فهمي هويدي يكتب ..ليبيا غارتان عسكريه واعلاميه
ن ترد مصر بقصف مواقع داعش في ليبيا، فهذا أمر مفهوم ومبرر.
ولكن أن يجيء الرد بعد ساعات من إعلان نبأ قتلهم العمال المصريين فتلك مسألة لها كلام آخر.
ورغم أننا فهمنا أن الموضوع كان محل مناقشة اجتماع مجلس الدفاع الوطني، إلا أنني أخشى أن يكون القرار قد اتخذ في ظل الانفعال وتحت تأثير الصدمة التي انتابتنا جميعا، وقبل إنجاز الترتيبات التي تكفل توجيه ضربة قاصمة تضمن قطع دابر التنظيم في ليبيا على الأقل.
ولكي أشرح وجهة نظري في الموضوع فإنني استدعي إلى الذاكرة قصة عملية ميونيخ التي قام بها الفلسطينيون أثناء أولمبياد عام ????، واستهدفت أخذ الفريق الإسرائيلي رهائن حتى يتم الإفراج عن ??? أسيرا فلسطينيا.
وهي العملية التي لم تنجح، لكنها أسفرت عن قتل ?? رياضيا إسرائيليا برصاص القناصة الألمان.
لن أخوض في ملابسات العملية وخلفياتها، لكن ما يهمني في الأمر أنها أحدثت صدمة كبرى داخل إسرائيل، التي لم تنس جرأة الفلسطينيين التي أدت إلى قتل ذلك العدد من رياضييها.
ثم إنها قامت بالرد والثأر حين استطاعت ان تحدد اسماء الذين خططوا للعملية ونفذوها، ثم قامت بتصفيتهم تباعا.
وكان علي حسن سلامة مسؤول المخابرات في فتح أول من استهدفتهم محاولة اغتياله بعد سنتين (عام ????) لكنها اخطأت الهدف.
ثم نجحت في ذلك عام ????، بعد سبع سنوات. إذ تصيدته في بيروت وقتذاك.
وكانت قد قامت بتصفية أربعة آخرين من قيادات فتح في عام ????، أي بعد ست سنوات من تنفيذ العملية.
لا وجه للمقارنة بين هوية الأطراف، فضلا عن ان في التفاصيل تباينات كثيرة. لكنني أردت أن أنوه إلى ان ثمة ردا يستجيب للرغبة في الثأر والانتقام.
وردا آخر يضيف إليها درسا لا ينساه الطرف الآخر من حيث انه يعجزه عن تكرار فعلته.
ولست أشك في أن الغارات التي استهدفت مواقع داعش في «درنة» في اليوم الاول «وسرت» في اليوم الثاني اوصلت رسالة الثأر والانتقام.
لكنني لست واثقا من أن المسارعة إلى الغضب وفرت فرصة تحديد الجهة التي قررت إعدام المصريين أو التي قامت بالتنفيذ الذي أشك في أنه تم دون قرار من رئاستهم الموجودة في «الرقة» بسوريا،
كما انني لست متأكدا من انه أمكن في ذلك الوقت القصير ترتيب تأمين العدد الكبير من المصريين العاملين في ليبيا (أكثر من مليون) من ردود الافعال الانتقامية من الطرف الآخر، خصوصا ان تنظيم داعش تمدد خارج درنة وسرت، وجذب إلى صفه اعدادا من شباب القبائل المتدينين.
تلك ملاحظة أولى على الرد العسكري الذي أقدمت عليه مصر خلال اليومين التاليين للإعلان عن جريمة قتل العمال المصريين.
أما ملاحظتي الثانية فهي تنصب على الرد الإعلامي الذي اتسم بدرجة أكبر من الانفعال والتحريض،
الأمر الذي دفع البعض إلى الاعتداء على احدى السيارات التي تحمل اللوحات الليبية في حي مدينة نصر بالقاهرة. رغم أن أغلب عناصر داعش هناك من غير الليبيين،
وفي غمرة الانفعال فإن الابواق الإعلامية تحدثت عن مؤامرة أمريكية تركية ممولة من قطر وراء تحريض داعش على ارتكاب جريمتها.
آخرون اعتبروا كل المجموعات الإسلامية في ليبيا وكل الثوار الموجودين في الغرب وكأنهم جزء من داعش، لمجرد انهم يعارضون مجموعة اللواء حفتر المتمركزين في الشرق والمؤيدين من قبل الحكومة المصرية.
في الوقت ذاته وجدنا سيلا من الكتابات في الصحف والتحليلات التليفزيونية التي اعتبرت كل فصائل الإسلام السياسي دواعش،
وتطوع أحدهم فأفتى بأن داعش صناعة مصرية بالأساس، وان النشطاء الإسلاميين جميعا في مصر يمثلون تنويعات على فكر داعش ومشروعها.
هكذا، فإنه إذا كان الرد العسكري قد تمت مناقشته في محيط عدد محدود من القادة وكبائر المسؤولين، فإن الرد الإعلامي اتسم بالهرج والانفلات الذي شارك فيه كل من هب ودب، وطرحت خلاله مختلف التحليلات والتعليقات التي اختلط فيها المعقول باللامعقول والاخبار بالتغليط والافتراء.
حدث ذلك في غيبة المعلومات وفي ظل العجز عن متابعة خرائط وتضاريس المشهد الليبي الذي تتداخل فيه الصراعات السياسية مع العوامل القبلية والنزعات العرقية.
أسوأ ما قيل كان ذلك الزعم القائل بأن الجميع دواعش، خصوصا اولئك الذين يتمركزون في الوسط والغرب الليبي.
أي في المناطق التي لا تسيطر عليها قوات اللواء خليفة حفتر.
ذلك ان داعش موجودة في بنغازي التي تحاول قوات حفتر السيطرة عليها.
ثم ان معقلهم التقليدي الذي تم قصفه في اليوم الاول هو مدينة درنة الواقعة في الشرق أيضا.
ثم ان داعش تكفر تحالف جماعة المؤتمر الوطني المسيطرين على طرابلس في الغرب وتعتبرهم مرتدين لأنهم لم يطبقوا شرع الله كما يقولون.
هذا الهرج لم يتح للمشاركين في التعبئة الإعلامية فرصة الفرز بين التيارات المختلفة في ليبيا، فوضعوا الجميع في سلة واحدة، فاستعدوهم على مصر وعبأوا المصريين ضدهم بغير مبرر.
إزاء ذلك فلعلي أزعم بأن الغارة العسكرية إذا كانت بحاجة إلى بعض التأني لإحسان التدبير وإحكامه،
فإن الغارة الإعلامية ظلت بحاجة إلى قدر أكبر من الرصانة والمسؤولية، لأن الأمر أكبر من أن يعالج بالخفة التي لمسناها فيما قرآناه وشاهدناه.
وأرجو الا تكون المبالغات والمزايدات الإعلامية مقصودة لإشغال الناس عن مراجعة ما جرى، والتفكير في الثغرات التي تخللته، بحيث أوصلت الأمور إلى النهاية المأساوية التي انتهت إليها.