حكم الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميتهما
حكم الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأهميتهما
تمهيد في معناهما :
جاء في كتب اللغة أن المعروف : ما يستحسن من الافعال ، وكلّ ماتعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه (1).
والمنكر : كل ما قبّحه الشرع وحرّمه وكرّهه (2).
وقيل عن المعروف : هو اسم لكلِّ فعل يُعْرَف بالعقل أو الشرع حسنه . والمنكر : ما ينكر بهما (3) ، أي كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه أو تتوقف في استقباحه واستحسانه ، فتحكم بقبحه الشريعة (4).
وجاء في مجمع البيان أنّ المعروف : الطاعة ، والمنكر : المعصية .
وكل ما أمر الله ورسوله به فهو معروف ، وما نهى الله ورسوله عنه فهو منكر(1).
موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
لا يختص الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمورد من الموارد ، ولا مجال من المجالات ، بل هو شامل لجميع ما جاء به الاِسلام من مفاهيم وقيم ، فهو شامل للتصورات والمبادئ التي تقوم على أساسها العقيدة الاِسلامية ، وشامل للموازين والقيم الاِسلامية التي تحكم العلاقات الانسانية ، وشامل للشرائع والقوانين ، وللاوضاع والتقاليد ، وبعبارة اُخرى هو دعوة إلى الاِسلام عقيدة ومنهجاً وسلوكاً ؛ بتحويل الشعور الباطني بالعقيدة إلى حركة سلوكية واقعية ، وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة متفاعلة ومتصلة مع الاوامر والارشادات الاِسلامية ، ومنكمشة ومنفصلة عن مقتضيات النواهي الاِسلامية .
وقد بيّن الاِمام الحسين (عليه السلام) موارد الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائلاً : « ... بدأ الله بالاَمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر فريضة منه ، لعلمه بأنّها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلّها هينها وصعبها ؛ وذلك أن الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الاِسلام ، مع ردّ المظالم ومخالفة الظالم ، وقسمة الفيء والغنائم ، وأخذ الصدقات من مواضعها ، ووضعها في حقها...» (2).
وقد تجلّت هذه الشمولية بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمعاذ بن جبل حينما
ولاّه على أحد البلدان : « يا معاذ علمهم كتاب الله وأحسن أدبهم على الاخلاق الصالحة ، وانزل الناس منازلهم ـ خيّرهم وشرهم ـ وانفذ فيهم أمر الله... وأمت أمر الجاهلية إلاّ ما سنّه الاِسلام ، واظهر أمر الاِسلام كلّه ، صغيره وكبيره ، وليكن أكثر همّك الصلاة فإنّها رأس الاِسلام بعد الاقرار بالدين ، وذكّر الناس بالله واليوم الآخر واتبع الموعظة » (1).
والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستتبع جميع مقوّمات الشخصية الانسانية في الفكر والعاطفة والسلوك ، لتكون منسجمة مع المنهج الالهي في الحياة ، وتكون هذه المقومات متطابقة مع بعضها ، فلا ازدواجية بين الفكر والعاطفة ولا بينهما وبين السلوك ، وهي وحدة واحدة يكون فيها الولاء والممارسة العملية لله وحده ولمنهج التوحيد الذي دعا إليه في جميع مفاهيمه وقيمه
حكم الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إنّ الاِسلام ليس مجرد تفكير وتدبّر وخشوع يتحرك في داخل العقول والقلوب ، وإنّما هو منهج حياة واقعي ، يدعو إلى استنهاض الهمم والعزائم وتقوية الارادة ؛ لتنطلق في الواقع مجسدة للمفاهيم والقيم الالهية بصورة عملية ، وهو يدعو إلى النهوض بالتكاليف الالهية في عالم الضمير وعالم الواقع على حدٍّ سواء ، والاستقامة على ضوئها .
وبما ان الاِنسان يحمل في جوانحه الاستعدادات المختلفة للخير والشر وللفضيلة والفجور ، ويتأثر بالعوامل الخارجية كالمغريات والمثيرات المتنوعة ، اضافة إلى دور الشيطان في الوسوسة والاغراء ، فهو بحاجة إلى من يهديه ويرشده ويقوّم له تصوراته وعواطفه وممارساته العملية ، لتكون موصولة بالعقيدة والشريعة الاِسلامية ، ولهذا شرّع الاِسلام الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليقوم به الاِنسان المسلم إيقاظاً للقلوب البشرية الغافلة ، وتحريكاً للارادات الضعيفة لتستقيم على أساس المفاهيم والموازين الالهية .
فأوجب سبحانه وتعالى الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعله من التكاليف الاَساسية ؛ لاَنّه غاية الدين كما عبّر عنه الاِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : « غاية الدين الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقامة الحدود »(1).
وقال (عليه السلام) : « قوام الشريعة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقامة الحدود » (2).
أدلة الوجوب :
أولاً : القرآن الكريم :
اعتمد أغلب الفقهاء على الآيات القرآنية في اثبات الوجوب دون ذكر تفاصيل الاستدلال (1) ، اقراراً منهم بوضوح دلالتها حتّى قيل : (إنّ وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرورة دينية عند المسلمين يستدلُّ بها ، ولا يستدل عليها) (2).
وفيما يلي نستعرض الآيات القرآنية الواقعة في مقام الاستدلال على الوجوب .
الآية الاُولى : ( وَلتكُن مِنكُم أُمّة يَدعُونَ إلى الخَيرِ ويَأمُرُونَ بِالمعرُوفِ وَيَنهونَ عَنِ المنكَرِ وأُولئك هُمُ المفلحِونَ ) (3).
المخاطب بهذه الآية القرآنية هم المؤمنون كافة ، فهم مكلفون بأن (ينتخبوا منهم أُمّة تقوم بهذه الفريضة ، وذلك بأن يكون لكلِّ فرد منهم ارادة وعمل في ايجادها) (4).
وهي واضحة الدلالة على الوجوب ، فإنّ قوله تعالى : ( ولتكن ) أمر ، وظاهر الاَمر الايجاب هذا من جهة ، ومن جهة اُخرى حصرت الآية الفلاح بهذا العمل .
و (مِنْ) في (منكم) للتبعيض (1) ، لذا استدلّ أغلب الفقهاء على أن الوجوب كفائي (2) فإذا قام به البعض سقط عن الآخرين .
الآية الثانية : ( كُنتُم خَيرَ أُمّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمرُونَ بِالمعرُوفِ وَتَنهونَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤمِنونَ بِاللهِ ) (3).
قرنت الآية القرآنية الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالايمان بالله تعالى ، وقدّمتهما عليه (لانهما سياج الاِيمان وحفاظه) (4).
ومعنى الآية : (صرتم خير أُمّة خُلقت ؛ لاَمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر وإيمانكم بالله ، فتصير هذه الخصال على هذا القول شرطاً في كونهم خيراً) (5) .
وهذه الخيرية (لا يستحقّها من أقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، وحجّ البيت الحرام ، والتزم الحلال ، واجتنب الحرام مع الاخلاص الذي هو روح الاِسلام ، إلاّ بعد القيام بالاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر...) (6).
واستدل الفقهاء بهذا الثناء الذي انحصر بهذه المزايا الثلاث على الوجوب (فمدحهم بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما مدحهم
بالايمان بالله تعالى ، وهذا يدل على وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (1) .
وقد اكتفى كثير من الفقهاء بذكر الآية دليلاً دون تفصيل (2) ، لاقتران الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالايمان بالله تعالى ، ووقوعهما في مستواه ، وتخصيص الثناء والمدح بالخيرية بهذه الصفات الثلاث .
الآية الثالثة : ( لَيسُوا سَوَاءً مِن أهلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمةٌ يَتلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ الليلِ وَهم يَسجُدُونَ * يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليومِ الآخرِ ويَأمُرُونَ بِالمعرُوفِ وَيَنهونَ عَنِ المنكَرِ وَيُسارِعُونَ في الخَيراتِ وأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحينَ ) (3).
جعل الله تعالى الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر من علامات القيام بالواجبات ، ومن علامات الصلاح ، فلم يشهد الله تعالى لهم بالصلاح بمجرد الايمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4).
ومفهوم الآية هو انّ الذين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر لايعدّون من الصالحين ، ولولا الوجوب لما نفى صفة الصلاح عنهم .
الآية الرابعة : ( والمؤمِنُونَ والمؤمِناتُ بَعضُهُم أولياءُ بعضٍ يأمرُونَ بالمعرُوفِ وَينهوَن عَنِ المُنكَرِ ويُقيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤتَونَ الزَّكاةَ ويُطيعُونَ اللهَ
وَرَسولَهُ أولئِكَ سَيرحمُهُمُ اللهُ إنَّ اللهَ عَزيزٌ حكيمٌ ) (1).
جعل الله تعالى الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الاوصاف الخاصة بالمؤمنين ، وهما من شؤون ولاية بعض المؤمنين على بعض .
وعلى هذا فالذي يهجر الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون خارجاً عن (هؤلاء المؤمنين المنعوتين في هذه الآية) (2).
واخراج التاركين للاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جماعة المؤمنين لا يصحّ ولا يستقيم إلاّ إذا كانا واجبين ، وعليهما تترتب الرحمة .
ويؤيد ثبوت الوجوب انّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وردا في سياق الواجبات كاقامة الصلاة وايتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهما واجبان بدلالة وحدة السياق ، وتكرّر اقترانهما مع الواجبات يفيد الاطمئنان بوجوبهما .
الآية الخامسة : ( لَولا يَنهاهُمُ الرَّبَّانيُونَ والاَحبارُ عَن قَولِهِم الاِثمَ وأكلِهِمُ السُّحتَ لَبئسَ ما كَانُوا يَصنعُونَ ) (3).
ذمّ الله تعالى ووبَّخ بني اسرائيل لقولهم الاَثم وأكلهم السحت ، وذمّ علماءهم لعدم قيامهم بنهيهم ، فذمّ (هؤلاء بمثل اللفظة التي ذم بها اولئك ، وفي هذه الآية دلالة على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه) (4).
فالتوبيخ شامل لمرتكب المنكر والساكت عن النهي عنه ، فقد وبَّخ الله تعالى (الربانيين والاحبار في سكوتهم عنهم ، وعدم نهيهم عن ارتكاب هذه الموبقات من الآثام والمعاصي ، وهم عالمون بأنّها معاصٍ وذنوب)(1).
فقد بين الله تعالى ان الربانيين والاَحبار أثموا بترك النهي عن المنكر والدلالة واضحة على وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلو لم يكونا واجبين لما ترتب الاَثم على تركهما ، ولما وبّخهم الله تعالى على سكوتهم ؛ لاَنّ التوبيخ يستتبع العمل السيئ ، وترك النهي عن المنكر هو أحد مصاديقه .
الآية السادسة : ( لُعِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مِن بَني إسرائيلَ عَلى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ ذَلِكَ بِما عَصَوا وَّكَانُوا يَعتدُونَ * كَانُوا لا يَتَناهَونَ عَن مُّنكَرٍ فَعلَوهُ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ ) (2).
لعن الله تعالى بني اسرائيل بعصيانهم واعتدائهم ، ثمّ بيّن حالهم ، فقال : ( كَانُوا لا يَتَناهَونَ عَن مُّنكَرٍ فَعلُوهُ ) أي لم يكن ينهى بعضهم بعضاً ، ولا ينتهون أي لا يكفّون عمّا نهوا عنه (3).
وقد علّل الله تعالى استحقاقهم اللعنة ( بتركهم النهي عن المنكر ) (4).
فلو لم يكن النهي عن المنكر واجباً لما استحقوا اللعنة بتركهم إيّاه ؛ لاَنّ
اللعنة تختص بترك الواجب .
ويؤيد الوجوب ما روي عن ابن عباس في تفسير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للآية ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : « لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر ، ولتأخذنَّ على يد السفيه ، ولتأطرنه على الحق اطراً أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم » (1).
الآية السابعة : ( يَا أيُّها الَّذِينَ آمنُوا قُوا أنفُسَكُم وأهلِيكُم نَاراً وقُودُها النَّاسُ والحِجارةُ... ) (2).
وقاية الاَهل من النار تتم (بدعائهم إلى الطاعة وتعليمهم الفرائض ، ونهيهم عن القبائح ، وحثّهم على أفعال الخير) (3).
والوقاية هي الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما روي عن الاِمام الصادق (عليه السلام) قال : « لمّا نزلت هذه الآية... جلس رجل من المسلمين يبكي ، وقال : أنا عجزت عن نفسي ، كُلّفت أهلي ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك ، وتنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك » (4).
وفعل الاَمر (قوا) يدل على الوجوب ، ويتحقق هذا الفعل ان قام الاِنسان بالاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما واجبان ؛ لاَنهما مقدمة من مقدمات الهداية والانقاذ من النار .
وقد وردت آيات في غير موضع من القرآن الكريم قرنت الاَمر
بالمعروف والنهي عن المنكر مع سائر الواجبات الشرعية ، كما ورد في سورة الحج (1) ، وسورة لقمان (2).
ثانياً : الروايات الشريفة :
الروايات الدالة على وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستفيضة ومتواترة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ، وقد أكدت السيرة على ذلك ، حتى أصبح سكوت المعصوم (عليه السلام) عن عمل معينٍ دليلاً على جوازه ، فلو كان محرّماً لنهى عنه ، وكانت سيرة المعصومين (عليهم السلام) تجسيداً للاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى ، بتصحيح اعتقاد الناس وتربية نفوسهم وتهذيب سلوكهم .
عن حذيفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : « الاِسلام ثمانية أسهم : الاِسلام سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والصوم سهم ، وحج البيت سهم ، والاَمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، والجهاد في سبيل الله سهم ، وقد خاب من لا سهم له » (3).
فقد عدّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جملة الواجبات وجعل الخيبة والخسران نتيجة لمن لا سهم له .
وسلب (صلى الله عليه وآله وسلم) صفة الاِسلام والاِيمان ممّن لا يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فقال : « ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ، ويوقّر كبيرنا ، ويأمر
بالمعروف ، وينهى عن المنكر » (1) ومعنى السلب هو قلة الحظ من الدين . وصفة الاِسلام والايمان لا تسلب إلاّ ممن لا يؤدي واجباً .
ودلّت الروايات على وجوب نشر العلم وتعليم الجهّال ، ونشر العلم يتحقّق بتبيان العقيدة الصحيحة وأحكام الشريعة كما أنزلت وهي مظهر من مظاهر الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « ما أخذ الله سبحانه على الجاهل أن يتعلّم حتى أخذ على العالم أن يُعَلم » (2) .
ومن مظاهر الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر محاربة البدع وذلك عن طريق اثبات مخالفتها للعقيدة والشريعة ، ثم تبيان الرأي الاَصوب والحكم الاَصوب والسلوك المنسجم مع المبادىَ والقيم الاِسلامية . ومحاربة البدع واجبة كما أكّد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله : اذا ظهرت البدعة في أُمتي فليظهر العالم علمه ، فإن لم يفعل فعليه لعنة الله (3).
فلو لم يكن اظهار العلم واجباً لما استحقّ تاركه اللعنة .
والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفرائض العظيمة التي تتوقف عليها اقامة جميع الفرائض كما بيّن ذلك الاِمام محمد الباقر (عليه السلام) : « إنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الاَنبياء ، ومنهاج الصالحين ، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض ، وتأمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم ، وتعمّر الاَرض ، وينتصف من الاعداء ، ويستقيم الاَمر ، فانكروا
بقلوبكم ، وألفظوا بألسنتكم ، وصكّوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم... أوحى الله إلى شعيب النبي (عليه السلام) : اني لمعذب من قومك مئة ألف : أربعين ألفاً من شرارهم ، وستين ألفاً من خيارهم ، فقال : يا ربّ هؤلاء الاشرار ، فما بال الاخيار ؟ فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه أنهم داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي » (1).
فقد بيّن (عليه السلام) ان الساكتين عن المعاصي بعدم مواجهتها بنهي عنها أو أمر بمعروف فقد استحقوا العذاب وان كانوا اخياراً ؛ لاَنّهم تركوا واجباً ولم يؤدوه .
وقد تظافرت الروايات على أنّ الله تعالى يبغض من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وعلى نزول العذاب عليه ، فلو لم يكن واجباً لما ترتب بغض الله تعالى لمن تركه أو نزول عذابه عليه .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ الله عزَّ وجلَّ ليبغض المؤمن الضعيف الذي لادين له ، فقيل له : وما المؤمن الذي لا دين له ؟ ، قال : الذي لا ينهى عن المنكر (2).
فقد اجتمع فيه بغض الله له ، وسلب الدين منه .
وعن الاِمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال : « كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : اذا أُمتي تواكلت الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلتأذن بوقاع من الله تعالى » (3).
ورتب الاِمام جعفر الصادق (عليه السلام) نصر الله تعالى لمن نصر الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وخذلانه لمن خذلهما ، أي بالاداء والترك ، فقال (عليه السلام) : « الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله تعالى ، فمن نصرهما أعزه الله تعالى ، ومن خذلهما خذله الله تعالى » (1).
وجعل (عليه السلام) عدم القيام بانكار المنكر مبارزة لله بالعداوة ، فقال : « ...واذا رأى المنكر فلم ينكره ، وهو يقوى عليه ، فقد أحبّ أن يُعصى الله ، ومن أحبّ أن يُعصى الله ، فقد بارز الله بالعداوة... » (2).
وتترتب على ترك الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر آثار وخيمة يوم القيامة ، بحيث لا تنفع الاِنسان سائر عباداته ان كان غافلاً عن المواعظ الالهية ، فلم يقم بادائها أو الترويج لها واشاعتها بين الناس ، قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « وقد سبق إلى جنات عدن أقوام كانوا أكثر الناس صلاة وصياماً ، فإذا وصلوا إلى الباب ردّوهم عن الدخول ، فقيل : بماذا ردّوا ؟ ألم يكونوا في دار الدنيا قد صلّوا وصاموا وحجّوا ؟ فإذا بالنداء من قبل الملك الاَعلى جلّ وعلا : بلى قد كانوا ليس لاَحد أكثر منهم صياماً ولا صلاة ولا حجاً ولا اعتماراً ، ولكنّهم غفلوا عن الله مواعظه » (3).
ثالثاً : سيرة المعصومين
صدع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة إلى الله تعالى ، بنبذ عبادة الاصنام ، والاستسلام له في العبودية ، والتعالي على مفاهيم وقيم الجاهلية ، فقد
دعا (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المعروف الاكبر وهو الاِيمان بالله تعالى وتوحيده ، ونهى عن المنكر الاَكبر وهو الكفر والشرك ، فخاطب العقول ثم القلوب ثم الارادة ، ليكون الولاء لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وليكون السلوك والممارسات الاخلاقية منسجمة مع ما أراده الله تعالى .
فدعا إلى البر والتقوى ، وإلى الصدق والامانة ، وإلى العدل والرحمة ، وحفظ العهد ، ومطابقة القول للفعل .
ونهى عن الشر والعصيان ، وعن الكذب والخيانة ، وعن الظلم والاعتداء ، وعن الخداع والغش ، وعن سائر الموبقات .
ودعا إلى حسن العلاقات الاجتماعية ونهى عن التقاطع والتدابر .
وكان يدعو الكفار كما يدعو أهل الكتاب ، وكان يذكّر المسلمين بالفضائل والمكارم ، وينهاهم عن الرذائل وسوء الاَفعال ، ولم يتوقف عن ذلك في جميع مراحل حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي جميع الظروف.. في مرحلة العهد المكّي حينما كان مضطهداً ومطارداً من قبل المشركين ، وفي مرحلة العهد المدني بعد تأسيسه للدولة الاِسلامية .
وتابع أمير المؤمنين (عليه السلام) سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) في القيام باداء مسؤولية الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع مراحل حياته ، إلى أن وصل إلى مرحلة المجابهة بالسيف على من ارتكبوا المنكر الاكبر وهو التمرد على الامامة الحقّة ، وارادوا شق عصا المسلمين ، فأجاب (عليه السلام) من اعترض عليه في مواجهته العسكرية للبغاة في صفيّن : « ... ولقد أهمّني هذا الاَمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينيه ، فلم أجد إلاّ القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وأهميتهما
تمهيد في معناهما :
جاء في كتب اللغة أن المعروف : ما يستحسن من الافعال ، وكلّ ماتعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه (1).
والمنكر : كل ما قبّحه الشرع وحرّمه وكرّهه (2).
وقيل عن المعروف : هو اسم لكلِّ فعل يُعْرَف بالعقل أو الشرع حسنه . والمنكر : ما ينكر بهما (3) ، أي كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه أو تتوقف في استقباحه واستحسانه ، فتحكم بقبحه الشريعة (4).
وجاء في مجمع البيان أنّ المعروف : الطاعة ، والمنكر : المعصية .
وكل ما أمر الله ورسوله به فهو معروف ، وما نهى الله ورسوله عنه فهو منكر(1).
موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
لا يختص الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمورد من الموارد ، ولا مجال من المجالات ، بل هو شامل لجميع ما جاء به الاِسلام من مفاهيم وقيم ، فهو شامل للتصورات والمبادئ التي تقوم على أساسها العقيدة الاِسلامية ، وشامل للموازين والقيم الاِسلامية التي تحكم العلاقات الانسانية ، وشامل للشرائع والقوانين ، وللاوضاع والتقاليد ، وبعبارة اُخرى هو دعوة إلى الاِسلام عقيدة ومنهجاً وسلوكاً ؛ بتحويل الشعور الباطني بالعقيدة إلى حركة سلوكية واقعية ، وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة متفاعلة ومتصلة مع الاوامر والارشادات الاِسلامية ، ومنكمشة ومنفصلة عن مقتضيات النواهي الاِسلامية .
وقد بيّن الاِمام الحسين (عليه السلام) موارد الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائلاً : « ... بدأ الله بالاَمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر فريضة منه ، لعلمه بأنّها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلّها هينها وصعبها ؛ وذلك أن الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الاِسلام ، مع ردّ المظالم ومخالفة الظالم ، وقسمة الفيء والغنائم ، وأخذ الصدقات من مواضعها ، ووضعها في حقها...» (2).
وقد تجلّت هذه الشمولية بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمعاذ بن جبل حينما
ولاّه على أحد البلدان : « يا معاذ علمهم كتاب الله وأحسن أدبهم على الاخلاق الصالحة ، وانزل الناس منازلهم ـ خيّرهم وشرهم ـ وانفذ فيهم أمر الله... وأمت أمر الجاهلية إلاّ ما سنّه الاِسلام ، واظهر أمر الاِسلام كلّه ، صغيره وكبيره ، وليكن أكثر همّك الصلاة فإنّها رأس الاِسلام بعد الاقرار بالدين ، وذكّر الناس بالله واليوم الآخر واتبع الموعظة » (1).
والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستتبع جميع مقوّمات الشخصية الانسانية في الفكر والعاطفة والسلوك ، لتكون منسجمة مع المنهج الالهي في الحياة ، وتكون هذه المقومات متطابقة مع بعضها ، فلا ازدواجية بين الفكر والعاطفة ولا بينهما وبين السلوك ، وهي وحدة واحدة يكون فيها الولاء والممارسة العملية لله وحده ولمنهج التوحيد الذي دعا إليه في جميع مفاهيمه وقيمه
حكم الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إنّ الاِسلام ليس مجرد تفكير وتدبّر وخشوع يتحرك في داخل العقول والقلوب ، وإنّما هو منهج حياة واقعي ، يدعو إلى استنهاض الهمم والعزائم وتقوية الارادة ؛ لتنطلق في الواقع مجسدة للمفاهيم والقيم الالهية بصورة عملية ، وهو يدعو إلى النهوض بالتكاليف الالهية في عالم الضمير وعالم الواقع على حدٍّ سواء ، والاستقامة على ضوئها .
وبما ان الاِنسان يحمل في جوانحه الاستعدادات المختلفة للخير والشر وللفضيلة والفجور ، ويتأثر بالعوامل الخارجية كالمغريات والمثيرات المتنوعة ، اضافة إلى دور الشيطان في الوسوسة والاغراء ، فهو بحاجة إلى من يهديه ويرشده ويقوّم له تصوراته وعواطفه وممارساته العملية ، لتكون موصولة بالعقيدة والشريعة الاِسلامية ، ولهذا شرّع الاِسلام الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليقوم به الاِنسان المسلم إيقاظاً للقلوب البشرية الغافلة ، وتحريكاً للارادات الضعيفة لتستقيم على أساس المفاهيم والموازين الالهية .
فأوجب سبحانه وتعالى الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعله من التكاليف الاَساسية ؛ لاَنّه غاية الدين كما عبّر عنه الاِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : « غاية الدين الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقامة الحدود »(1).
وقال (عليه السلام) : « قوام الشريعة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقامة الحدود » (2).
أدلة الوجوب :
أولاً : القرآن الكريم :
اعتمد أغلب الفقهاء على الآيات القرآنية في اثبات الوجوب دون ذكر تفاصيل الاستدلال (1) ، اقراراً منهم بوضوح دلالتها حتّى قيل : (إنّ وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرورة دينية عند المسلمين يستدلُّ بها ، ولا يستدل عليها) (2).
وفيما يلي نستعرض الآيات القرآنية الواقعة في مقام الاستدلال على الوجوب .
الآية الاُولى : ( وَلتكُن مِنكُم أُمّة يَدعُونَ إلى الخَيرِ ويَأمُرُونَ بِالمعرُوفِ وَيَنهونَ عَنِ المنكَرِ وأُولئك هُمُ المفلحِونَ ) (3).
المخاطب بهذه الآية القرآنية هم المؤمنون كافة ، فهم مكلفون بأن (ينتخبوا منهم أُمّة تقوم بهذه الفريضة ، وذلك بأن يكون لكلِّ فرد منهم ارادة وعمل في ايجادها) (4).
وهي واضحة الدلالة على الوجوب ، فإنّ قوله تعالى : ( ولتكن ) أمر ، وظاهر الاَمر الايجاب هذا من جهة ، ومن جهة اُخرى حصرت الآية الفلاح بهذا العمل .
و (مِنْ) في (منكم) للتبعيض (1) ، لذا استدلّ أغلب الفقهاء على أن الوجوب كفائي (2) فإذا قام به البعض سقط عن الآخرين .
الآية الثانية : ( كُنتُم خَيرَ أُمّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمرُونَ بِالمعرُوفِ وَتَنهونَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤمِنونَ بِاللهِ ) (3).
قرنت الآية القرآنية الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالايمان بالله تعالى ، وقدّمتهما عليه (لانهما سياج الاِيمان وحفاظه) (4).
ومعنى الآية : (صرتم خير أُمّة خُلقت ؛ لاَمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر وإيمانكم بالله ، فتصير هذه الخصال على هذا القول شرطاً في كونهم خيراً) (5) .
وهذه الخيرية (لا يستحقّها من أقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، وحجّ البيت الحرام ، والتزم الحلال ، واجتنب الحرام مع الاخلاص الذي هو روح الاِسلام ، إلاّ بعد القيام بالاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر...) (6).
واستدل الفقهاء بهذا الثناء الذي انحصر بهذه المزايا الثلاث على الوجوب (فمدحهم بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما مدحهم
بالايمان بالله تعالى ، وهذا يدل على وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (1) .
وقد اكتفى كثير من الفقهاء بذكر الآية دليلاً دون تفصيل (2) ، لاقتران الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالايمان بالله تعالى ، ووقوعهما في مستواه ، وتخصيص الثناء والمدح بالخيرية بهذه الصفات الثلاث .
الآية الثالثة : ( لَيسُوا سَوَاءً مِن أهلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمةٌ يَتلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ الليلِ وَهم يَسجُدُونَ * يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليومِ الآخرِ ويَأمُرُونَ بِالمعرُوفِ وَيَنهونَ عَنِ المنكَرِ وَيُسارِعُونَ في الخَيراتِ وأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحينَ ) (3).
جعل الله تعالى الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر من علامات القيام بالواجبات ، ومن علامات الصلاح ، فلم يشهد الله تعالى لهم بالصلاح بمجرد الايمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4).
ومفهوم الآية هو انّ الذين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر لايعدّون من الصالحين ، ولولا الوجوب لما نفى صفة الصلاح عنهم .
الآية الرابعة : ( والمؤمِنُونَ والمؤمِناتُ بَعضُهُم أولياءُ بعضٍ يأمرُونَ بالمعرُوفِ وَينهوَن عَنِ المُنكَرِ ويُقيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤتَونَ الزَّكاةَ ويُطيعُونَ اللهَ
وَرَسولَهُ أولئِكَ سَيرحمُهُمُ اللهُ إنَّ اللهَ عَزيزٌ حكيمٌ ) (1).
جعل الله تعالى الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الاوصاف الخاصة بالمؤمنين ، وهما من شؤون ولاية بعض المؤمنين على بعض .
وعلى هذا فالذي يهجر الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون خارجاً عن (هؤلاء المؤمنين المنعوتين في هذه الآية) (2).
واخراج التاركين للاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جماعة المؤمنين لا يصحّ ولا يستقيم إلاّ إذا كانا واجبين ، وعليهما تترتب الرحمة .
ويؤيد ثبوت الوجوب انّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وردا في سياق الواجبات كاقامة الصلاة وايتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهما واجبان بدلالة وحدة السياق ، وتكرّر اقترانهما مع الواجبات يفيد الاطمئنان بوجوبهما .
الآية الخامسة : ( لَولا يَنهاهُمُ الرَّبَّانيُونَ والاَحبارُ عَن قَولِهِم الاِثمَ وأكلِهِمُ السُّحتَ لَبئسَ ما كَانُوا يَصنعُونَ ) (3).
ذمّ الله تعالى ووبَّخ بني اسرائيل لقولهم الاَثم وأكلهم السحت ، وذمّ علماءهم لعدم قيامهم بنهيهم ، فذمّ (هؤلاء بمثل اللفظة التي ذم بها اولئك ، وفي هذه الآية دلالة على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه) (4).
فالتوبيخ شامل لمرتكب المنكر والساكت عن النهي عنه ، فقد وبَّخ الله تعالى (الربانيين والاحبار في سكوتهم عنهم ، وعدم نهيهم عن ارتكاب هذه الموبقات من الآثام والمعاصي ، وهم عالمون بأنّها معاصٍ وذنوب)(1).
فقد بين الله تعالى ان الربانيين والاَحبار أثموا بترك النهي عن المنكر والدلالة واضحة على وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلو لم يكونا واجبين لما ترتب الاَثم على تركهما ، ولما وبّخهم الله تعالى على سكوتهم ؛ لاَنّ التوبيخ يستتبع العمل السيئ ، وترك النهي عن المنكر هو أحد مصاديقه .
الآية السادسة : ( لُعِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مِن بَني إسرائيلَ عَلى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ ذَلِكَ بِما عَصَوا وَّكَانُوا يَعتدُونَ * كَانُوا لا يَتَناهَونَ عَن مُّنكَرٍ فَعلَوهُ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ ) (2).
لعن الله تعالى بني اسرائيل بعصيانهم واعتدائهم ، ثمّ بيّن حالهم ، فقال : ( كَانُوا لا يَتَناهَونَ عَن مُّنكَرٍ فَعلُوهُ ) أي لم يكن ينهى بعضهم بعضاً ، ولا ينتهون أي لا يكفّون عمّا نهوا عنه (3).
وقد علّل الله تعالى استحقاقهم اللعنة ( بتركهم النهي عن المنكر ) (4).
فلو لم يكن النهي عن المنكر واجباً لما استحقوا اللعنة بتركهم إيّاه ؛ لاَنّ
اللعنة تختص بترك الواجب .
ويؤيد الوجوب ما روي عن ابن عباس في تفسير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للآية ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : « لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر ، ولتأخذنَّ على يد السفيه ، ولتأطرنه على الحق اطراً أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم » (1).
الآية السابعة : ( يَا أيُّها الَّذِينَ آمنُوا قُوا أنفُسَكُم وأهلِيكُم نَاراً وقُودُها النَّاسُ والحِجارةُ... ) (2).
وقاية الاَهل من النار تتم (بدعائهم إلى الطاعة وتعليمهم الفرائض ، ونهيهم عن القبائح ، وحثّهم على أفعال الخير) (3).
والوقاية هي الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما روي عن الاِمام الصادق (عليه السلام) قال : « لمّا نزلت هذه الآية... جلس رجل من المسلمين يبكي ، وقال : أنا عجزت عن نفسي ، كُلّفت أهلي ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك ، وتنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك » (4).
وفعل الاَمر (قوا) يدل على الوجوب ، ويتحقق هذا الفعل ان قام الاِنسان بالاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما واجبان ؛ لاَنهما مقدمة من مقدمات الهداية والانقاذ من النار .
وقد وردت آيات في غير موضع من القرآن الكريم قرنت الاَمر
بالمعروف والنهي عن المنكر مع سائر الواجبات الشرعية ، كما ورد في سورة الحج (1) ، وسورة لقمان (2).
ثانياً : الروايات الشريفة :
الروايات الدالة على وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستفيضة ومتواترة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ، وقد أكدت السيرة على ذلك ، حتى أصبح سكوت المعصوم (عليه السلام) عن عمل معينٍ دليلاً على جوازه ، فلو كان محرّماً لنهى عنه ، وكانت سيرة المعصومين (عليهم السلام) تجسيداً للاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى ، بتصحيح اعتقاد الناس وتربية نفوسهم وتهذيب سلوكهم .
عن حذيفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : « الاِسلام ثمانية أسهم : الاِسلام سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والصوم سهم ، وحج البيت سهم ، والاَمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، والجهاد في سبيل الله سهم ، وقد خاب من لا سهم له » (3).
فقد عدّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جملة الواجبات وجعل الخيبة والخسران نتيجة لمن لا سهم له .
وسلب (صلى الله عليه وآله وسلم) صفة الاِسلام والاِيمان ممّن لا يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فقال : « ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ، ويوقّر كبيرنا ، ويأمر
بالمعروف ، وينهى عن المنكر » (1) ومعنى السلب هو قلة الحظ من الدين . وصفة الاِسلام والايمان لا تسلب إلاّ ممن لا يؤدي واجباً .
ودلّت الروايات على وجوب نشر العلم وتعليم الجهّال ، ونشر العلم يتحقّق بتبيان العقيدة الصحيحة وأحكام الشريعة كما أنزلت وهي مظهر من مظاهر الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « ما أخذ الله سبحانه على الجاهل أن يتعلّم حتى أخذ على العالم أن يُعَلم » (2) .
ومن مظاهر الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر محاربة البدع وذلك عن طريق اثبات مخالفتها للعقيدة والشريعة ، ثم تبيان الرأي الاَصوب والحكم الاَصوب والسلوك المنسجم مع المبادىَ والقيم الاِسلامية . ومحاربة البدع واجبة كما أكّد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله : اذا ظهرت البدعة في أُمتي فليظهر العالم علمه ، فإن لم يفعل فعليه لعنة الله (3).
فلو لم يكن اظهار العلم واجباً لما استحقّ تاركه اللعنة .
والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفرائض العظيمة التي تتوقف عليها اقامة جميع الفرائض كما بيّن ذلك الاِمام محمد الباقر (عليه السلام) : « إنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الاَنبياء ، ومنهاج الصالحين ، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض ، وتأمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم ، وتعمّر الاَرض ، وينتصف من الاعداء ، ويستقيم الاَمر ، فانكروا
بقلوبكم ، وألفظوا بألسنتكم ، وصكّوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم... أوحى الله إلى شعيب النبي (عليه السلام) : اني لمعذب من قومك مئة ألف : أربعين ألفاً من شرارهم ، وستين ألفاً من خيارهم ، فقال : يا ربّ هؤلاء الاشرار ، فما بال الاخيار ؟ فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه أنهم داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي » (1).
فقد بيّن (عليه السلام) ان الساكتين عن المعاصي بعدم مواجهتها بنهي عنها أو أمر بمعروف فقد استحقوا العذاب وان كانوا اخياراً ؛ لاَنّهم تركوا واجباً ولم يؤدوه .
وقد تظافرت الروايات على أنّ الله تعالى يبغض من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وعلى نزول العذاب عليه ، فلو لم يكن واجباً لما ترتب بغض الله تعالى لمن تركه أو نزول عذابه عليه .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ الله عزَّ وجلَّ ليبغض المؤمن الضعيف الذي لادين له ، فقيل له : وما المؤمن الذي لا دين له ؟ ، قال : الذي لا ينهى عن المنكر (2).
فقد اجتمع فيه بغض الله له ، وسلب الدين منه .
وعن الاِمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال : « كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : اذا أُمتي تواكلت الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلتأذن بوقاع من الله تعالى » (3).
ورتب الاِمام جعفر الصادق (عليه السلام) نصر الله تعالى لمن نصر الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وخذلانه لمن خذلهما ، أي بالاداء والترك ، فقال (عليه السلام) : « الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله تعالى ، فمن نصرهما أعزه الله تعالى ، ومن خذلهما خذله الله تعالى » (1).
وجعل (عليه السلام) عدم القيام بانكار المنكر مبارزة لله بالعداوة ، فقال : « ...واذا رأى المنكر فلم ينكره ، وهو يقوى عليه ، فقد أحبّ أن يُعصى الله ، ومن أحبّ أن يُعصى الله ، فقد بارز الله بالعداوة... » (2).
وتترتب على ترك الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر آثار وخيمة يوم القيامة ، بحيث لا تنفع الاِنسان سائر عباداته ان كان غافلاً عن المواعظ الالهية ، فلم يقم بادائها أو الترويج لها واشاعتها بين الناس ، قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « وقد سبق إلى جنات عدن أقوام كانوا أكثر الناس صلاة وصياماً ، فإذا وصلوا إلى الباب ردّوهم عن الدخول ، فقيل : بماذا ردّوا ؟ ألم يكونوا في دار الدنيا قد صلّوا وصاموا وحجّوا ؟ فإذا بالنداء من قبل الملك الاَعلى جلّ وعلا : بلى قد كانوا ليس لاَحد أكثر منهم صياماً ولا صلاة ولا حجاً ولا اعتماراً ، ولكنّهم غفلوا عن الله مواعظه » (3).
ثالثاً : سيرة المعصومين
صدع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة إلى الله تعالى ، بنبذ عبادة الاصنام ، والاستسلام له في العبودية ، والتعالي على مفاهيم وقيم الجاهلية ، فقد
دعا (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المعروف الاكبر وهو الاِيمان بالله تعالى وتوحيده ، ونهى عن المنكر الاَكبر وهو الكفر والشرك ، فخاطب العقول ثم القلوب ثم الارادة ، ليكون الولاء لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وليكون السلوك والممارسات الاخلاقية منسجمة مع ما أراده الله تعالى .
فدعا إلى البر والتقوى ، وإلى الصدق والامانة ، وإلى العدل والرحمة ، وحفظ العهد ، ومطابقة القول للفعل .
ونهى عن الشر والعصيان ، وعن الكذب والخيانة ، وعن الظلم والاعتداء ، وعن الخداع والغش ، وعن سائر الموبقات .
ودعا إلى حسن العلاقات الاجتماعية ونهى عن التقاطع والتدابر .
وكان يدعو الكفار كما يدعو أهل الكتاب ، وكان يذكّر المسلمين بالفضائل والمكارم ، وينهاهم عن الرذائل وسوء الاَفعال ، ولم يتوقف عن ذلك في جميع مراحل حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي جميع الظروف.. في مرحلة العهد المكّي حينما كان مضطهداً ومطارداً من قبل المشركين ، وفي مرحلة العهد المدني بعد تأسيسه للدولة الاِسلامية .
وتابع أمير المؤمنين (عليه السلام) سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) في القيام باداء مسؤولية الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع مراحل حياته ، إلى أن وصل إلى مرحلة المجابهة بالسيف على من ارتكبوا المنكر الاكبر وهو التمرد على الامامة الحقّة ، وارادوا شق عصا المسلمين ، فأجاب (عليه السلام) من اعترض عليه في مواجهته العسكرية للبغاة في صفيّن : « ... ولقد أهمّني هذا الاَمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينيه ، فلم أجد إلاّ القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) .