قبائل جبالة :خلوة التصوف
×××××
... يثير المشي فينا شهية الاكتشاف والتحدي، فلا نعبأ بطول المسافات أو بالإرهاق الذي يصيب الأرجل و البدن ، لأن عزيمة المشاء أقوى ... يغالب كل الصعاب سعيا للبحث عما لا يراه و الماثل أمامه لا يشفي غليله ، بل يثير فضوله للذهاب بعيدا ...شعاري الدائم و اطلالتي المفضلة عليكم في العالم الأزرق منذ أن تذوقت طعم السفر و الاكتشاف الميداني قبل سنوات، شهر بعد شهر و سنة بعد سنة و سفر بعد سفر يكبرالحلم و تزداد العزيمة .
....سفر روحاني بقبائل جبالة في موسم حج الأولياء الصالحين و احياء ليالي الزوايا بمناسبة المولد النبوي الشريف ... سفر ليومين ــ أزيد من20 كلم مشيا على الأقدام ــ عبرت من خلاله الزمن والمكان والوجدان وصولا الى عمق معتقدات وعوالم الانسان الصوفي في أعالي الجبل و كرامات أقطابه من سيدي هدي ببني عروس الى قلعة الريسوني بتازروت ومن شيخ جبالة عبد السلام بن مشيش الى سيدي حبيب في قمة الجبل .
الجزأ الأول : الخميس 24 دجنبر 2015.
· سفر بني عروس : التبوهيلة في احياء الليلة .
سفر مختلف هذه المرة مع الزميلين حسن و عبد الاله ، ومعهما يحلو السفر باكرا... من طنجة الى أصيلة عبر الطريق الوطنية ثم الانعطاف يسارا نحو مركز أربعاء عياشة ومنها الى ضريح سيدي هدي قرب مركز "خميس بني عروس" قلب قبيلة بني عروس وهي من قبائل جبالة الصنهاجية الأصل، التابعة لاقليم العرائش بجهة طنجة تطوان الحسيمة، تحدها شرقا قبيلة بني حسَن وقبيلة بني ليث، وشمالا قبيلة بني يدير وقبيلة جبل الحبيب، وغربا قبيلة الغربية وقبيلة بني جرفط، وجنوبا قبيلة سوماتة وقبيلة أيت يسف، وجزء من قبيلة الاخماس في الجنوب الشرقي... وقاعدتهم القديمة مركز تازروت، وتشتهر بمدارسها العلمية وعلمائها، ومن أشهرهم شيخ جبالة عبدالسلام بن مشيش(tribus-maroc.blogspot.com) .
لوحة تشوير "بلاكا " مهمولة كتب عليها " الولي الصالح سيدي هدي " ترشد الزائرعبر طريق ترابية وسط غابة الزيتون و البري مسافة 1 كلم تقريبا، نخلة فريدة فوق ربوة على ضفة الوادي و بناء قرموذي عتيق أحمر اللون وبئر بجانبه شجرة توت وسط ساحة ... إنه ضريح سيدي هدي قطب من أقطاب التصوف في بلاد جبالة الذي ذاع صيته في الأفاق و قصده الحجاج من كل الأصقاع ومن كل الفئات الاجتماعية و المستويات التعليمية ... عرفوا في التراث الشعبي بطائفة "هداوة " .
استقبلنا "مقدم" السيد الذي ورث "تقدمت" عن أبيه "مجذوب وصوفي كبيرحسب قوله" يحمل في يده مفتاح حديدي كبير الحجم و أثر التعب واضحة على محياه ، فتح باب خشبي قائلا " تفضلوا"... دخلنا حفاة الأقدام كما يفرض طقس زيارة الأولياء في المعتقد الشعبي و احتراما لخصوصيات المكان ... قبرين متجاورين وضوء خافت ينبعث من شمعة على "الطاقة" و رائحة البخور و الجاوي تزكم الأنوف ...أثار الجذبة الصوفية و أعلام خضراء تزين الجدران .
جلسنا في الزاويا ، وبسرعة بدأ يسرد علينا تاريخ سيدي هدي و كراماته و قصصه العجيبة من حصوله على " مفاتيح رجال جبالة السبعة" تقديرا لكراماته الكثيرة الى قصة جلباب بن عجيبة العجيب وعن الزوار الكثر الذين قضوا ليلة بيضاء تحت الاشجار للدعاء ، و بفخر لا تخفيه نبرة صوته وملامح وجهه استعرض على مسامعنا قصة سيدة مهمة من الرباط قصدت الولي قبل أيام فقط طلبا لبركته.... جلسة قصيرة في الزمن مع عارف بعالم التصوف ومتشبعا به يحب الزهد و التزعد تؤكد أن حدود الخوارق و قدرات الأولياء في نظره لا وجود لها ، ختم كلامه ب "هذا مكان أولادي " و دعانا الى زيارة الزاوية يوم فاتح ماي " يوم اللمة " لنتعرف أكثر على سيدي هدي و طقوس مورديه.
تزخ الذاكرة الشعبية لسكان قبائل جبالة بقصص غريبة له كولي صاحب البركات و كصوفي اختار الانعزال للتعبد في الجبل وكسارق نساء في حكايات أخرى، أما زاويته فهي عاصمة البوهالة في البلاد ومكانهم المفضل للتجمع وممارسة طقوسهم التي يعتبر السبسي و المطوي و الركيلة و الطبل كبير رموزا لها... كانوا يخطفون النساء و يسجنهن تحت الأرض لإعداد قصعات الكسكس للزوار و الموريدين و كلهم من هداوة و بوهالة كما تؤكد العديد من الروايات الشفوية .
روايات تؤكدها الأبحاث التاريخية أيضا ، مجلة زمان التاريخية )العدد 49 لشهر نونبر 2015 ( وصفته ب "سلطان الكيف" في ملف خاص حول قصة المغاربة مع الخمر و الحشيش "... في هذا السياق برز اسم سيدي هدي زعيم هداوة باعتباره من أكبر مدخني الكيف في التراث الشعبي... كان سيدي هدي بن عمر المتوفى سنة 1805م متصوفا بمنطقة بني عروس بالشمال المغربي اشتهر ببوهيميته وزهده في الحياة مبتدعا في ذلك طريقة بوهالية احتل فيها تدخين الكيف مكانة أساسية. "
أما روني برونيل في كتابه «رهبان الإسلام المتجولون» فتحدث عن علاقة الصوفينن الكبيرين ببلاد جبالة " عبد السلام بن مشيش و هدي "و كيف اصبحا رفييقين في الحل والترحال " ...بل وصار عبد السلام بن مشيش ينظر بعين العطف إلى أتباع سيدي هدي من هداوة وبوهالة. وأكثر من ذلك جعل منه شريكا على قدم المساواة عندما خاطبه قائلا: "أنت تقدّم للزوار وجبة العشاء، وأنا أقدم لهم وجبة الغذاء".
غير أن صاحب الـدرر البهية في المسائل الفقهية كان له رأي مخالف تماما حيث عدد كراماته و قدراته الخارقة بقوله " ...كان رضي الله عنه قوي الحال،كثير الأحوال،ذا كرامات وأسرار، وعلامات وأنوار،قصده الناس للزيارة في حياته وبعد مماته،وتوجه لزيارته الأولياء الأكابر،اخبرني بعض الصالحين الأخيار أن الولي الصالح سيدي علي بن احمد دفين وزان قصده للزيارة ،فلما قرب من محله وهو وقتئذ بالغابة ،ومستقره شجرة جوفاء،وجه رسوله مستأذنا في اتيانه اليه،فأجاب الرسول قائلا:ارجع الى صاحبك سيدي علي وقل له:يرجع من حيث وفد،لئلا تحترق شمعته بهذه النار.فلما رجع الرسول لسيدي علي وأخبره قال،سمعنا وأطعنا.
في نهاية الزيارة التقطنا صورا توثقية للمكان و ودعنا " المقدم " الذي ردد دعواه المعتادة " الله ابلغ المقصود" و انصرفنا ...الى سوق خميس بني عروس ومنه كانت الوجهة قرية تازروث في أعلى جبل بوهاشم حيث مقر الزاوية الريسونية و قصر الثائر الجبلي الذي حيرالعالم مطلع القرن 20 م بعد اختطافه المثير للملياردير الأمريكي برد ديكاريس .