فضاءات شنهور

شنهور

فضاء القرآن الكريم والسنة النبوية

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
الطيب سيد أحمد محمد
مسجــل منــــذ: 2011-02-13
مجموع النقط: 1458.41
إعلانات


المقامة الدعوية


"المقامة الدعوية"
د . عائض القرني


((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [فصلت:33].
أَنتَ كَنزُ الذرر واليَاقُوتِ في لجًةِ الدنيا وإن لم يعرفوك
محفل الأيام في شَوقٍ إلى صَوتِكِ العَالي عساهم يَسمعُوك
ترى الناس بلا دعوة أيتاماً، لا يعرفون حلالاً ولا حراماً، ولا صلاةً ولا صياماً، ولا سُنناً ولا أحكاماً، فالدعوة لرئة الأحياء هواء، ولكبد الدنيا ماء، ولذلك أرسل الله الأنبياء، وخطّ في اللوح ما يشاء.
وقد حملت القلم والدّواة، ورافقت الدّعاة، ولقيت العلماء والقضاة، وعرفت البُسَطاء والدّهاة، وجُئتُ مع إخواني البلاد، وخالطت العِباد، فكم عرفنا من نادٍ وواد، وسِرنا في حاضر وباد، فأخذت من الناس المواهب، واستفدت من الزمان التجارب، وميّزت المشارب، ونزلت تلك الخيام، والمضارب.
فالدّاعية الناجح، والواعظ الصالح، من جعل محمّدا صلى الله عليه وسلم إمامه، فعرف هديه وكلامه، فراش بهداه سهامه، وجمَّل بسُنَّته مقامه. والدّاعية من كان بالناس رفيقاً، وعاش معهم رقيقاً، وصار بهم شفيقاً، فاجتنب العنف والتجريح، والإسراف في المديح، فلزم القول الليِّن، والخُلُق الهيّن، صار لقلوب الناس طبيباً، ولأرواحهم حبيباً.
غلام إذا ما شرف الجمعَ صفقت لهُ أنفُسُ القوم واصطفتِ البَشرْ
لهُ منطق لو أنَّ للفَجر بعضَه مشى بيننا من حسن طلعته السحر
ولي في الدعوة انتقال وارتحال، والفضل لذي الجلال، وليس لي في الفضل فِلس ولا مِثقال. وكانت البداية في أبهَا، وهي من الشمس أبهى، ومن الزّلال أشهى، وأهلها من أرقّ الناس قلوباً، وأقلّهم عيوباً، تغلب عليهم الاستجابة، والذكاء والنجابة.
هينون لينون أيسارٌ بنُو يُسر صيد بها ليلاَ حفاظون للجَار
من تلق منهم تقُل لاقيتُ سيّدهم مثلُ النجوم التي يسري بها الساري
ثم زُرتُ مكّة، فعرفت من الحبّ يقينه وشكّه، فصرتُ لأهلها بالمودّة ضامناً، وصار الأُنس في قلبي كامناً، وأمن فؤادي ومن دخلها كان آمناً.
فلو أن الثّرى يُقبَّل لقبَّلتُ، لكنني لما رأيتها كبّرت وهلّلت، وحول البيت هَروَلت.
كَبَّرتُ عِندَ ديِارهم لمَّا بَدَت مِنهَا الشموس وليس فيها المشرقُ
وعَجِبتُ من بلب مكارمُ أهلهَا فِيها السَّحابُ صُخورُها لا تُورقُ
ثم سِرتُ إلى الرياض، وأنا من الهمّ خالي الوفاض، فلاحت لنا الأعلام النجديّة، والأماني الوردية، ووصلنا أرض التوحيد، وبلاد التجديد، فوجدنا العلماء، والكرماء، والحلماء.
لو كانَ يقعُدُ فوقَ الشَّمس من كَرَم قوم بِآبائهم أو مجدهم قعدُوا
محسدون على ما كان من نعَم لا ينزعُ الله مِنهُم ما لهُ حسِدوا
ثم حملنا الشوق إلى طيبة، وهي أُمنيتنا في الحضور والغَيبة، وهي أرض الجلال والهيبة، فيا قلب والله لا ألومك في هواك، ولا أردّك عن مُناك، لأن أحبّ الناس يرقُد هناك.
أليس في هذه الروابي مشى محمّد صلى الله عليه وسلم وصلّى وتعبّد، وقام وتهجّد.
بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربا وما أحسنَ المُصطافَ والمتربعا
كتبنا عليها بالدموع صحائِفاً هيَ الدار صارت للمحبين مضجَعا
ثم رحلنا إلى جدة، ولنا عنها مدّة، فلما وصلناها ذهب كل عناء وشدّة، وقد أخذنا من الحبّ عُدة، وحملنا في القلوب مَوَدَّة. فلقينا بها شباباً كالسّحاب، برؤيتهم تمّ الأُنس وطاب، وذهب الهم والأوصاب، أخلاقهم أرقّ من النسيم، وعشِرتهم أجمل من الدّرّ النظيم.
هُمُ القَومُ إن قالُوا أصابُوا وإن دعوا أجابُوا وإن أعطُوا أطابُوا وأجزلوا
بَهَالِيلُ في الإسلام سادوا ولم يكن لأولاهم في الجاهلِية أوَلُ
ثم جاءتنا برقيّة، فسافرنا إلى الشرقية، وما أبقى لنا الشوق بقيّة، فقابلونا بالحفاوة والإكرام، والحبّ والاحترام، ووجدنا رقّة الحضارة، والبشاشة والنضارة، فعجزنا عن الشكر، وهام بنا إليهم الذّكر، وما نسيهم الفكر:
لله تِلكَ الدار أي محِلَّةِ للجُودِ والإفضال والتكريم
هُم كالشموس مهابةً وجلالة أخلاقُهُم في الحُسن كالتسنيم
ثم قلت لصاحبي: ما لك في الجدال خصيم، تقول القيصومة، وأنا أقول القصيم، فلما وصلنا تلك الديار، وعانقنا الأخيار، وجدنا أهل الدّيانة، والأمانة، والصّيانة. عفاف في طُهر، كأنهم نجوم زهر، أشاد بمكارمهم الدهر.
قُل للرياء إذا هبَّتْ غَوَاديِها حيِّ القصيمَ وعانِق كُلَّ من فِيهَا
واكتُب على أرضِهم بالحب مَلحَمَة أرضُ الديانة قَاصِيها ودَانيها
ثم دخلنا حائل، والقلب إليها مائل، فلقينا أبناء المكارم، وعانقنا أحفاد حاتم، فرجح حبّهم في الميزان، وحدّثناهم في جامع برزان، واعتذرت من إبطائي، ثم ألقيت قصيدة نادي الطائي:
لا عيبَ فِيهم سِوَى أن المُقِيمَ بهِمْ يَسلو عن الأهل بل كُل الأحباء
في حائِلٍ قد بَنَا الإكرام منزلةً أبُوهُمُ في المَعَالي حَاتِمُ الطَّائي
ولمّا هبطنا الباحة، وجدنا الأُنس والراحة، وقد عانق القلب أفراحه، ونسي أتراحه، فغمد حُسام الإسلام غامد، كم بها من عابِد، وزاهِد، وساجِد. وزهرة المكارم زهران، صرت في ليلي عندهم من الفرح سهران، سيرتهم أطيب سيرة، وسريرتهم أحسن سريرة، لأنهم أبناء أبي هريرة.
في البَاحَةِ الغَرَّاءِ كان لِقاؤُنا ما أحسنَ اللقيا بلا ميعادِ
وقد هبطنا تهامة، فلا مَلَل ولا سَآمة، وأقمنا أحسَن إقامة، فوجدت الجُود خلفي وأمامي، ولمستُ الإكرام ورائي وقُدّامي، تفيض وجوههم مما عرفوا من الحق، وتشرق طلعاتهم مما حملوا من الصدق.
إني جعلتُ ودادهم بفُؤادي لا تعذلنَّ محبتي لتهامي
لما أتيتُ إليهمُ أحببتهم ضَيعتُ قبل لقائهم أيامي
ولمّا أتينا جازان، والجوّ قد زان، نسينا من السرور الأهل والجيران، ووجدنا الحلقات الشرعية، والآثار القرعاوية، والجهود الدّعوية، والكلّ منّا يلاحظ، تلاميذ الحكمي حافظ، حيث وُلدت العبقرية، وما زالت القرائح غضّة طريّة، ولمسنا العزم والهِمم، ووجدنا الجود والكرم.
جازانُ إنِّي من هَوَاكِ لَشَاكِ أشجيتني وأنا الذي أهواكِ
يا جارة الوادي طَربتُ وعَادني ما يُشبهُ الأحلام من ذكِراك؟
وأهمّ ما يُدعى إليه التوحيد، فإنه حقّ الله على العبيد، ومن أجله بعث الرسلُ، وكل كتاب به نزل، وهو رأس العمل. وعلى الدّاعية أن يعمل بما يقول، ليضع الله له القبول، فكلّ من ترك الهدى مخذول، وكلامه ساقط مرذول. ولتكن للدّاعية نوافل وأوراد، وحُسن خُلُق مع العِباد، وإصلاح لنفسه وجهاد، ومُحاسبة لها قبل يوم التّناد.
وليُكثِر من الأذكار، بالعشيّ والإبكار، وليُراقب الواحد القهّار، مع قراءة سيرة الأخيار، ومُصاحبة الأبرار، والزّهد في هذه الدار، وليعتقد في نفسه التقصير ويعترف، ليخشَ مما اقترف، وليبكِ على ما سَلَف، مما كان عليه السّلف، ليسلَم من الهلاك والتّلف.
وليتقيد بما الله شرع، وليحذر البدَع، فإن النفس أمّارة، للمرء غزارة، وليُجَوِّد العبارة، وُيحسن الإشارة، وليوَقّر الكبير، ويرحم الصغير، ويعطف على الفقير، وليأتِ المنابر بعزم وثّاب، وقلب غير هيّاب، وأُسلوب جذّاب، وليُعدَّ العدّة قبل أن يُلقي الخطاب، وليتذكّر حديث: {لأن يهدي اللهُ بِكَ رجُلاً واحداً خير لك من حُمُر النعم}، فإن هذا من أجلّ النّعم، وليحمد ربّه وليشكر، حيث جعله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليعلم أن مُعَلّمَ الخير، وناصح الغير، يستغفر له الطير، والحوت في البحر.
فطوبى لمن كان للرسول خليفة، وما أجلّها من وظيفة، فهي المنزلة الشريفة، والدرجة المُنيفة، فهذا عمل الأنبياء، وشُغل الأتقياء، وقُربة الأولياء فهنيئاً له الأجر، ورِفعَة الذِّكر، وجلال القَدر، وصَلاح الأمر.
فسبحان من اصطفى من عباده دُعاة إلى الجنة، أعلاماً للسُّنَّة، له عليهم أجلّ نعمة، وأعظم مِنّة.


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة