من مذكرات المتنبي في مصر
من مذكرات المتنبي (في مصر)..
رائعة الشاعر الراحل : أمل دنقل..
===============
أكره لون الخمر في القنينة
لكنني أدمنتها.. استشفاء
لأنني منذ أتيت هذه المدينة
وصرت في القصور ببغاء!
وعرفت فيها الداء!
أمثل ساعة الضحى بين يدي كافور
ليطمئن قلبه.. فما يزال طيره المأسور
لا يترك السجن ولا يطير
أبصر تلك الشفة المثقوبة
ووجهه المسود والرجولة المسلوبة
.. أبكي على العروبة!
يومئ يستنشدني: أنشده عن سيفه الشجاع
وسيفه في غمده.. يأكله الصدأ!
وعندما يسقط جفناه الثقيلان وينكفئ
أسير مثقل الخطى
في ردهات القصر
أبصر أهل مصر
ينتظرونه... ليرفعوا إليه المظلمات والرقاع!
جاريتي من حلب، تسألني "متى نعود؟"
قلتُ: الجنود يملأون نقط الحدود
ما بيننا وبين سيف الدولة..
قالت: سئمت من مصر
ومن رخاوة الركود
فقلت: قد سئمت مثلك القيام والقعود
بين يدي أميرها الأبله
لعنت كافورا
ونمت مقهورا...
"خولة" تلك البدوية الشموس
لقيتها بالقرب من "أريـــحا"
سويعة ثم افترقنا دون أن نبوحا
لكنها كل مساء
في خواطري تجوس
يفتر بالشوق والعتاب ثغرها العبوس
أشم وجهها الصبوحا
أضم صدرها الجموحا!
سألت عن القادمين
في القوافل
فأخبروني أنها ظلّت بسيفها تقاتل
في الليل تجّار الرقيق عن خبائها
حين أغاروا ثم غادروا شقيقها ذبيحا
والأب عاجزاً كسيحا
واختطفوها بينما الجيران يرنون المنازل
يرتعدون جسداً وروحا
لا يجرؤون أن يغيثوا سيفها الطريحا!
(ساءلني كافور عن حزني
فقلت إنها تعيش الآن في بيزنطة
شريدة ... كالقطة
تصيح: "كافوراه ... كافوراه"
فصاح في غلامه أن يشتري جارية رومية
تجلد كي تصيح: "واروماه .. واروماه"
لكي يكون العين بالعين.. والسن بالسن!)
في الليل
في حضرة كافور أصابني السأم
في جلستي نمت.. ولم أنم
حلمت لحظة بكـــا
وجندك الشجعان يهتفون: سيـف الدولة
وأنت شمس تختفي
في هالة الغبار عند الجولة
ممتطياً جوادك الأشهب شاهراً حسامك الطويل المهلكا
تصرخ في وجه جنود الروم
بصيحة الحرب.. فتسقط العيون
في الحلقوم
تخوض.. لا تبقي لهم إلى النجاءة مسلكا
تهوي ... فلا غير الدماء والبكا
ثم تعود باسماً... ومنهكا
والصبية الصغار يهتفون
في حلــب :
"يا منقــذ العرب"
"يا منقــذ العرب"
حين تعود... باسماً... ومنهكا
حلمت لحظة بكــا
حين غفوت
لكنني حين صحوت :
وجدت هذا السيد الرخوا تصدر البهوا
يقص في ندمانة عن سيفه الصارم
وسيفه في غمده يأكله الصدأ!
وعندما يسقط جفناه الثقيلان وينكفئ
يبتسم الخادم!
.. تسألني جاريتي أن أكتري للبيت حرّاسا
فقد طغى اللصوص في مصر
.. بلا رادع
فقلت: هذا سيفي القاطع
ضعيه خلف الباب ... متراسا!
"ما حاجتي للسيف مشهورا
ما دمتُ قد جاورتُ كافورا؟"
"عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ؟
بما مضى؟ أم لأرضي فيك تهويدُ؟
"نامت نواطير مصر" عن عساكرها
وحاربت بدلاً منها الأناشيدُ!
ناديت: يا نيــل هل تجري المياه دماً
لكي تفيض.. ويصحو الأهل إن نودوا؟
عيد بأية حال عدت يا عيدُ؟