غونجا و المرتفع الأصوري ... صراع أبدي
×××××
"... وا غنجا غنجيت الله ... جيب الشتا من عند الله"، "غيث غيتك يا الله...رحم عبيدك يا الله"
ذكريات من زمن الطفولة تطفو على سطح الذاكرة من حين لأخر... شيء من ذاكرتي الطفولية يقاوم الزوال رغم البعد الزمني و المكاني للحدث ...ذكريات ذكرني بها فلاح بسيط التقيناه يوم الأحد بأعلى جبل غير بعيد عن سد واد الحاشف نواحي طنجة و قد جمع ماشيته في أعلى الصخر و بدأ يتأمل السماء ، وسرعان ما كشف همومه و معها هموم الفلاح المغربي البسيط ، بادله التحية زميل لي... ومن غير مقدمات صاح بصوت مرتفع : الله يرحمنا ولادي واها...
فتذكرت أنا القادم من عمق هموم الأرياف ــ وفي الذكرى دائما حنين ــ عندما كنا صبيانا وأطفالا صغارا بقرية نائية من قرى جبالة، وتحديدا عندما كنت أدرس في مسيد القرية و حتى بعد التحاقي بالمدرسة الابتدائية في أعلى الجبل .
أتذكر... طقس استثنائي خاص بالنساء و الأطفال الصغار والحماس... بعفوية الجميع كان ينشد في الموكب الإحتفالي "... وا غنجا غنجيت الله ... جيب الشتا من عند الله"، كلما انحبس المطر أو تأخر ونفذ صبر فلاحو القرية بعدما طال انتظارهم وتعبت أعناقهم من البحث عن االسحب في السماء كل صباح و انتظاروا طويلا نشرة الطقس الاذاعية لعلها تحمل النبأ السار ... قبل الإستعانة بقدرات غونجا الخارقة كما هو راسخ في المعتقد الشعبي لسكان القرى .
"غونجا" أو “تاغنجا” أو " تسليت أونزار " بالأمازيغية وهو إسم لعروس خرافية وعادة قديمة جدا عند سكان القبائل الجبلية و باقي سكان الأرياف المغربية لطلب الغيث كلما جفت السماء و التربة و تضرر الزرع و البهائم و نضبت الأبار و العيون ... في موسم غياب الأمطار.
بعد اتفاق مسبق على الزمان و المكان ، تجتمع نساء القرية في جو يملؤه الخشوع و الدعاء ... لصناعة "غونجا" من خلال لف قصبة طويلة بقطع من الثوب البالي و الممزق حتى تصبح على شكل مجسم إمرأة لها رأس و ذراعين و تزين بقلادة عقيق و يحدد مسار الطواف فيملء كل مشارك سطل من الماء وتحمل "غونجا" في مقدمة الموكب ويبدأ الطواف عبر طرقات القرية في جو من الخشوع النسائي و الفرحة الطفولية لتكون النهاية بمسجد القرية .
على طول مسار الطواف كنا نرفع ونردد شعارات خاصة بالمناسبة و تعكس الحالة النفسية المتذمرة لسكان القرى من شدة خوفهم على المزروعات و البهائم )مصدر قوتهم الوحيد (لأن الذاكرة الشعبية تسجل أن الجفاف يساوي القحط و الجوع و العطش وبعده الهلاك و الموت ،أما الأمطار فهي رمز الخصب و الخير و الغلة الوفيرة“إذا روات فالليالي ....عول على السمن بالقلالي " يقول المثل الشعبي.
فكنا ننشد بصوت مرتفع أناشيد كلها مناجاة و نداء و تذرع الى الخالق ليغيث الزرع و البهائم و حياة الانسان " الزرع صفارو أوراقو ... رويه يا لي خلقو " ،" الفولة العطشانة ... رويها يا مولانا " بل كنا نحدد نوع الأمطار التي نريدها بين طلب مطرخفيف " غونجا بالعقيق.... جيب الشتا الرقيق" و مطر غزير "و غنجا بالشلالق ... جيب الشتا بالخنادق" .
ومن أقوى لحظات الموكب التي ينتظرها الجميع هي تبادل الرش بالماء ،و العادة على الجميع أن يأخذ نصيبه من البلل ولا حق لأحد في الاحتجاج أو الهروب حتى لا تغضب غونجا ، ومازلت الى اليوم اأحتفظ في ذاكري بمشهد هجوم موكب غونجا بكامله على رجل مسن في مسجد القرية و كيف أفرغنا عليه دفعة واحدة وبلا شفقة ما نحمل من الماء، فما كان أمام المسكين إلا اغلاق باب المسيد للإفلات من المزيد.
في النهايةكان الجمع يتفرق ويقصد كل واحد منا سكناه و بداخلنا قناعة مؤكدة بقدوم أمطار الخير في القادم من الأيام ...طبعا بين العلم و الأسطورة مسافات،لكن صدفة سقوط الأمطار مباشرة بعد نهاية طقس غونجا كان يهزم الحقيقة العلمية
· الأمطار بين حقيقة العلم و أسطورة غونجا .
شاءت الأقدار أن أترك قريتي و غونجاها بدافع الدراسة ، وتخصصت في دراسة الجغرافيا بالجامعة مع حب خاص لمادة المناخ و فهمت بعض أبجديات علم المناخ الدينامي و مفعول المراكز النشطة " الضغوط المرتفعة و الضغوط المنخفضة " و فهمت أن مناخ المغرب بحكم موقعه العرضي وآليات الدورة الهوائية العامة يتحكم فيه مركزين نشيطين ديناميين أساساين هما المنخفض الاسلندي و المرتفع الأصوري بالاضافة الى تأثيرات بعض المنخفضات و المرتفعات الثانوية الضعيفة المفعول .
ــ المنخض الاسلندي: يتمركز فوق جزيرة اسلندا قرب الجزر البريطانية و يوجه الكتل الهوائية الرطبة نحو جنوب أوربا وشمال افريقا مسببا اضطرابات جوية تصاحبها رياح و تساقطات خلال فصل الشتاء.
وخلال فصل الصيف تتغير معطيات الطقس )الحرارة و الرياح و الضغوط... (فينكمش المنخفض الإسلندي ويتراجع فاتحا المجال أمام عمل مفعول المركز الثاني الذي يهم المغرب و هو المرتفع الأصوري .
ــ المرتفع الآصوري: مرتفع جوي يتمركز فوق جزر الأصور وسط المحيط الأطلسي يتمدد خلال فصل الصيف ليشمل جنوب أوربا و شمال افريقا ويصاحبه جو صحو و مستقر وهذا أمر طبيعي ، أما غير الطبيعي هو تمدده ليغطي المناطق المذكورة خلال فصل الشتاء ويقف حاجزا قويا في وجه تقدم الكتل الهوائية الرطبة المشبعة ببخار الماء القادمة من الشمال الغربي للأطلسي في اتجاه شمال افريقا مسببا جفافا شاملا ،و هي الحالة التي نعيشها في المغرب منذ شهرين تقريبا.
· المرتفع الأصوري و المغاربة : ذكريات أليمة
الأصوري مرتفع عنيد وقاسي بسبب قوة مفعوله ، وعبر التاريخ لم يكن فقط سببا في تأخر الامطار و سيادة الجفاف بل أدى الى ما هو أفظع ... مند القديم نحتفظ به في ذاكرتنا الشعبية السوداء ونتوارث عنه من جيل الى جيل حكايات غرائبية و أغاني تراثية و أمثال شعبية ...و صار مرجعا للتأريخ عند الإنسان القروي فنقول : عام الجوع أو عام أيارنا أو عام البون أو عام بوهيوف و الجوع لكحل ....و دونته كتب التاريخ و الآداب وبالمناسبة نذكر "المجاعات و الأوبئة في تاريخ المغرب،" لصاحبه محمد زنيبر، و من صلب المعاناة التي سببها هذا المرتفع العنيد نسجت خيوط روايات عالمية و"الخبز الحافي" لمحمد شكري واحدة منها ، في رواية شكري صورا ناذرة عن المجاعة التي ضربت الريف ومناطق أخرى من المغرب و هجرت الأهالي و أدت الى الموت الجماعي في حالات كثيرة، ويكفي أن نتذكر مشاهد الموت التي وصفها شكري في الطريق الى طنجة بحدثا عن الخبر الكثير ... كما لا ننسى أيضا أن التاريخ يسجل أنه كان سببا في انهيار دول كبرى و ابعاد سلاطين و نشر الفتنة و صرف أطماع الأجانب عن البلاد ...
غونجا ....ترى أين رحلتي ، هل أعود الى قريتي و أصنعك من قصب و ما تبقى من ثيابي البالية هناك ...وأعود الى زمني الطفولي لأناجيك من أعماقي ببراءة ذاك الزمن ...وأطلب قدراتك الخارقة لهزم المرتفع الأصوري ... ولكن كوني متأكدة هذه المرة سيكون إلحاحي عليك أقوى،سأطلب منك القضاء النهائي على الأصوري ،سأطلب منك مواجهته في نزال نهائي تحضره ألهة من زمن زوس وهيرا ،و سأترجاك أن تنثر أشلائه بعيدا في العالم السري هناك حيث اختفت الطائرة الأندونيسية وتريحنا منه الى الابد .... ولكن ليس اليوم انتظري، انتظري ... لأن الظروف غير ملائمة لتنظيم موكب احتفالي يليق بمقامك.
.... وما غونجا والأسطورة اليوم غير جزء من ذاكرتي التي أعتز بها ....وكل أمالنا و رجاؤنا في لله سبحانه و تعالى أن يرحمنا برحمته و دعاؤنا الوحيد له "اللهم اسق عبادك و بهيمتك ، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت"
×××××