عن ام كلثوم فى الصحف الاجنبيه
أقوال جاهزة شارك غردكيف حدث أن امرأة بالتحديد هي من وصلت لمنزلة كمنزلة أم كلثوم في مجتمع أبوي مثل المجتمع المصري؟ شارك غرد"لأربعين عاماً يبحثون عمن تشبهها، ولم يجدوا" من مقال عن أم كلثوم نشر في صحيفة هاآرتس لمناسبة مرور أربعين عاماً على موت أم كلثوم، نشرت صحيفة هاآرتس مقالاً مطولاً عن أم كلثوم للصحفي والباحث الإسرائيلي الشاب- من أصول مصرية- Eyal Sagui Bizawe. يبحث Bizawe في مسيرة كوكب الشرق، يتساءل عن شعبيتها الكبيرة، كيف بنتها خطوة خطوة وكيف حافظت عليها، ويقدم تصوّراً لصعودها مرتبطاً بالظرفين الاجتماعي والسياسي في مصر، ولتساؤلات المصريين عن هويتهم وكيف أسهمت أم كلثوم نفسها في بلورة هذه الهوية بغنائها. في ما يلي ترجمة كاملة للمقال. في عام 1989 طولب الرسام المصري صلاح عناني بأن يرسم من أجل وزارة الثقافة المصرية لوحة موضوعها "مائة عام من التنوير في مصر". رسم عناني كبار المثقفين المصريين من نهاية القرن التاسع عشر فصاعداً، وجميعهم تقريباً كانوا رجالاً. شخصيّتان نسائيّتان فقط عُرضتا في اللوحة: الأولى، الفلاحة، ابنة القرية، وهي ليست امرأة بعينها، معروفة ومشهورة، وإنما رمز وطني. في مقابلها، شخصيّة المرأة الثانية في اللوحة، أم كلثوم. تظهر في قلب اللوحة، تقف على منصة، أعلى من جميع الرجال. مثلما في لوحات الأرابيسك التي تركز النظر على نقطة واحدة وتعبّر بهذا عن فكرة فرادة الإله، كان الأمر هنا: المرأة التي في المركز هي من تجذب إليها الأنظار، كأنها إلهة. من تحتها يتكدّس جميع الرجال، يجلسون متلاصقين هذا بجانب ذاك. حتى محمد عبد الوهاب، كبير الموسيقيين المصريين في القرن العشرين والعدو اللدود لأم كلثوم، يبدو في اللوحة كأنه يركع تحت رجليها. أما حولها فينفرج حيز صغير مفتوح، يتيح لنا أن نرى صورتها كاملة. والأنظار متجهة إليها. أم كلثوم بلا شك هي ملكة الثقافة المصرية، ليس في عيني الرسام عناني فحسب، وإنما يراها الملايين في أنحاء العالم رمزاً للثقافتين المصرية والعربية الحديثتين، "صوت الأمة"، كما سمتها الباحثة الأمريكية فرجينيا دنيالسون. توّجها محبوها بألقاب مثل "كوكب الشرق"، و"الست"، و"الهرم الرابع"، وسمّى الأباء بناتهم على اسمها، وفي عدادهم الأديب نجيب محفوظ وزوجته. وفي رحلاتها إلى العالم العربي استقبلها رؤساء وملوك في المطارات، وكان التقدير الذي حظيت به تقديراً لزعيمة، وصورتها، التي أصبحت أيقونة ثقافية، طبعت على طوابع رسمية للدولة وعلى تي-شيرتات، وملفات، وأقراط، وأكسسوارات أخرى. كيف حدث أن امرأة بالتحديد هي من وصلت لمنزلة كمنزلة أم كلثوم في مجتمع أبوي مثل المجتمع المصري؟ ليست امرأة فقط، وإنما مغنية أيضاً، بينما الغناء يُعدّ مهنة محتقرة في المجتمع التقليدي. بشكل خاص عندما يكون الكلام عن النساء، وصوتهن بالطبع عورة. أكثر من هذا، لماذا هي تحديداً؟ كيف أنه من بين جميع المغنيات اللاتي عشن في عصرها، ولم يكن سيئات البتة، حصلت أم كلثوم بالتحديد على منزلتها الخاصة في مصر وفي العالم العربي كله؟ ولدت أم كلثوم، واسمها الشخصي فاطمة إبراهيم البلتاجي، في قرية طماي الزهايرة في دلتا النيل، في وقت يراوح بين 1898-1904 (لم يكن هناك وقتذاك تسجيل دقيق للمواليد). كانت عائلتها فقيرة وأبوها كان إمام المسجد المحلي. وهي تبلغ خمس سنوات أرسلت مع أخيها خالد لتعلم القرآن في الكُتّاب ثم في المدرسة بالقرية المجاورة. لم يكن لدى الأب ما يكفي من المال للإنفاق على استمرار تعليم الطفلين، وبعد سنوات معدودة أخرج البنت من المدرسة وأبقى على الابن، ولكن كان هناك ما يكفي في هذه السنوات كي تحوز أم كلثوم الموهبة التي ستستخدمها على مدى أكثر من خمسة عقود من المسيرة الموسيقية: في التقاليد الموسيقية العربية معروف أن من يريد إتقان نطق اللغة، نطق الكلمات ومعانيها والغناء بالصورة الفضلى، عليه تعلم القرآن، وبدقة أكبر "تجويد القرآن"، أي القراءة المنغمة. فالكتاب المقدس تنبغي قراءته بصوت عال، والقراءة يجب أن تكون دقيقة، من خلال الاهتمام بالنطق الصحيح للحركات والأصوات المحددة، وببناء الجملة، بوقفاته وبالمواضع التي ينبغي أخذ نَفَس فيها بدون الإضرار بمعنى النص. بعد ذاك ستحكي أم كلثوم في حوار أنها في السنوات الأولى قلدت أباها وأخاها "كالببغاء"، بدون فهم معنى الكلام الذي كانت تقرأه. ولكن، منذ طفولتها لاحظ أبوها موهبتين حبيت بهما: الأولى هي القدرة على الحفظ والاستظهار شفوياً، فقد كانت تبهر الجميع أكثر مما كان يفعل أخوها خالد، والثاني، والأهم، صوتها الجميل والخاص. كدخل إضافي، اعتاد الأب الظهور مع ابنه وأقرباء آخرين في قرى الدلتا منشدين قصائد دينية في مناسبات عائلية وفي الأعياد. في إحدى هذه المناسبات، بينما كان عليهم الظهور في بيت عمدة القرية، مرض أخو أم كلثوم، وقرر الأب إشراك ابنته في الحفل وهي تلبس ملابس صبي. صحيح أنه في هذه السنوات كانت هناك نساء في مصر يعرضن ويغنين أغاني دينية، ولكنهن اعتدن الظهور أمام النساء فقط، أو أمام الرجال وهن منقبات أو جالسات خلف ستار. الحفل الأول الذي أحيته أم كلثوم في بيت عمدة القرية، وهي لم تبلغ بعد العشر سنوات، حاز نجاحاً كبيراً. كانت الطفلة محط اهتمام قرى المنطقة ومدينة السنبلاوين، والمزيد من الناس أرادوا من أبيها دعوتها للعروض، ومن بينهم أيضاً كان أبناء النخبة المدينية. في بداية العشرينيات، بعد أن تعرفت في إحدى حفلاتها إلى المغني المحبوب لديها، محمد أبو العلا، والملحن الشهير زكريا أحمد، بدأت أم كلثوم إحياء عروض في القاهرة أيضاً. علّمها أبو العلا الغناء العربي الكلاسيكي القديم، من خلال التأكيد على معاني النص، ثم علمها أيضاً العزف على العود. بعدها دعا زكريا أحمد أم كلثوم وعائلتها للانتقال والسكنى في القاهرة، بهدف تعريفها إلى خيرة المبدعين في ذاك الوقت ولربطها بصناعة الترفيه التجارية. الأب الذي خاف على السمعة الطيبة لابنته لم يسارع إلى الموافقة، ولكن في عام 1923 رضي وانتقلت العائلة كلها للقاهرة. ولكن بداية طريق أم كلثوم في المدينة لم تكن سهلة إطلاقاً. صحيح أنها كانت معروفة ومشهورة، إلا أن أسلوب نمط عروضها وأغانيها لم يوائم صناعة الترفيه. كانت قاهرة العشرينيات مدينة كوزموبوليتانية. في ملاهيها الليلية تجري عروض لراقصات شرقيات، ولمونولوجيستات، ولمغنين ومغنيات بصحبة الموسيقى. وأغلبية الجمهور من الرجال الذين اعتادوا شرب الكحول وكانوا يستمتعون أحياناً أيضاً بتدخين الحشيش، وأحياناً يغازلون العارضات أو يتحرشون بهن. في حوار من فيلم توثيقي للمخرجة [الإسرائيلية] Simone Bitton عن أم كلثوم، تحكي المذيعة أمال فهمي، أن في ذاك الوقت كان شائعاً أن يشعل الرجال الأوراق المالية كجزء من سلوكياتهم الفاسدة أمام المغنيات، أو يخلعون أحذيتهن ويصبون بداخلها الويسكي ويشربون منها. وصلت أم كلثوم لهذه الملاهي في بداية حياتها بالمدينة. في البدء كانت لا تزال تلبس ملابس صبي، على رأسها كوفية وعقال، مصحوبة برجال عائلتها. وبعدها أيضاً، عندما تخلت عن ملابس الصبي، ظهرت في لباس تقليدي ومحتشم، بغطاء للرأس، وتغني أغاني دينية قديمة وأغاني حبّ للنبي. لم يتجاهل النقاد قدراتها الصوتية وموهبتها، ولكنهم ادعوا أيضاً أنها لا تضيف شيئاً وأن ليس فيها روح فنية. في جريدة "روز اليوسف"، على سبيل المثال، كُتب عنها في 1926: "أين إضافاتها؟ هي مغنية دينية، وأسلوب غنائها قائم في مصر منذ سنوات طويلة". أكثر من هذا، فقد شكا جمهور الرجال في عروضها من كونه لا يتلقى مقابلاً مناسباً للمال الذي دفعه. أكثر من مرة أزعجوها خلال العرض، وكان أقرباؤها أو أصحاب المكان يضطرون للتدخل من أجل إيقاف الشغب المربك. ادعوا أن أسلوبها ثقيل جداً ولا يناسب الملهى الليلي، وأن عرضها كئيب وقديم، وأنها لا تتقن حتى الآن السلوكيات والأساليب المدينية الحديثة (وحكى معارفها أنها كانت تحتاج لتعلم الأكل بالشوكة والسكين) وأن مجموعة الرجال الذين يصاحبونها بالموسيقى يفسدون الأمر. في مسلسل درامي عن أم كلثوم أُنجز في مصر منذ سنوات عدة يتم التعبير عن الأمر أيضاً في مشهد تزعق فيه مجموعة سكارى بين الجميع باتجاه أم كلثوم: "عاوزين شوية فرفشة". أم كلثوم، خلافاً لرغبة أبناء أسرتها، استجابت لطلب الجمهور. ببطء بدأت في تغيير أسلوب أغانيها، وانتقلت من القصائد الدينية وقصائد الحب للنبي إلى أغان أكثر خفة، أغاني الحب المعروفة بالطقاطيق والمكتوبة بالعامية وليس بالفصحى. في الوقت نفسه، فقد حسّن دخولها لدوائر النخبة أداءها جداً بل أدى لتغيير في طريقة لبسها. خلعت غطاء الرأس التقليدي، وبدلت ملابسها القروية بفساتين سهرة بطراز أكثر أوروبية، وفي النهاية فصلت أباها وأخاها وسائر الرجال المرافقين واستأجرت لنفسها تختاً (تشكيلة أدوات موسيقية تتضمن غالباً أربعة أو خمسة عازفين للعود، الناي، والقانون، والكمان، والدف) بدلاً من المصاحبة الصوتية. بهذا نصبت نفسها مغنية منفذة تصارع من أجل مكانها في صناعة الترفيه التجارية وتطمح للمزيد من الشعبية. ظاهرياً، يبدو كما لو أن أم كلثوم قد استجابت للإملاءات الذكورية التي أدارت صناعة الترفيه الرأسمالية. ولكن، في مقابل موهبتها الموسيقية ظهرت أيضاً موهبة المغنية الشابة كسيدة أعمال ذكية، تريد السيطرة على جميع تفاصيل مسيرتها، من الصغير للكبير. من ناحية، غيرت أسلوب لبسها إلى ما هو أكثر غربية وحداثة، ومن ناحية ثانية، حافظت على ملابس محتشمة تستجيب للشفرات الثقافية والمحلية. لم تظهر البتة بشعر منسدل ولم تلبس ملابس مكشوفة كما اعتادت مغنيات معاصرات أخريات ذلك، مثل فتحية أحمد أو منيرة المهدية. بعدها سيكون هناك أيضاً من يقولون إنه حتى المنديل الذي اعتادت الإمساك به في عروضها وأصبح رمزها التجاري هو علامة على أنها أزاحت غطاء الرأس، ولكنها لم تتخلّ عنه فعلاً. أكثر من هذا، فهي فصلت بالفعل أبناء عائلتها الذين دافعوا عنها من الرجال في عروضها، ولكنها استأجرت خدمات مجموعة من الداعمين، الذين رافقوها في جميع العروض، جلسوا بين الجمهور، وعلموا المشاهدين كيفية التصرف: متى يُسمع بالتهليل والثناء على المغنية، ومتى ينبغي الحفاظ على الهدوء، وبالطبع، أوضحوا أنه ممنوع الوصول إليها، ولا، حاشا لله، محاولة مغازلتها. بهذا، لم تدافع أم كلثوم عن نفسها فقط، إنما بالتدريج أدخلت شفرات مختلفة للسلوكيات في عروض المغنيات، وتمكنت من تغيير علاقة المجتمع بالمغنيات وبدرجة ما بمهنة الغناء عموماً، بل مهدت الطريق لدخول النساء في العروض كقطاع شرعي من الجمهور. في عروضها من الستينيات يمكننا أن نرى بين الجمهور رجالاً ونساء، متدينين وعلمانيين، قرويين ومدينيين. هذا وأكثر. مع استئجار التخت، تحولت أم كلثوم إلى واحدة من المغنيات المطلوبات، وتعاملت مع نفسها على هذا الأساس. بدأت في طلب مبالغ كبيرة من أجل عروضها، وعندما لم تكن ترغب في العرض بمكان بعينه لم تكن ترفض البتة وإنما ببساطة كانت تطلب مبلغاً كبيراً غير متوقع. بهذا جعلت من نفسها المغنية الأغلى في العالم العربي، ثم بسرعة المغنية الأكثر تقديراً أيضاً. في بداية الثلاثينيات أصبحت معروفة، ليس في مصر وحدها وإنما خارجها أيضاً وقدمت حفلات في دمشق، وبيروت، وحيفا، ويافا، والقدس. يبدو أن التوقيت الذي اجتاحت فيه أم كلثوم الوعي كان مثالياً. أسهمت في هذا مسيرتان مرت بهما مصر في هذه السنوات، الأولى تكنولوجية والثانية تاريخية. من الناحية التكنولوجية، فقد بدأت في الظهور من نهاية القرن التاسع عشر وسائل توزيع مريحة لم تكن موجودة من قبل في العالم العربي: بدايةً من الصحف، التي أتاحت نشر الأخبار عن فنان بعينه، ومنشورات بخصوص عروضه وما إلى ذلك، وبعدها بدأت السينما التي مكنت المغنين والمغنيات من التمثيل في الأفلام وجعلتهم أكثر قرباً للجماهير غير القادرة على رؤية عروضهم، وكذلك الجرامافون الذي أتاح تسجيل أغانٍ واسكتشات وإذاعتها في المقاهي، والراديو وما إلى ذلك. كل هذا نشر صيت أم كلثوم في أنحاء العالم العربي. اعتادت الإذاعة المصرية أيضاً تقوية بثها عندما كانت تذيع عروضها الحية، مما سمح بسماعها من المغرب في الغرب حتى العراق في الشرق، من اليمن في الجنوب وحتى سوريا في الشمال. بعد سنوات معدودة من بدء مسيرتها الموسيقية أصبحت أم كلثوم المغنية الأكثر شهرة والمطلوبة أكثر في الحيز العربي. بالإضافة لهذا، كانت مصر في العشرينيات في ذروة عملية بلورة هوية وطنية، بعد ثورة 1919 التي طالب فيها المصريون بالاستقلال والتحرر من الاستعمار البريطاني. تعاطى المجتمع المصري في هذه السنوات مع معضلة غير بسيطة: من ناحية كان يطمح للتحديث وللغرب، ومن ناحية ثانية كان يريد الحفاظ على التقاليد والهوية المحلية وعلى التميز عن الاحتلال البريطاني. أم كلثوم - بوعي أو من غير وعي - صنعت نموذجاً يربط بين التوجهين وعرضت نفسها كمنتج أصيل. هكذا، على سبيل المثال، فقد بدلت ملابسها الغربية مع الوقت بفساتين سهرة تشبه تلك الأوروبية، ولكنها كانت تبدو كجلابيب أو قفاطين غالية، مصنوعة من قماش فاخر، ملامحها غير ملتصقة أو كاشفة. وربطت ببعض فساتينها عناصر محلية، مثل تيجان الأكمام المزهرة المعتادة في فساتين الفلاحة المصرية، والزخارف الهيروغليفية المصرية، والحلي العربية الإسلامية وأشياء أخرى. من الناحية الموسيقية، وسعت أم كلثوم من التخت وجعلته جوقة كبيرة على الطراز الغربي، ضمت بضع كمنجات، وتشيلو، وكونترباص، وأكورديون... عزف هذه الآلات المقدمات والقطع الانتقالية في أغانيها الطويلة كأي جوقة غربية، ولكن من اللحظة التي تبدأ فيها الغناء، تنسحب كل الآلات للخلف، والآلات التي ترافقها تصبح ميلودية وتتكون من أدوات عزف قليلة، كما هو معتاد في التقاليد الموسيقية العربية. مغنون آخرون تبنوا هذا أيضاً. كان هذا بمثابة تجديد في الموسيقى العربية التي كانت شائعة حتى وقتذاك، ولكن أم كلثوم عرضته كمنتج عربي أو مصري أصيل، ومع السنوات تحول لما يعدّ اليوم موسيقى عربية كلاسيكية. بعدها، عندما ظهرت في باريس عام 1967، سئلت في حوار للتليفزيون المصري هل تريد أن تتأثر بلدها، مصر، بشيء ما من أوروبا أو من الثقافة في باريس، فأجابت بابتسامة: "لا أحب أن تقلد هذه البلد بلداً أخرى. لدينا تقاليدنا ونحن فخورون بها جداً". معضلة جوهرية أخرى تعاطى معها المصريون عندئذ وتتصل بطابع الهوية الوطنية التي أرادوا بلورتها. ثلاثة اتجاهات أساسية تطورت في المجتمع المصري: الأول يؤسس الهوية على الأرض، يرى في الفلاح، وبشكل خاص في الفلاحة، رمزاً وطنياً يحيي الماضي الفرعوني القديم لوادي النيل، والثاني، الإثني، يؤسس الهوية على الثقافة واللغة العربية المكتوبة، الأدبية، المشتركة بين جميع البلدان التي تتحدث العربية، والثالث، الديني، الإسلامي، الذي يرى في مصر جزءاً من العالم الإسلامي وفي انتمائه الديني، أساساً للهوية الوطنية. تقريباً عبرت أم كلثوم عن كل هذه الاتجاهات، سواء لأنها حرصت على لباس محتشم، أو لأنها شكلت صورتها على هيئة تذكر أحياناً بنفرتيتي أو بتمثال فرعوني آخر، أو لأنها غنت أغاني بالعربية المصرية المستحدثة، وبهذا عززت من العنصر المحلي، ومن الناحية المقابلة أعادت غناء القصائد وأدخلتها في البرنامج الثقافي الشعبي، أو لأنها دائماً ما قدمت نفسها كمسلمة مؤمنة وأدخلت في القصائد الدنيوية عناصر مأخوذة من "تجويد القرآن"، أو لأنها ربطت بعروضها تكنيكات موسيقية كانت شائعة في التقاليد العربية السابقة، مثل الحوار مع الجمهور أو الارتجال الصوتي، أو لأنها دائماً، حتى بعد سنوات من سكناها في فيلا راقية في الزمالك بالقاهرة وقضائها أشهر الصيف في أوروبا الباردة، واصلت تقديم نفسها في الحوارات كفلاحة، بنت قرية محلية، جذورها مغروسة عميقاً في أرض مصر. كل هذا، حتى وإن يكن بشكل واع ومتعمد، خاطب قلوب ملايين المصريين ومئات ملايين العرب في أنحاء العالم، الذين كانوا خاضعين لحكم كولونيالي وسألوا أنفسهم أسئلة عن الهوية. أم كلثوم، بخلاف كونها مغنية فريدة ذات مواهب صوتية خاصة، وضعت أمامهم نموذجاً زاخراً بالفخر، ومرفوع الرأس. وكانت بسببهذا فقط جديرة بإعجاب شديد مثل الذي حصلت عليه. ليس من المستغرب إذن أنه مع ثورة الضباط الأحرار عام 1952، عندما قرر الضابط الذي كان مسؤولاً عن بث الراديو، وجيه أباظة، منع ترداد أغاني أم كلثوم، خاف جمال عبد الناصر أن يثور الشعب على رجال الثورة. وفي حوار في فيلم Simone Bitton يحكي الصحفي مصطفى أمين، الذي كان رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم"، أن ناصر عندما سمع عن قرار أباظة أسرع إلى الاتصال به والاستفسار منه عن سبب قراره. أجابه الضابط: "لأنها تنتمي للماضي"، أي للعهد الملكي الذي كان قبل الثورة. غضب ناصر ورد عليه: "في هذه الحالة، أقترح أن تهدم الأهرام وتمنع النيل من الجري، لأنه كان يجري أيضاً في العهد الملكي". في هذه الفترة تقريباً تزوجت أم كلثوم، في سن متأخرة نسبياً، ممن كان طبيبها. أراد ناصر أيضاً وأصر على أن يعمل العدوّان اللدودان، عبد الوهاب وأم كلثوم، معاً. ووفق الأديب نجيب محفوظ في فيلم Bitton، فقد أدرك ناصر أنه فشل في توحيد الأمة العربية ولهذا أراد على الأقل أن يوحدها عبر حب عملاقي الغناء هذين. والنتيجة كانت الأغنية المعروفة "إنت عمري"، 1964، وبعدها جاءت تسع أغان أطلقها العدوّان معاً. إحداها كانت الأغنية التي كتبها الشاعر السوري نزار قباني وموجهة لفلسطين.