من مرشح لقيادة الولاية السادسة الى خائن للثورة
من مرشح لقيادة الولاية السادسة إلى خائن للثورة
كوبيس.. جيشٌ من 500 خائن لمحاربة المجاهدين
رياض شتوح
تعاون مع القادة لتحضير الثورة باعتباره ذا مؤهلات عسكرية عالية ثم انقلب عليهم لأنهم فجَّروها دون علمه
التقى مراراً محمد بوضياف والعربي بن مهيدي ومصطفى بن بولعيد وديدوش مراد وكريم بلقاسم
في هذه الحلقة نتطرق لقضية العميل جيلالي بلحاج، الذي تحوَّل من ناشط سياسي وطني وعضو بارز في المنظمة الخاصة إلى عميل فرنسي، وهي الحادثة التي فسَّرها البعض على أنها انتقام من تغييبه عن الإعداد للثورة والشك فيه، وهو الذي كان مرشحا لقيادة الولاية السادسة التاريخية حسب العقيد طاهر زبيري في تصريح سابق.
اسمه بلحاج الجيلالي عبد القادر المدعو كوبيس ويدعى أيضا ولد الفيسيان، من مواليد قرية "زدين" الفلاحية بنواحي عين الدفلى، ينحدر كوبيس من عائلة عريقة، التحق بمدرسة ضباط الصف بشرشال وتخرَّج فيها برتبة عريف حسب لخضر بور?عة وضابط حسب جمْعة بن زروال، انخرط في الحركة الوطنية وتحديدا "حركة انتصار الحريات الديمقراطية" التي عقدت أحد اجتماعاتها بمزرعته بقرية زدين، فعضوٌ في "المنظمة السرية"، التي درّب بعض أفرادها من أبناء منطقته كونه متكوناً من الناحية العسكرية.
وفي فترة التحضير للثورة يذكر المجاهد كشيدة عيسى أنه وبعد الانقسام داخل مكتب "اللجنة الثورية للوحدة والعمل"، كان بلحاج يسكن في حي "نهج لابونسي" القريب من حي "نهج ميلوز" (بالقرب من ساحة أودان) الذي يوجد به محل صديقي مراد بوقشورة المكلف بالدعم اللوجيستيكي، حيث كان يعتبر محله مكانا للاتصال والاجتماع وملجأ للقادة الذين كانوا يحضّرون للثورة، وعندما كان بلحاج يخرج من بيته الذي يقابله على اليسار محل بوقشورة كان يلتقي هناك مع العربي بن مهيدي ومحمد بوضياف وديدوش مراد وكريم بلقاسم وحتى مصطفى بن بولعيد الذي كان يأتي من حين إلى آخر إلى العاصمة، وكان بلحاج أو كوبيس يلتقي بالأخص مع بوضياف ويخرج معه، وكان كشيدة عيسى مرة في باب الوادي عندما قابل جيلالي بلحاج العربي بن مهيدي في ممر "ملاكوف"، وكانوا يطلبون منه مناشير حول حرب العصابات على اعتبار أنه كان المكلف بالتدريب شبه العسكري لأفراد المنظمة الخاصة على حرب العصابات، وخبرته هذه كانت مفيدة للقادة الذين كانوا يحضِّرون لتفجير الثورة.
اكتشفت فرنسا المنظمة السرية وقامت باعتقال أفرادها واحدا تلو الآخر، وكان كوبيس واحدا منهم، لكنه كان أقلهم مكوثا في السجن بعد أن اعترف بكل ما يعرفه أو قام به في إطار المنظمة الخاصة، مخالفا كل تعليمات قيادته بوجوب التكتم عن الأسرار، وهو ما أكده المرحوم محساس لـ"الشروق اليومي" في تصريح سابق، وبعد مغادرته للسجن عمل كوبيس مخبراً في جهاز الشرطة، ولكن بوجهين، مخبر لدى المستعمر وعضو في الحركة الوطنية التي لم ينقطع عن الاتصال بنشطائها.
نقطة تحوّله من وطني إلى خائن
بعد اندلاع الثورة التحريرية المظفرة، انضم بلحاج إلى الحركة المصالية وسمى نفسه كوبيس، عوض بلحاج نهاية عام 1956، لكن أسباب خيانته المباشرة بقيت تثير التساؤلات، ومنها قصّة حجب خبر اندلاع الثورة عنه والذي لم يسمع به إلا من جهاز الراديو، وفي هذا يقول المجاهد عيسى كشيدة "شعر جيلالي بلحاج أن بوضياف خدعه، حيث كانت علاقته به وطيدة وكان يطلب منه معلومات ومناشير حول حرب العصابات وساعدهم في العديد من الأمور معتقدا أن بوضياف وبقية المجموعة يحضِّرون لتنظيم شبه عسكري على غرار المنظمة الخاصة التي تم تفكيكها في 1950 استعدادا لتفجير الثورة، وكان بلحاج يعتقد أن هذه الجماعة رغم الانقسام داخل حركة انتصار الحريات الديمقراطية بين المصاليين والمركزيين، لازالت لديهم رغبة في الذهاب إلى الكفاح المسلح، ولكن بعد الإعلان عن تفجير الثورة في ليلة الفاتح نوفمبر 1954، وبمجرد سماع بلحاج للخبر من الإذاعة رغم أنه كان قريبا من بوضياف (المنسق العام للثورة)، جاء إلى مراد بوقشورة _الذي كان في المحل- وهو يغلي من شدة الغضب ويسبّ.. ويشتم.. ويلعن، ويقول "الجماعة كانوا دايريني خاين ودايرين فيَّ الشك..." (الجماعة كانت تعتبرني خائنا وكانوا يشكون بي)، وكال مختلف الشتائم لقادة الثورة، معتبرا أن ما حدث معه "خدعة لن يتقبلها".
بعد هذه الحادثة ذهب كوبيس إلى مليانة والتف حوله المئات ُمن مناضلي الحزب وأبناء منطقته التي كان يحظى فيها بسمعة طيبة، خاصة وأنه كان يتمتع بشخصية مؤثرة وفصاحة وخطابة نادرة وقدرة على الإقناع، كما اتصل بالمخابرات أو الجيش الفرنسي الذي زوّده بالسلاح ودعّمه، ما مكَّن كوبيس من تشكيل جيش قوي.
كوبيس يغالط المناضلين
تمكن كوبيس في بداية الأمر من مغالطة المواطنين في نواحي الشلف (الأصنام آنذاك)، على اعتبار أنه سجين سياسي قديم ومناضل في الحركة الوطنية، فوقع الكثيرون في مصيدته وتجندوا لمصلحته بعد أن أوهمهم بأنه سيصنع منهم وبهم النواة الصحيحة للثورة الجزائرية، فتبعه الفقراء بصفة خاصة من بئر خادم، الشرا?ة والأصنام، وهنا ذكر عيسى كشيدة "وقع هناك تغليطٌ لبعض المناضلين وأفراد الشعب الذين ليس لديهم أي تكوين سياسي ولا ثقافة تؤهّلهم لاستيعاب الأمور على حقيقتها، وكانوا يعتقدون بأنه يمثل الثورة، خاصة وأنه من قيادات المنظمة الخاصة ومن عائلة معروفة في المنطقة وكان ذكيا ويجيد فن الكلام وله شخصية قوية وهيبة مؤثرة، وبالنسبة لي كان كوبيس يتمتع بمستوى فكري عالي".
تمركزت قوَّاته الأولى في ثكنة فرنسية، وشدت فرنسا على عضده وموّلته بالمال اللازم، ووافقت على طلبه برفع "علَمه" إلى جانب العلم الفرنسي بثكنة اتخذها مركزاً لقواته التي بلغ عددها حوالي 500 مقاتل مدججين بأحدث الأسلحة، وشق طريقه بهم نحو القضاء على مجاهدي جبهة التحرير الوطني الذين كانوا يكافحون ضد الاستعمار الفرنسي، وكان أنصارُه لا يدرون في معظمهم أنهم ضد إخوانهم، عدا ثلة أغواها الطمع، فنصب عدة كمائن لمجاهدي الجبهة، وكما هو معلوم اغتال أعوانه عدة مجاهدين. إلا أن أعوانه بدؤوا يرتابون لأمره ويشكّون في تصرفاته وأهدافه، فالتحق أكثرُهم شكا بصفوف جيش التحرير الوطني، فما كان منه سوى التحالف مع العميل الآخر في الولاية الرابعة بوعلام الباشاغا، وباتا يقاتلان المجاهدين جنباً إلى جنب.
الجبهة تقرّر قتل العميل كوبيس
وفي شهر رمضان المعظم من العام 1957، قامت قوات كوموندوس تابعة لجيش التحرير الوطني يقودها النقيب سي محمد بلحاج بمهاجمة مركز تابع لقوات كوبيس، وأسفر هذا الهجوم عن قتل عدد كبير من أتباعه، الذين تفطن من بقي حيا منهم يومها إلى أن كوبيس مجرَّد عميل خائن لبلده، بعدما شاهدوا بأم أعينهم طائرات العدو وهي تحاول إحباط هجوم جيش التحرير الوطني، وما كانت لتفعل لو لم يكن عميلاً لها بامتياز، ليقرروا الانضمام إلى الأطهار من أبناء جيش التحرير الوطني، فيما بدأ أنصارُه الآخرون يفكرون في طريقة ناجعة لقتله نظير ضحكه عليهم وجرِّهم إلى محاربة أبناء بلدهم، فظهرت حركة تمرد ضده بقيادة أحمد قاسم، لكن كوبيس تفطن له وقتله، وبقيت الجبهة تربط اتصالا مع بعض من انشقوا عنه، وأوكلت هذه المهمة أي مهمة التنسيق مع المنشقين إلى المجاهد رشيد بوشوشي الذي كان يعمل بالمنطقة الثالثة، وبعد أخذ ورد وافقت جبهة التحرير الوطني على انضمام المنشقين عن كوبيس إلى صفوفها لكنها اشترطت عليهم تصفيته.
رتبت مجموعة من مجاهدي جيش التحرير الوطني خطة سرية لتصفية العميل كوبيس، بمساعدة صهره أمحمد بلحاج وبإشراف المجاهد البطل رشيد بوشوشي، فيما ذكر جمعة بن زروال أن المجاهد سي محمد بوقرة هو من وضع إستراتيجية لتصفية كوبيس تعتمد على العناصر التالية:
- الاتصال بجنود كوبيس وتجنيدهم لصالح جيش التحرير، وهو ما نجحت فيه الجبهة التي جندت نائبي كوبيس: عبد الحميد وعبد المجيد.
- تكليف المجاهد سي أمعمر للقضاء على كوبيس في المنطقة الثالثة في سرية تامة.
- اشتراط الانضمام إلى الجبهة والخروج في يوم واحد، مع إخراج أكبر عدد ممكن من المجندين وقتله.
- وجوب إحضار رأس العميل كوبيس من طرف أعوانه المجندين لصالح الجبهة.
وشرع في جمع المعلومات عنه وعن جيشه وتحركاته، ومواقيت تواجده في ثكنته بنواحي عين الدفلى، حيث توجهت هناك مجموعة من مجاهدي جيش التحرير يوم 16 أفريل 1958، وحاصروا المكان عن قرب وهم يترصدون قدوم الخائن الذي كان عادة ما يتفقد جنودَه ويمدّهم بالمؤن، وبعد وصوله هاجم المجاهدون الثكنة وقضوا على العميل كوبيس وفصلوا رأسه عن جسده ونقلوه إلى قيادة الولاية الرابعة التاريخية، وعن هذه الحادثة قال المرحوم المجاهد عيسى كشيدة لـ"الشروق": "مما أذكره عن هذه الحادثة أنه كان معنا في السجن في 1955 مناضلٌ ملتزم يُسمى أحمد عليلي المدعو سي البغدادي من بوفاريك وكنت ألقبه بـ"مارييس" لأنه كان حاضر النكتة، وقد ألقي عليه القبض بعد أن ضُبطت لديه كمية من المتفجرات فحكم عليه بستة أشهر حبسا نافذا، وأطلعناه على حقيقة كوبيس وتعاونه مع الجيش الفرنسي رغم ادعائه عكس ذلك وما فعله في حق الثورة، فوعدنا هذا الأخير بأنه عندما يخرج من السجن سيعمل على القضاء على كوبيس ويأتي ليحررنا من السجن، وفعلا استطاع عليلي مع بعض السياسيين في المنطقة إقناع عناصر من جيش كوبيس بالتخلي عنه والقضاء عليه، وكما كان عليه الحال نجحت المكيدة التي دبرت لكوبيس وتمّ قطع رأسه، وأرسل لنا عليلي ونحن في السجن مرسولا قال لنا "رأس كوبيس في القفة".
وبعد انتشار خبر تصفية كوبيس، قامت فرنسا بتمشيط ماسح للمنطقة التي قتل فيها "مدلّلها"، مع قصف شنه الطيران الحربي الفرنسي الذي قتل بعضا من أتباعه الذين انضموا إلى جيش التحرير، وأرسل الجيلالي بونعامة رسالة إلى القائد سي محمد بوقرة يخبره فيها عن تمام إنجاز المهمة، يومها كان سي بوقرة في اجتماع بمنطقة سد غريب، قطع بوقرة الاجتماع وذهب لاستقبال المجموعة التي نفذت العملية، فالتقاهم في خميس مليانة عند جبل لوح، فإذا بنواب كوبيس يحملون رأسه، وعلق بوقرة رأس كوبيس على شجرة قائلا: هذا الرأس كان لأحد رؤسائي، يقصد المنظمة الخاصة، وتم غرس العلم الجزائري في جسده بعد فصل رأسه عنه.
ولقد حققت تصفية كوبيس نتائج باهرة أوردتها جمعة بن زروال ومن أهمها:
- تحقيق جبهة التحرير لمكاسب إستراتيجية بمنطقة الونشريس التي تنفست قليلا بالقضاء على جيش العميل كوبيس، وزيادة عدد جنود الجبهة بانضمام جنود كوبيس إليها.
- تلقائياً، انهيار التحالف الذي كان قائما بين كوبيس وبوعلام باشاغا.
- ارتفاع معنويات مقاتلي جبهة التحرير الوطني وتخلص أهالي المنطقة من عمليات الابتزاز التي كان يمارسها جنود كوبيس.