اسبقية البت في الفصل 84-2 وتناقض الدستور ... اي النصين نتبع ؟؟
ينص الفصل 84 في فقرته الثانية من الدستور المغربي المعدل في 2011، على مايلي: " ويعود لمجلس النواب التصويت النهائي على النص الذي تم البت فيه، ولايقع هذا التصويت الا بالاغلبية المطلقة للأعضائه الحاضرين، اذا تعلق الامر بنص يخص الجماعات الترابية، والمجالات ذات الصلة بالتنمية الجهوية والشؤون الاجتماعية ".
وانطلاقا من هذا المعطى، نستنتج أن النص يطرح مجموعة من الملاحظات المركزية، والتي لها من الخطورة مايقدر أن يُحَول المعنى الحقيقي والفهم الصحيح للنص الدستوري، فحسب هذه المقتضيات، يتضح لنا ان البت النهائي في المسائل الثلاثة، أمر محسوم لصالح مجلس النواب بصراحة النص.
غير ان مايطرح الاشكالية الكبرى في هذا الصدد، هو السؤال التالي : لمن تكون اسبقية البت بخصوص مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 84 اذا ماعلمنا بأن البث النهائي حسب نفس الفصل يعود لمجلس النواب ؟؟
وكجواب على هذا السؤال فقد يقول البعض ان أسبقية البت تكون لمجلس المستشارين مادام مجلس النواب هو الذي يبث نهائيا.. ثم اننا لو ربطنا هذا النص الصريح مع الفصل 78 الذي يقول في فقرته الثانية " تودع مشاريع القوانين بالأسبقة لدى مكتب مجلس النواب، غير ان مشاريع القوانين المتعلقة، على وجه الخصوص، بالجماعات الترابية وبالتنمية الجهوية، وبالقضايا الاجتماعية، تودع بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين." فإننا نصل الى نفس النتيجة ، وهي ان مجلس المستشارين هو من يبت ابتداء.
لكن هل هذا جواب كاف في حقيقة الامر؟
إن الجزم بصحة هذا الرأي في الحقيقة قد يكون صائبا في بداية الامر، الا انه اذا ماتتبعنا قاعدة فهم الدستور كوحدة متكاملة، وليس كنصوص مجردة، فإننا سرعان ماسنقع لزوما أمام ملاحظات اخرى قد تغير المعنى المقصود.
أولا : مجلس المستشارين لا يبت بالأسبقية لزوما .
إن القول بأن مجلس المستشارين هو من يستحوذ على اختصاص البت بالاسبقية بناء على ان مجلس النواب يبت نهائيا أمر يستدعي إعادة النظر.
وقبل التعرض لهذه الحجة بالنقد، دعنا نقم بالشرح الوافي لها، على أمل ان نقف على عدم تأسسها على اساس قويم وصحيح .
وتفترض هذه الحجة، أن مشروع او مقترح قانون مرتبط بالمسائل الثلاث يمر أولا بمجلس المستشارين الذي بمجرد أن يوافق عليه، يحيله الى مجلس النواب ليبت فيه نهائيا بالاغلبية المطلقة لأعضائه الحاضرين.
لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو : في حالة عدم موافقة مجلس النواب على المشروع او المقترح الذي قدمه مجلس المستشارين فما العمل؟؟
في هذه الحالة لايتم العمل بالفصل 84 الفقرة الاولى"أي البت الى حين التوصل الى صيغة موحدة"، بل إن مجلس النواب يحيله بعد رفضه الى مجلس المستشارين، الذي بدوره إذا قبله بصيغة يرفضها مجلس النواب، جاز لهذا الأخير البت فيه بالاغلبية المطلقة المذكورة في الفصل 84 الفقرة الثانية.
والمفيد من هذا الكلام أن بت مجلس النواب بالاغلبية المطلقة بصفة نهائية في المسائل الثلاث، شيء لايحتمل أي استثناء، وبالتالي فالعمل بقاعدة البرهان بالخلف امر يحقق المراد. ويتفق بذلك مع فحوى الفصل 78 في فقرته الثانية .
وما نسيته هذه الفرضية، هو أن قاعدة البرهان بالخلف، تتوقف على تواجد ركنين قبل تطبيقها. الاول ان الأصل لايجب ان يتوفر على إستثناءات أكثر من واحدة،( أي عدم وجود اضداد متعددة للأصل الذي نكون بصدد البحث عن اضداده. وكمثال على ذلك ما يمكن استخلاصه في ما قد يظهر لنا ن تناقض حاد بين مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 132 والفقرة الاولى من الفصل 133. وهو ماسنحاول ان نخصص له مقالة اخرى في قادم الأوان ان شاء الله.)- ومانظنه في هذا المقام- ان هذا الشرط متوفر في حالتنا المدروسة. "أي ان مجلس النواب له نظير واحد هو مجلس المسشارين" فيكون التفسير حسب القاعدة لحد الان امر منطقيا.
اما الركن الثاني فكامن في أن هذه القاعدة لا تستحمل التفسيرات الواسعة" أو سميها ضيقة". فقولنا "مجلس النواب يبت نهائيا لا يعني حسب القاعدة ان مجلس المستشارين يبت بالاسبقية، بل يعني ان مجلس المستشارين لا يبت نهائيا، والفرق بين التعبيرين، أن الاول يخول لمجلس الستشارين سلطة البت الابتدائي، أما الثاني فيحرمه من سلطة البت النهائي، اي ان مجال ممارسة مجلس المستشارين أصبح مفتوحا من زاويتين: الأولى تفترض امكانية بته ابتدائيا، والثانية، تفترض عدم بته لا بالأسبقية ولا بالإنتهاء. اي ان مجلس النواب يمتلك الحقين معا، وهو الامر الذي لا يتماشى مع الفرضية التي نحن بصدد البحث فيها، وهو ما سنؤكده حسب السيناريو التالي : ويقضي هذا السيناريو بأن يبت مجلس النواب بالاسبقية، وحيث يتم اقراره للنص- الذي يجب ان يتعلق بالمسائل الثلاث- فإنه يحيله الى مجلس المستشارين الذي يبدي موقفه فيه بالرفض أو بالقبول.
1- وفي حالة الرفض، فان المجلس يتداول في النص الى حين الوصول الى صيغة يقبلها فيحيلها الى مجلس النواب الذي بدوره يبت فيها بالاغلبية المطلقة على مستويين :
المستوى الاول : قبول المجلس لصيغة مجلس المستشارين، وفي هذه الحالة يتم البت بالاغلبية الطلقة لاعضاء مجلس النواب الحاضرين.
المستوى الثاني : عدم قبول صيغة مجلس المسشارين، وفي هذه الحالة يتم إقرار الصيغة التي ينتهي اليها مجلس النواب بالأغلبية المطلقة لاعضائه الحاضرين.
2- اما في حالة القبول، فإنه يحيله الى مجلس النواب ليبت فيه نهائيا بالاغلبية المطلوبة في الفقرة الثانية من الفصل 84.
ثانيا : تقاطعات الفقرة الثانية من الفصل 78.
ولايجوز الاستناد على الفصل 78 في فقرته الثانية لاثبات اسبقية مجلس المستشارين، نظرا لإتسام هذا الفصل بعدم الوضوح الذي جعله يتقاطع مع فصول اخرى، لذلك فغير الواضح في مضمونه وصياغته لايكون أولى بالاتباع.
ولعل هذا يتجلى في النقاط التالية:
1- وتظهر أول ملاحظة قد تجمع بين الفصل 78 والفصل 84 في عبارة "الشؤون" و"القضايا". فالفصل 84 في الفقرة الثانية منه، ينص على ان مجلس النواب يختص بالبت النهائي في المسائل الثلاث، التي من بينها "الشؤون الاجتماعية". وهو يتقاطع في هذا مع الفصل 78 الذي يتحدث عن "القضايا الاجتماعية". ليطرح هذا التقاطع مسألة التأويل المتعدد، ولعل من التأويلات الخطيرة التي قد تترتب عنه، وهو أن يدفع من له مصلحة بالقول ان ما أتى به الفصل 78 ليس هو ما أتى به الفصل 84، وبالتالي فنكون امام حقيقة مرة، هي ان اسبقية البث بالنسبة للشؤن الاجتماعية قد سكت عنها النص. ولا تكون لمجلس المستشارين كما قد يدعي اصحاب هذا الرأي .
2- اما عن التقاطع الثاني للفقرة الثانية من الفصل 78، فيمكن إدراكه عند مقارنته مع الفقرة الاولى من الفصل 84 التي تنص على مايلي " يتداول مجلسا البرلمان بالتتابع في كل مشروع او مقترح قانون، بغية التوصل الى المصادقة على نص واحد، ويتداول مجلس النواب بالاسبقية، وعلى التوالى في مشاريع قوانين وفي مقترحات القوانين، التي قد قدمت بمبادرة من أعضائه. ويتداول مجلس المستشارين بدوره بالاسبقية وعلى التوالي في كشاريع قوانين وكذا في مقترحات قوانين التي هي من مبادرة اعضائه، ويتداول كل مجلس في النص الذي صوت عليه المجلس الاخر في الصيغة التي احيل بها اليه".
وبيت القصيد في هذا المقتضى أن الفقرة الثانية من الفصل 78 تعطي لمجلس النواب الاسبقية في البت بالنسبة لمشاريع القوانين، (أي تلك التي يتم تقديمها من طرف الحكومة) . وهو نفس الاختصاص الذي تعطيه الفقرة الاولى من الفصل 84 لمجلس المستشارين، وبذلك يتحقق التقاطع الثاني.
3- وحتى لو سلمنا بمقتضى الفصل 78 في فقرته الثانية، والقاض بأن مشاريع القوانين الخاصة بالمسائل الثلاثة يبت فيها مجلس المستشارين بالاسبقية، فان هذا الامر يطرح امامنا اسئلة اخرى كالتالي:
** هل هذا يعني بأن القوانين المرتبطة بالمسائل الثلاث، يدخل اختصاص إحداثها في دائرة اختصاصات الحكومة وحدها دون البرلمان ؟؟
** وإذا كان الامر على خلاف ذلك، أي أن هذا النوع من القوانين يدخل ايضا ضمن اختصاص البرلمان، فاي الغرفتين تختص بالبت في مقترحات القوانين الخاصة بالمسائل الثلاث اذا علمنا ان مجلس المستشارين يبت فقط في مشاريع هذه الفئة من القوانين ؟؟
كل هذه القضايا يبقى الدستور خلوا من التنصيص عليه. ويفتح الباب امامنا لطرح الراي الثاني.
ثالثا : الرأي الثاني يطرح مشكلة اخرى.
وبعدما أوضحنا بان الراي الاول، مقوض لا محالة، ولا يجوز الاخد به، فإن الامر الذي يبقى ونريد توضيحه، هو البحث عن جواب اخر للسؤال الذي طرحناه اعلاه وهو :
لمن تكون اسبقية البت بالنسبة للفقرة الثانية من الفصل 84 ؟
وكجواب ثان على هذا السؤال، نقترح أخذ "الجماعات الترابية" كإحدى المسائل الثلاث، ثم نبحث عن أسبقية البت لصالح من تكون.
تتعدد الفصول الدستورية التي أتت بمقتضيات تتعلق بالجماعات الترابية، غير أن مايهمنا في هذا الصدد، هو البحث عن الجوانب القانونية لهذا المجال. ففي الفصل 71 الخاص بمجالات التشريع نجد الجماعات الترابية مذكورة في البنود 14-15 كمايلي: "يختص القانون بالاضافة الى المواد المسندة اليه صراحة بفصول أخرى من الدستور، بالتشريع في الميادين التالية : ...- نظام الجماعات الترابية، ومبادئ تحديد دوائرها الترابية؛ - النظام الانتخابي للجماعات الترابية، ومبادئ تقطيع الدوائر الانتخابية؛...".
وبالاضافة الى هذا نجد الدستور ينص كذلك على ترسانة من القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية في الفصل 146 الذي ينص على مايلي: "تحدد بقانون تنظيمي بصفة خاصة: - شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية لشؤونها بكيفية ديمقراطية، وعدد اعضاء مجالسها، والقواعد المتعلقة باهلية الترشيح، وحالات التنافي، وحالات منع الجمع بين الانتدابات، وكذا النظام الانتخابي...".
وقبل الحديث في موضوعنا المتعلق بتحديد أسبقية البت ضمن الفصل 84 في فقرته الثانية، فيجب الحديث أولا عن المسلمات الاتية :
المسلمة الاولى : كل مايتعلق بالقوانين العادية فهو خاضع فيما يخص المسطرة التشريعية،لمقتضيات الفقرة الأولى الفصل 84 .
المسلمة الثانية : تشكل المسطرة التشريعية الواردة في الفصل 85. اساس كل قانون تنظيمي في الدستور .
وبناء على هذه المعطيات، فاننا يمكن ان نقول بان أسبقية البت ضمن الفقرة الثانية من الفصل 84، امر غير محسوم، بدقة في اطار هذا الدستور، اذ أن القوانين التنظيمية التي تخص الجماعات الترابية - حسب المسلمة الثانية - في اطار الفصل 146 تخضع من حيث الاسبقية لمجلس النواب، حينما نجد الفصل 85 ينص على أن التدوال في مقترحات او مشاريع القوانين التنظيمية لايتم الا بعد مرور 10 ايام من تاريخ الايداع في مكتب مجلس النواب. غير ان مشكلة أخرى قد تتعرض لنا في سبيل هذا التحليل وهي الإجابة على السؤال التالي :
** هل حقا الفصل 84 في فقرته الثانية يقصد القاوانين التنظيمية للجماعات الترابية ؟؟
إن الاجابة على هذا السؤال، بشكل مباشرهي : لا ، والعلة في ذلك لا يمكن إرجاعها فقط إلى أن الفصل 84 عموما يتحدث عن المسطرة التشريعية الخاصة بالقوانين العادية، ولا إلى أن عبارة "قانون" إذا لم تعلق بكلمة "تنظيمية" فهي لا تدخل في إطار القوانين التنظيمية، على اعتباران الاصل هو القوانين العادية، وأن القوانين التنظيمية هي كل مانص الدستور عليه بتك الصفة ضمن القوانين العادية. بل إن العلة اقوى من ذلك، فنحن إذا بحثنا عن الأغلبية المطلوبة في البت النهائي بالنسبة لمقتضيات الفصل 84-2 والفصل 85-1 فاننا نجد أن الاول ينص على "الاغلبية المطلقة" للأعضاء الحاضرين في مجلس النواب أثناء التصويت. أما الثاني فينص على " أغلبية أعضاء مجلس النواب".
وبيت القصيد، أن الفصل 84-2 اذا كان نطاق اختصاصه قدحُدد في مجموعة من النصوص التي يجب ان يتوفر فيها مجموعة من الشروط كالتصويت عليها باغلبية معينة، فان مجرد غياب شرط واحد من مجموع تلك الشروط يؤدي الى خروج ذلك القانون ضمن اختصاص الفصل، حتى وإن ظهر مدى القرب بينهما وهو ماحصل فعلا بين مقتضيات هذه الفصل والفصل 85-1 .
وكل هذه الحجج تؤكد على حقيقة واحدة، هي أن واضعي الفصل 84-2 لا يقصدون القوانين التنظيمية الخاصة بالجماعات الترابية، بل قصدهم ذهب الى القوانين العادية الخاصة بهذا المجال، والتي سندرك على ضوئها صفة اللاوضوح التي وصفنا بها الفصل 84-2 في أعلى هذا الرأي.
وإذا ما ربطنا المسلمة الأولى بمقتضيات الفصل 78 فإن النتيجة تكون في أن مشاريع أو مقترحات قوانين الجماعات الترابية تخضع لمقتضيا الفصل 84-1 الذي اشرنا اليه أعلاه.
وحسب مقتضيات هذا الفصل الاخير، فان الأسبيقة في البت قد تكون لكلا المجلسين حسب الحالات، فاذا قامت الحكومة بتقديم المشروع الى مجلس النواب، فهذا المجلس هو الذي يختص بالبت نهائيا وبالاسبقية، ولايكون مُلزما بإحالته بلا بت الى مجلس المستشارين، والعكس صحيح بالنسبة للاسبقية فقط. وهذا مايتفق والسيناريو الذي انتقدنا به الرأي الاول في هذه المقالة. ولعل صفة اللا وضوح أصبحت واضحة المعالم بالنسبة لعدم التدقيق في المجلس الذي له حق الاسبقية في البت.
استنتاج :
v وحسب هذا الرأي، فيظهر ان سكوت الفقرة الثانية من الفصل 84 عن التصريح بالاسبقية، راجع الى احالتها الضمنية للفصول 85 و 84 في فقرته الأولى. وبالتالي فلا يشكل السكوت عيبا بالقدر الذي يشكل اتساقا وانسجاما مع مقتضيات الدستور الاخرى .
v ان القوانين المنصوص عليها في الفصل 84-2 قد تكون في بدايتها إما مشاريع وإما قد تكون مقترحات، لان الاحالة الى الفصل 84 -1 يفتح هذا المجال، ويضيق على الرأي الاول الذي يستند على الفصل 78 .
وفي نهاية هذه المقالة، ندعوا نخب الشباب إلى الاجتهاد وتقوية الملاحظة عندهم. من خلال التركيز على قواعد نظرية تساعد على التحليل العلمي و البناء. وبه السلام عليكم
عبد الاله دريف
باحث في الدرسات السياسية والدولية ، جامعة محمد الخامس الرباط اكدال .