شرح أحاديث رياض الصالحين باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح أحاديث رياض الصالحين باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين
71- باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين
قال الله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء:215) .
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)(المائدة:54) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(الحجرات:13) وقال تعالى: ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)(النجم: 32)
وقال تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ)(أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (الأعراف:49،48) .
الشرح
قال النووي رحمه الله تعالى في كتاب رياض الصالحين: باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين.
التواضع :ضد التعالي يعني ألا يترفع الإنسان ولا يترفع على غيره، بعلم ولا نسب ولا مال ولا جاه ولا إمارة ولا وزارة ولا غير ذلك؛ بل الواجب على المرء أن يخفض جناحه للمؤمنين، أن يتواضع لهم كما كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة عند الله؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتواضع للمؤمنين، حتى إن الصبية لتمسك بيده لتأخذه إلى أي مكان تريد فيقضي حاجتها عليه الصلاة والسلام .
وقول الله تعالى: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الحجر: 88) ، وفي آية أخرى: ( لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(الشعراء: 215).
(وَاخْفِضْ جَنَاحَك)(الشعراء: 215): أي تواضع؛ وذلك أن المتعالي والمترفع يرى نفسه أنه كالطير يسبح في جو السماء، فأمر أن يخفض جناحه وينزله للمؤمنين الذي أتبعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلم من هذا أن الكافر لا يخفض له الجناح وهو كذلك؛ بل الكافر تَرفَع عليه وتَعَالى عليه، واجعل نفسك في موضع أعلى منه؛ لأنك مستمسك بكلمة الله، وكلمة الله هي العليا.
ولهذا قال الله عزّ وجلّ في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )(الفتح: الآية29) ، يعني أنهم على الكفار أقوياء ذوو غلظة، أما فيما بينهم فهم رحماء.
ثم ساق المؤلف الآية الثانية وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ)(المائدة: 54) ، أي من يرجع منكم عن دينه فيكون كافراً بعد أن كان مؤمناً.
وهذا قد يقع من الناس، أن يكون الإنسان داخلاً في الإسلام عاملاً به، ثم يزيغه الشيطان- والعياذ بالله- حتى يرتد عن دينه، فإذا ارتد عن دينه فإنه لا يكون ولياً للمؤمنين، ولا يكون معيناً للمؤمنين، ولذا قال ( يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه)ُ يعني بقوم مؤمنين، ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه).
(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين يُجَاهِدُونَ ) ، فهم في جانب المؤمنين أذلة لا يترفعون عليهم، ولا يأخذون بالعزة عليهم، ولكنه يذلون لهم، أما على الكفار فهم أعزة مترفعون، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)) إذلالاً لهم، وخذلاناً لهم؛ لأنهم أعدى أعداء لك، وأعداء لربك، وأعداء لرسولك، وأعداء لدينك، وأعداء لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الآية دليلٌ على إثبات المحبة من الله عزّ وجلّ، وأن الله يحبُ ويُحب ( فَسَوْفَ يأتي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه)، وهذا الحب حبٌّ عظيمٌ لا يماثله شيء، تجد المحب لله عزّ وجلّ ترخص عنده الدنيا، والأهل، والأموال؛ بل والنفس، فيما يرضي الله عز وجلّ، ولهذا يبذل ويعرض رقبته لأعداء الله، محبة في نصرة الله عزّ وجلّ ونصرة دينه، وهذا دليلٌ على أن الإنسان مقدم ما يحبه الله ورسوله على ما تهواه نفسه.
ومن علامات محبة الله : إن الإنسان يديم ذكر الله؛ يذكر ربه دائماً بقلبه ولسانه وجوارحه.
من علامات محبة الله: أن يحب من أحب الله عزّ وجلّ من الأشخاص، فيحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويحب الخلفاء الراشدين، ويحب الأئمة، ويحب من كان في وقته من أهل العلم والصلاح.
من علامات محبة الله : أن يقوم الإنسان بطاعة الله، مقدماً ذلك على هواه، فإذا أذن المؤذن يقول: حي على الصلاة، ترك عمله وأقبل إلى الصلاة؛ لأنه يحب ما يرضي الله أكثر مما ما ترضي به نفسه.
ولمحبة الله علامات كثيرة، إذا أحب الإنسان ربه فالله عزّ وجلّ أسرع إليه حباً؛ لأنه قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي : (( ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)) ، وإذا أحبه الله فهذا هو المقصود، وهذا هو الأعظم.
ولهذا قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران:31)، ولم يقل : فاتبعوني تصدقوا الله، بل قال: (يُحْبِبْكُمُ اللَّه)ُ ؛ لأن هذه هي الثمرة أن يحب الربٌّ عزّ وجلّ عبده، فإذا أحب عبده نال خيري الدنيا والآخرة. جعلني الله وإياكم من أحبابه.
وفي قوله: (وَيُحِبُّونَه) دليلٌ على إثبات محبة العبد لربه، وهذا أمر واضحٌ واقع مشاهد، يجد الإنسان من قلبه ميلاً إلى ما يرضي الله، وهذا يدل على أنه يحب الله عزَّ وجلَّ.
والإنسان المؤمن الموفق لهذه الصفة العظيمة، تجده يحب الله أكثر من نفسه، أكثر من ولده، أكثر من أمه، أكثر من أبيه، يحب الله أكثر من كل شيء، ويحب المرء؛ لأنه يحب الله، ومعلوم أن المحب يحب أحباب حبيبه، فتجد هذا الرجل لمحبته لله يحب من يحبه الله عزَّ وجلَّ من الأشخاص، وما يحبه من الأعمال، وما يحبه من الأقوال.
ثم ذكر المؤلف الحافظ النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين تحت عنوان باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين في سياق الآيات المتعلقة بهذا الموضوع وقال: وقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)، يخاطب الله عزّ وجلّ الناس كلهم مبيناً أنه خلقهم من ذكر وأنثى أي من هذا الجنس أو من هذا الشخص.
يعني إما أن يكون المراد بالذكر والأنثى آدم وحواء.
أو أن المراد الجنس أي أن بني آدم خلقوا كلهم من ذكر وأنثى. وهذا هو الغالب، وهو الأكثر.
وإلا فإن الله خلق آدم من غير أم ولا أب، خلقه من تراب، من طين، من صلصال كالفخار، ثم نفخ فيه من روحه، خلق له روحاً فنفخها فيه فصار بشراً سوياً.
وخلق الله حواء من أب بلا أم.
وخلق الله عيسى من أم بلا أب.
وخلق الله سائر البشر من أم وأب.
والإنسان أيضاً كما أنه أربع أنواع من جهة مادة خلقه، كذلك هو أربعة أنواع من جهة جنس الخلق، يقول الله عزّ وجلّ: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى:50،49) .
هذه أيضاً أربعة أقسام:
(يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً )أي : بلا ذكور، يعني يوجد بعض الناس يولد له الإناث ولا يولد له ذكور أبداً، كل نسله إناث.
(وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُور) فيكون كل نسله ذكوراً بلا إناث.
(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثا) ً يزوجهم يعني يصنفهم؛ لأن الزوج يعني الصنف، كما قال تعالى: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) (صّ:58) . يعني أصناف، وقال : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) (الصافات:22)،أي أصنافهم وأشكالهم، يزوجهم يعني يصنفهم ذكراناً وإناثاً، هذه ثلاثة أقسام.
القسم الرابع: (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً ) لا يولد له لا ذكر ولا أنثى، لأن الله سبحانه وتعالى له ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء، لا معقب لحكمه وهو السميع العليم.
يقول جلّ ذكره: (وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ) ، الشعوب: الطوائف الكبيرة؛ كالعرب والعجم وما أشبه ذلك، والقبائل: ما دون ذلك، جمع قبيلة، فالناس بنو آدم شعوب وقبائل.
شعوب: أمم عظيمة كبيرة: كما تقول: العرب - بجميع أصنافهم، والعجم بجميع أصنافهم، كذلك القبائل دون ذلك، كما تقول: قريش، بنو تميم، وما أشبه ذلك، هؤلاء القبائل.
(لِتَعَارَفُوا) : هذه هي الحكمة من أن الله جعلنا شعوباً وقبائل من أجل أن يعرف بعضنا بعضاً، هذا عربي، وهذا عجمي، هذا من بني تميم هذا من قريش، هذا من خزاعة، وهكذا.
فالله جعل هذه القبائل من أجل أن يعرف بعضنا بعضاً، لأن من أجل أن يفخر بعضنا على بعض، فيقول: أنا عربي وأنت عجمي، أنا قبيلي وأنت خضيري، أنا غني وأنت فقير، هذا من دعوى الجاهلية والعياذ يالله، لم يجعل الله هؤلاء الأصناف إلا من أجل التعارف لا من أجل التفاخر، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقيّ وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب )).
فالفضل في الإسلام بالتقوى، أكرمنا عند الله هو أتقانا لله عزَّ وجلَّ، فمن كان لله أتقى فهو عند الله أكرم.
ولكن يجب أن نعلم أن بعض القبائل أو بعض الشعوب أفضل من بعض ، فالشعب الذي بعث فيه الرسول عليه الصلاة والسلام هو أفضل الشعوب، شعب العرب أفضل الشعوب، لأن الله قال في كتابه: ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )(الأنعام: 124).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) .
ولا يعني هذا إهدار الجنس البشري بالكلية، لكن التفاخر هو الممنوع، أما التفاضل فإن الله يفضل بعض الأجناس على بعض، فالعرب أفضل من غيرهم، جنس العرب أفضل ن جنس العجم، لكن إذا كان العربي غير متقٍ والعجمي متقياً، فالعجمي عند الله أكرم من العربي.
ثم ساق المؤلف الآيات الأخرى: ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) لا تزكوها: أي لا تصفوها بالزكاة افتخاراً، وأما التحدث بنعمة الله على العبد مثل أن يقول القائل: كان مسرفاً على نفسه، كان منحرفاً، فهداه الله ووفقه ولزم الإستقامة؛ تحدثاً بنعمة الله لا تزكيه لنفسه؛ فإن هذا لا بأس به ولا حرج فيه أن يذكر الإنسان نعمة الله عليه في الهداية والتوفيق، كما أنه لا حرج أن يذكر نعمة الله عليه بالغنى بعد الفقر.
وقوله: (هوََ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) هو أي : الرب عزّ وجلّ،( أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) وكم ممن شخصين يقومان بعلم أو يدعان عملاً وبينهما في التقى مثل ما بين السماء والآرض، ولهذا قال: (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) ؛ تجد الشخصين يصليان كل واحد جنب الآخر، لكن بين ما في قلوبهما من التقوى مثل ما بين السماء والأرض، شخصان يتجنبان الفاحشة لكن بينهما في التقوى مثل ما بين السماء والأرض، ولهذا قال: (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) .
ثم ذكر المؤلف آية أخرى وهي قوله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأعراف:48) ، أصحاب الأعراف : قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فلا يدخلون الجنة ولا يدخلون النار، يحشر أهل النار في إلى النار، ويساق المتقون إلى الرحمن وفداً إلى الجنة زمراً، فيدخل أهل النار النار، وأهل الجنة والجنة، وأصحاب الاعراف في مكان مرتفع.
فالأعراف جمع عرف، وهو المكان المرتفع، لكن ليسوا في الجنة وليسوا في النار، وهم يطلعون إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، وفي النهاية يدخلون الجنة؛ لأنه ليس هناك إلا جنة أو نار، هما الباقيتان أبداً، وأما ما سواهما فيزول.
يقول الله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) أي: بعلاماتهم معرفة تامة، (قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) يعني جمعكم المال والأولاد والأهل، ما أغني عنكم هؤلاء، وما أغنى جمعكم من الناس الذين هم جنودكم، تجمعونهم إليكم وتستنصرون بهم، ما أغنوا عنكم شيئاً، (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) يعني وما أغنى عنكم استكباركم على الحق.
(أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ) يعني الضعفاء، وكان الملأ المكذبون للرسل يسخرون من المؤمنين ويقولون ( أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا )(الأنعام: 53) ، يقولون أهؤلاء أصحاب الرحمة؟ أهؤلاء أهل الجنة؟ يسخرون منهم (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) (المطففين:29-31) . فيقولون لهم: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) يعني قد قيل لهم : ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (لأعراف:49). إذاً صار تواضعهم للحق واتباعهم الرسل هو الذي بلغهم هذه المنازل العالية، أما هؤلاء المستكبرون الذين فخروا بما أغناهم الله به من الجمع والمال؛ فإن ذلك لم يغن عنهم شيئاً، فدلَّ ذلك على فضل التواضع للحق، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتواضعين له وللحق الذي جاءت به رسله إنه على كل شيء قدير.
* * *
1/202- وعن عياضِ بن حمارٍ رضي الله عنهُ قال: قال رسول الله لصلى الله عليه وسلم : (( إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ)) رواه مسلم.
2/603- وعن أبي هُريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ما نقصت صدقة من مالٍ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً، وما تواضع أحداً إلا رفعةُ الله)) رواه مسلم.
4/604- وعنه قال: إن كانت الأمةُ من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيثُ شاءت. رواه البخاري.
الشرح
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله في كتاب رياض الصالحين في باب التواضع؛ فمنها حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا)) يعني أن يتواضع كل واحد للآخر ولا يترفع عليه؛ بل يجعله مثله أو يكرمه أكثر، وكان من عادة السلف- رحمهم الله- إن الإنسان منهم يجعل من هو أصغر منه مثل ابنه، ومن هو أكبر مثل أبيه، ومن هو مثله مثل أخيه، فينظر إلى من هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال، وإلى من هو دونه نظرة إشفاق ورحمة، وإلى من هو مثله نظرة مساواة، فلا يبغي أحد على أحد، وهذا من الأمور التي يجب على الإنسان أن يتصف بها، أي بالتواضع لله عزّ وجلّ ولإخوانه من المسلمين.
وأما الكافر فقد أمر الله تعالى بمجاهدته والغلظة عليه وإغاظته وإهانته بقدر المستطاع، لكن من كان له عهد وذمة فإنه يجب على المسلمين أن يفوا له بعهده وذمته، وألا يخفروا ذمته، وألا يؤذوه ما دام له عهد.
ثم ذكر المؤلف حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( ما نقصت صدقة من مال)) يعني أن الصدقات لا تنقص الأموال كما يتوهمه الإنسان ، وكما يعد به الشيطان ، فإن الشيطان كما قال الله عزّ وجلَّ: ( يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ )(البقرة: 268)
الفحشاء: كل ما يستفحش من بخل أو غيره، فهو يعد الإنسان الفقر، إذا أراد الإنسان أن يتصدق قال: لا تتصدق هذا ينقص مالك، هذا يجعلك فقيراً، لا تتصدق، أمسك ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن الصدقة لا تنقص المال، فإن قال قائل: كيف لا تنقص المال، والإنسان إذا كان عنده مائة فتصدق بعشرة صار عنده تسعون، فيقال : هذا نقص كمًّ، ولكنها تزيد في الكيف، ثم يفتح الله للإنسان أبواباً من الرزق تردّ عليه ما أنفق، كما قال الله تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(سـبأ: 39)، إي يجعل بدله خلفاً، فلا تظن أنك إذا تصدقت بعشرة من مائة فصارت تسعين أن ذلك ينقص المال؛ بل يزيده بركة ونماءً، وترزق من حيث لا تحتسب.
(( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزّاً))، يعني أن الإنسان إذا عفا عمن ظلمه فقد تقول له نفسه: إن هذا ذل وخضوع وخذلان، فبين الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله ما يزيد أحداً بعفو إلا عزاً، فيعزه الله ويرفع من شأنه، وفي هذا حثّ على العفو، ولكن العفو مقيد بما إذا كان إصلاحاً؛ لقول الله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)(الشورى:40).
أما إذا لم يكن إصلاحاً بل كان إفساداً؛ فإنه لا يؤمر به، مثال ذلك: اعتدى شخص شرير معروف بالعدوان على آخر ، فهل نقول للآخر الذي اعتُدي عليه: اعف عن هذا الشرير؟ لا نقول : اعف عنه؛ لأنه شرير، إذا عفوت عنه تعدَّى على غيرك من الغد، أو عليك أنت أيضاً، فمثل هذا نقول : الحزم، والأفضل أن تأخذه بجريرته، يعني أن تأخذ حقك منه، وألا تعفو عنه؛ لأن العفو عن أهل الشر والفساد ليس بإصلاح؛ بل لا يزيدهم إلا فساداً وشراًّ.
فأما إذا كان في العفو خير وإحسان، وربما يخجل الذي عفوت عنه ولا يتعدى عليك ولا على غيرك فهذا خير.
(( وما تواضع أحد لله إلا رفعه)) هذا الشاهد من الحديث: ((ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)).
والتواضع لله له معنيان:
المعني الأول: أن تتواضع لدين الله ، فلا تترفع عن الدين ولا تستكبر عنه وعن أداء أحكامه.
والثاني : أن تتواضع لعباد الله من أجل الله، لا خوفاً منهم، ولا رجاء لما عندهم ، ولكن لله عزَّ وجلَّ.
والمعنيان صحيحان، فمن تواضع لله؛ رفعه الله عزّ وجلّ في الدنيا وفي الآخرة، وهذا أمر مشاهد، أن الإنسان المتواضع يكون محل رفعة عند الناس وذكر حسن، ويحبه الناس، وانظر إلى تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أشرف الخلق، حيث كانت الأمة من إماء المدينة تأتي إليه، وتأخذ بيده، وتذهب به إلى حيث شاءت ليعينها في حاجتها، وهذا هو أشرف الخلق، أمة من الإماء تأتي وتأخذ بيده تذهب به إلى حيث شاءت ليقضى حاجتها، ولا يقول أين تذهبين بي، أو يقول: اذهبي إلى غيري، بل كان يذهب معها ويقضي حاجتها، لكن مع هذا ما زاده الله عز وجلّ بذلك إلا عزّاً ورفعة صلوات الله وسلامه عليه.
* * *
3/605- وعن أنس رضي الله عنه ُأنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلهُ . متفق عليه.
5/606- وعن الأسود بن يزيد رضي الله عنه قال: سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله- يعني: خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة. رواه البخاري.
6/607- وعن أبي رفاعة تميم بن أُسيد رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت : يا رسول الله، رجل غريبٌ جاء يسألُ عن دينه لا يدري ما دينُهُ؟ فأقبل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك خُطبتهُ حتى انتهى إليّ ، فأتي بكرسي، فقعد عليه، وجعل يُعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبتهُ، فأتم آخرها. رواه مسلم.
الشرح
هذه الأحاديث ذكرها الحافظ النووي رحمه الله تعالى في رياض الصالحين في بيان تواضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منها أنه كان يسلم على الصبيان إذا مرّ عليهم، مع أنهم صبيان غير مكلفين ومع ذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يسلم عليهم، واقتدى به أصحابه رضي الله عنهم، فعن أنس رضي الله عنه أنه كان يمر بالصبيان فيسلم عليهم، يمر بهم في السوق يلعبون فيسلم عليهم ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله: أي : كان يسلم على الصبيان إذا مَر عليهم، وهذا من التواضع وحسن الخلق، ومن التربية وحسن التعليم والإرشاد والتوجيه؛ لأن الصبيان إذا سلَّم الإنسان عليهم، فإنهم يعتادون ذلك، ويكون ذلك كالغريزة في نفوسهم.
إن الإنسان إذا مرّ على أحد سلم عليه، وإذا كان هذا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم على الصبيان، فإننا نأسف لقوم يمرون بالكبار البالغين ولا يسلمون عليهم والعياذ بالله، قد لا يكون ذلك هجراً أو كراهة، لكن عدم مبالاة، وعدم اتباع للسنة، جهل، غفلة، وهم إن كانوا غير آثمين؛ لأنهم لم يتخذوا ذلك هجراً، لكنهم قد فاتهم خيرٌ كثير.
فالسنة أن تسلم على كل من لقيت، وأن تبدأه بالسلام ولو كان أصغر منك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ من لقيه بالسلام، وهو عليه الصلاة والسلام أكبر الناس قدراً، ومع ذلك كان يبدأ من لقيه بالسلام.
وأنت إذا بدأت من لقيته بالسلام؛ حصلت على خير كثير، منه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومنه أنك تكون سبباً لنشر هذه السنة التي ماتت عند كثير من الناس، ومعلوم أن إحياء السنن يؤجر الإنسان عليه مرتين، مرة على فعل السنة، ومرة على إحياء السنة.
ومنه أن تكون السبب في إجابة هذا الرجل وإجابته فرض كفاية، فتكون سبباً في إيجاد فرض الكفاية من هذا الرجل.
ولهذا كان ابتداء السلام أفضل من الرد، وإن كان الرد فرضاً وهذا سنة، لكن لما كان الفرض ينبني على هذه السنة؛ كانت السنة أفضل من هذا الفرض؛ لأنه مبني عليها.
وهذه من المسائل التي ألغز بها بعض العلماء وقال: عندنا سنة أفضل من الفريضة؛ لأنه من المتفق عليه أن الفرض أفضل، مثلاً صلاة الفجر ركعتان أفضل من راتبتها ركعتين؛ لأنها فرض والراتبة سنة، لكن ابتداء السلام سنة، ومع ذلك صار أفضل من رده؛ لأن رده مبنى عليه.
فالمهم أنه ينبغي لنا إحياء هذه السنة، أعني إفشاء السلام، وهو من أسباب المحبة، ومن كمال الإيمان، ومن أسباب دخول الجنة، قال النبي صلى عليه الصلاة والسلام: (( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ افشوا السلام بينكم)) .
ومن تواضع النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في بيته في خدمة أهله، يحلب الشاة، يخصف النحل، يخدمهم في بيتهم ؛ لأن عائشة سئلت ماذا كان النبي صلى اله عليه وسلم يضع في بيته؟، قالت: (( كان في مهنة أهله )) ، يعني في خدمتهم عليه الصلاة والسلام.
فمثلاً الإنسان إذا كان في بيته فمن السنة أن يصنع الشاي مثلاً لنفسه، ويطبخ إذا كان يعرف، ويغسل ما يحتاج إلى غسله، كل هذا من السنة، أنت إذا فعلت ذلك تثاب عليه ثواب سنة، اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام وتواضعاً لله عزّ وجل؛ ولأن هذا يوجد المحبة بينك وبين أهلك، إذا شعر أهلك أنك تساعدهم في مهنتهم أحبوك، وازدادت قيمتك عندهم، فيكون في هذا مصلحة كبيرة.
ومن تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام أنه جاءه رجلٌ وهو يخطب الناس فقال: ((رجل غريب جاء يسأل عن دينه)) كلمة استعطاف؛ بل كلمة غريب، وجاء يسأل ، يسأل مالاً، بل جاء يسأل عن دينه، فأقبل إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقطع خطبته، حتى انتهى إليه، ثم جيء إليه بكرسي، فجعل يعلم هذا الرجل؛ لأن هذا الرجل جاء مشفقاً محباً للعلم ، يريد أن يعلم دينه حتى يعمل به، فأقبل إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقطع الخطبة، ثم بعد ذلك أكمل خطبته، وهذا من تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام وحسن رعايته.
فإن قال قائل :أليست المصلحة العامة أولى بالمراعاة من المصلحة الخاصة؟ وحاجة هذا الرجل خاصة، وهو صلى الله عليه وسلم يخطب في الجماعة؟ قلنا: نعم لو كانت مصلحة العامة تفوت؛ لكان مراعاة المصلحة العامة أولى، لكن مصلحة العامة لا تفوت، بل إنهم سيستفيدون مما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الغريب، والمصلحة العامة لا تفوت.
وهذا الغريب الذي جاء يسأل عن دينه إذا أقبل إليه الرسول عليه الصلاة والسلام وعلمه كان في هذا تأليف لقلبه على الإسلام، ومحبة للإسلام، ومحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من حكمة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضى.
* * *
7/608- وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث، قال: وقال: (( إذا سقطت لقمة أحدكم، فليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان)) وأمر أن تسلت القصعة قال: (( فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)) رواه مسلم.
9/610- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لو دعيت إلى كراع أو ذراع لآجبتُ، ولو أهدي إلى ذراعٌ أو كراعٌ لقبلتُ)) رواه البخاري.
10/611- وعن أنس رضي الله عنه قال: كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق، أو لا تكادُ تسبقُ، فجاء أعرابي على قعود له، فسبقها فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (( حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعهُ)) رواه البخاري.
الشرح
هذه الأحاديث ذكرها الحافظ النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين في باب التواضع، فمنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الأكل لعق أصابعه الثلاث. لعقها: يعني لحسها حتى يكون ما بقي من الطعام فيها داخلاً في طعامه الذي أكله من قبل، وفيه فائدة ذكرها بعض الأطباء؛ أن الأنامل تفرز عند الأكل شيئاً يعين على هضم الطعام.
فيكون في لعق الأصابع بعد الطعام فائدتان:
فائدة شرعية : وهي الأقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وفائدة صحية طبيه : وهي هذا الإفراز الذي يكون بعد الطعام يعين على الهضم.
والمؤمن لا يهمه ما يتعلق بالصحة البدينة، أهم شيء عند المؤمن هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به؛ لأن فيه صحة القلب، وكلما كان الإنسان للرسول صلى الله عليه وسلم أتبع؛ كان إيمانه أقوى.
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (( إذا سقطت لقمة أحدكم )) يعني على الأرض أو على السفرة (( فليمط عنها الأذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان )) فإذا سقطت اللقمة أو التمرة أو ما أشبه ذلك على السفرة؛ فخذها وأزل ما فيها من الأذى إن كان فيها أذى من تراب أو عيدان وكلها؛ تواضعاً لله عز وجلّ، وامتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وحرماناً للشيطان من الأكل معك، لأنك إذا تركتها أكلها الشيطان.
والشيطان ربما يشارك الإنسان في أكله في مثل هذه المسألة، وفيما إذا أكل ولم يسم، فإن الشيطان يشاركه في أكله.
والثالث أمر بسلت الصحن أو القصعة، وهو الإناء الذي فيه الطعام، فإذا انتهيت فأسلته، بمعنى أن تلحسه، تمر يدك عليه وتتبع ما علق فيه من طعام بأصابعك وتلعقه.
وهذا أيضاً من السنة التي غفل عنها كثيرٌ من الناس مع الأسف كثير من الناس حتى من طلبة العلم أيضاً، إذا فرغوا من الأكل وجدت الجهة التي تليهم ما زال الأكل باقياً فيها، لا يلعقون الصحفة، وهذا حلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم بين الرسول عليه الصلاة والسلام الحكمة من ذلك فقال: (( لا تدرون في أي طعامكم البركة )) قد تكون البركة من هذا الطعام في هذا الذي سلته من القصعة.
وفي هذا الحديث حسن تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه إذا ذكر الحكم ذكر الحكمة منه؛ لأن ذكر الحكمة مقروناً بالحكم يفيد فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى : بيانه سمو الشريعة، وأنها شريعة مبنية على المصالح، فما من شيء أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا والمصلحة في وجوده، وما من شيء نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا والمصلحة في عدمه.
الفائدة الثانية : زيادة اطمئنان النفس؛ لأن الإنسان بشر قد يكون عنده إيمان وتسليم بما حكم الله به ورسوله، لكن إذا ذكرت الحكمة ازداد إيماناً، وازداد يقيناً، ونشط على فعل المأمور أو ترك المحظور.
ثم ذكر المؤلف حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الأعرابي الذي جاء بقعود له، ناقة ليست كبيرة، أو جمل ليس بكبير، وكانت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العضباء وهي غير القصواء التي حجّ عليها، هذه ناقة أخرى، وكان من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يسمي دوابه وسلاحه وما أشبه ذلك.
فالعضباء هذه كان الصحابة رضي الله عنهم يرون أنها لا تُسبق أو لا تكاد تُسبق، فجاء هذا الأعرابي بقعوده فسبق العضباء، فكأن ذلك شقَّ على الصحابة رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف ما في نفوسهم: ((حقٌ على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)).
فكل ارتفاع يكون في الدنيا فإنه لابد أن يئول إلى انخفاض، فإن صحب هذا الارتفاع ارتفاع في النفوس وعلو في النفوس، فإن الوضع إليه أسرع؛ لأن الوضع يكون عقوبة، وأما إذا لم يصحبه شيء، فإنه لابد أن يرجع ويوضع؛ كما قال الله تبارك وتعالى : (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ)(يونس: 24)أي ظهر فيه من كل نوع.
( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ )(يونس: 24)ذهبت كلها. كل هذه الزينة، وكل هذا النبات الذي اختلط من كل صنف، كله يزول كأن لم يكن، وهكذا الدنيا كلها تزول كأن لم تكن، حتى الإنسان نفسه يبدو صغيراً ضعيفاً، ثم يقوى، فإذا انتهت قوته عاد إلى الضعف والهرم، ثم إلى الفناء والعدم، فما من شيء ارتفع من الدنيا إلا وضعه الله عزّ وجلّ.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام : "(( من الدنيا )) دليلٌ على أن ما ارتفع من أمور الآخرة فإنه لا يضعه الله، فقوله تعالى: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )(المجادلة: 11) ، هؤلاء لا يضعهم الله عزّ وجلّ ما داموا على وصف العلم والإيمان، فإنه لا يمكن أن يضعهم الله؛ بل يرفع لهم الذكر ، ويرفع درجاتهم في الآخرة، والله الموفق.
------
466 رواه مسلم ، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، رقم (2166).
467 رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه)رقم (7405)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله تعالى، رقم (2675).
468 رواه ابو داود ، كتاب الأدب ، باب في التفاخر بالأحساب، رقم (5116) والترمذي كتاب المناقب، باب في فضل الشام واليمن، رقم (3956).
469 رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قول الله تعالى(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ) : رقم (3493) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب خيار الناس، رقم (2526).
470 رواه مسلم، كتاب الجنة باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة، رقم (2865) (64).
471 رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب استحباب العفو والتواضع ، رقم (2588).
472 رواه البخاري ، كتاب الأدب ، باب الكبر، رقم (6072)
473 رواه البخاري، كتاب الاستئذان، باب التسليم على الصبيان، رقم (6247)، ومسلم ، كتاب السلام ، باب استحباب السلام على الصبيان، رقم (2168).
474 رواه البخاري، كتاب الأذان، باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة...، رقم (676).
475 رواه مسلم، كتاب الجمعة ، باب تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (876).
476 رواه مسلم ، كتاب الإيمان، باب انه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون رقم (54).
477 رواه مسلم ن كتاب الأشربة، باب استحباب لعق الأصابع، رقم (2034).
478 رواه البخاري، كتاب الهبة، باب القليل من الهبة، رقم (2568).
479 رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم رقم (2872).