أروع ما في القصة- وقد عرف الصحابة صلاحَ حاله ممَّا كان يغدقه على عمير من بر، فعوضاً أنْ يطردَ عميرًا ضاعف له إكرامه، وأغدق عليه من البر الشيء الكثير، وكان الجلاس يقول كلما ذكر عميرًا: جزاه الله عني خيراً، فقد أنقذني من الكفر، وأعتق رقبتي من النار))هذه صورة من حياة عمير بن سعد، وكانت سنه لا تزيد عن عشر سنوات، فما قولكم أليس الإسلام عظيمًا يصنع الأبطال وهم صغار؟ لقد وقف موقفاً رائعاً، وكان فيه مخلصاً .
إليكم خطبة عمير لأهل حمص يوم تولى شؤون أهلها :
حينما كبر هذا الغلام وصار في سن الرشد أراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعيِّن والياً على حمص، نثر كنانته، وعجم عيدانها عوداً عوداً، فلم يجد خيراً من عمير بن سعد، رأى في هذا الصحابي الجليل أفضل إنسان يتولى أمر حمص، وصل عمير إلى حمص، ودعا الناس للصلاة في المسجد، ولما قُضِيَت الصلاة خطبَ الناسَ، وحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:
((أيها الناس, إن الإسلام حصن منيع، وباب وثيق، وحصنُ الإسلام العدلُ، وبابُه الحقُّ، فإذا دُكَّ الحصنُ، وحُطِّم البابُ استُبِيحَ حِمَى هذا الدين، وإنّ الإسلام ما يزال منيعاً ما اشتد السلطانُ، وليست شدة السلطان ضرباً بالسوط، ولا قتلاً بالسيف، ولكن قضاءً بالعدل، وأخذاً بالحق))
ما هذه الكلمات ؟
لماذا أرسل عمر لعمير كتاباً وما هو الاختبار الذي وضعه فيه وماذا رأى من عمير ؟
قضى عمير بن سعد حولاً كاملاً بحمص، لم يكتب خلاله لأمير المؤمنين كتاباً، ولم يبعث إلى بيت مال المسلمين من الفيء درهماً و لا ديناراً, فأخذت الشكوك تساورُ عمرَ بن الخطاب، إذ كان شديد الخشية على ولاته من فتنة الإمارة فلا معصوم عنده غير النبي عليه الصلاة والسلام, قال لكاتبه:
((اكتب إلى عمير بن سعد، وقل له: إذا جاءك كتاب أمير المؤمنين فدع حمص، وأقبل عليه، واحمل معك ما جَبَيْتَ من فيء المسلمين, تَلَقَّى عميرٌ الكتاب، فأخذ جراب زاده، وحمل على عاتقه قصعته ووعاء وضوئه، وأمسك بيده حربته، وخلّف حمص وإمارتها وراءه، وانطلق يحثّ الخطى مشياً على قدميه إلى المدينة، فما كاد يبلغ عمير المدينة حتى كان قد شحب لونه، وهزل جسمه، وطال شعره، ظهرت عليه وعثاءُ السفر، دخل عميرٌ على عمر رضي الله عنه فدهش الفاروق من حالته، وقال: ما بك يا عمير؟ قال: ما بي من شيء، فأنا صحيح معافى بحمد الله، أحمل معي الدنيا كلها، وأَجُرُّها من قرنيها، قال: ما معك من الدنيا؟ قال: معي جرابي وضعت فيه زادي، ومعي قصعتي آكل فيها، وأغسل عليها رأسي وثيابي، ومعي قربة لوضوئي وشرابي، ثم إن الدنيا كلها يا أمير المؤمنين تَبَعٌ لمتاعي، وفضلة لا حاجة لي، ولا لأحد غيري بها .
فقال عمر: وجئت ماشياً؟ قال: نعم، قال: أما أُعطِيتَ من الإمارة ولا دابة تركبها، هم لم يعطوني، وأنا لم أطلب منهم، وأين ما أتيت به لبيت المال؟ قال: لمْ آتِ بشيء، ولِمَ؟ قال: لمّا وصلتُ حمص جمعتُ صلحائها، وولّيتُهم جمعَ فيئهم، فكانوا كلما جمعوا شيئاً استشرتُهم في أمره ، فوضعته في مواضعه، وأنفقته على المستحقين منهم، فقال عمر لكاتبه: جدِّد عهداً لعمير على ولاية حمص، فقال عمير: هيهات فإن ذلك شيء لا أريده، ولن أعمل لك، ولا لأحد من بعدك يا أمير المؤمنين، ثم استأذنه بالذهاب إلى قرية من ضواحي المدينة يقيم فيها مع أهله، فَأذِنَ له، وبقي عمرُ يشكُّ فيه، فلم يمضِ على ذهاب عمير إلى قريته وقت طويل حتى أراد عمرُ أن يختبر صاحبه، وأن يستوثق من أمره، فقال لأحد ثقاته يُدعى الحارث: انطلق يا حارث إلى عمير بن سعد، وانزل به كأنك ضيف، فإن رأيتَ عليه آثارَ نعمة فَعُدْ كما أتيت، وإنْ وجدتَ حالاً شديداً فأعطِه هذه الدنانير، وناوله صُرّة فيها مئة دينار، فانطلق الحارث حتى بلغ قرية عمير، وسأل عنه فَدُلّ عليه، ولما لقيه قال: السلام عليك ورحمة الله، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، مِن أين قدمت؟ قال: من المدينة، قال: كيف تركت المسلمين؟ قال: بخير، قال: كيف أمير المؤمنين؟ قال: صحيح صالح، قال: أليس يقيم الحدود؟ قال: بلى، قال: اللهم أعِن عمرَ فإني لا أعلمه إلا شديد الحب لك .
أقام الحارث في ضيافة عمير ثلاث ليال، كان يخرج له كل ليلة بقرص من الشعير يقدمه له، فلما كان اليوم الثالث قال للحارث رجلٌ من القوم: لقد أجهدتَ عميرًا وأهله، فليس لهم إلا هذا الرغيف، وقد أضرّ بهم الجوع والجهد، فإن رأيتَ أن تتحّول فتحوّلْ إليَّ، عند ذلك أخرج الحارث الدنانير، ودفعها إلى عمير، فقال عمير: ما هذه؟ قال: دفع بها إليك أمير المؤمنين، قال: رُدَّها إليه، واقرأ عليه السلام، وقل له: لا حاجة لعمير بها، فصاحت امرأته مثل كل النساء، خذها يا عمير، فإن احتجتَ إليها أنفقتها، وإلا وضعتها في مواضعها، فالمحتاجون هنا كثيرون، فلما سمع الحارث قولها ألقى الدنانير بين يدي عمير وانصرف، فأخذها عمير، وجعلها في صرر صغيرة، ولم يبت ليلته تلك إلا بعد أن وزّعها بين ذوي الحاجات، وخصّ منهم أبناء الشهداء، وعاد الحارثُ إلى المدينة، وقال له عمر: ما رأيت يا حارث؟ قال: حالاً شديدة يا أمير المؤمنين قال: أدفعتَ إليه الدنانير؟ قال: نعم، قال: وما صنع بها؟ قال الحارث: لا أدري، وما أظنه يبقي لنفسه منها درهماً واحداً، فكتب الفاروق إلى عمير, يقول له: إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تقبل عليّ، وتوجَّهَ عمير إلى المدينة، ودخل على عمر رضي الله عليه، فرحّب به، وأدنى مجلسه، ثم قال له: ما صنعتَ بالدنانير يا عمير؟ قال: وما عليك منها بعد أن خرجتَ لي عنها؟ قال: عزمتُ عليك أن تخبرني بما صنعت بها؟ فقال: ادَّخرتها لنفسي لأنتفع بها في يومٍ لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فدمعت عينا عمر، وقال: أشهد أنك من الذين يؤثرون على أنفسهم، ولو كانت بهم خصاصة، فالآية انطبقت عليه، ثم أمر له بوسق من طعام وثوبين، فقال: أما الطعام فلا حاجة لنا به يا أمير المؤمنين، فقد تركت عند أهلي صاعين من شعير، وإلى أن نأكلهما يكون الله عز وجل قد جاء بالرزق، وأما الثوبان فآخذهما لأم فلان، -يعني زوجته- فقد بلي ثوبها، وكادت تعرى))
أرأيتم مثَل هذا الزهد؟ أرأيتم مثل هذه العفة؟ أرأيتم مثل هذا الورع؟ هذا عمير بن سعد يوم كان صغيراً، وهذا عمير بن سعد يوم صار كبيراً ووالياً، وتعفّف عن كل شيء يناله من هذه الإمارة .
هل حزن الفاروق على موت عمير ولماذا ؟
أيها الأخوة, جاءته المنية رضي الله عنه وبلغ الفاروقَ نعيُه، ووشح الحزنُ وجهَه، واعتصر الأسى فؤاده، وقال:
((وددتُ أن لي رجالاً كثيرًا مثل عمير بن سعد، استعين بهم في أعمال المسلمين))
هكذا كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نمط من أنماط الصحابة، فكل إنسان عنده طفل صغير، ولعل هذا الطفل الصغير يكون كهذا الصحابي الجليل، فاعتنُوا بأولادكم، علِّموهم، وأدِّبوهم، وعلِّموهم القرآن، وفقِّهوهم، ودلُّوهم على الله عز وجل، فلعل الله عز وجل يجعل من أولادكم قرّةَ عين لكم .والحمد لله رب العالمين