الحث على أداء فريضة الحج وشروطها - الحث على الإنفاق في سبيل الله عزَّ و جل
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ لله الذي فرضَ الحج على عباده إلى بيته الحرام، ورتَّب على ذلك جزيل المعروف والإنعام، فمَن حجَّ البيت ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه نقيًّا من الذنوب والآثام، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة دار السلام، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله أفضل مَن صلَّى وزكَّى وحجَّ وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى وأدّوا ما فرض الله عليكم من الحج إلى بيته الحرام حيث استطعتم إليه سبيلاً، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام»(1)، وقد بيَّن الله تعالى في كتابه أنه فرض الحج على عباده فقال جلَّ وعلا: ?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ? [آل عمران: 97] .
تأمَّلوا قول الله عزَّ وجل: ?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ? حيث صدَّر الآية ببيان فَرْضه على جميع الناس ولكنّه بفضله ورحمته قيَّد ذلك بقوله: ?مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً? ثم قال تعالى: ?وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ? وقد أخَذَ بعض العلماء من هذه الآية أن مَن استطاع أن يحج إلى البيت ولم يحج فإنه كافر لقوله تعالى: ?وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ? وهذه رواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولكنّ جمهور العلماء يقولون: إن المراد بالكفر هنا ليس الكفر الأعظم بل هو كفر دون كفر وهذا هو الحق لقول عبد الله بن شقيق رحمه الله: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة»(2) .
فريضة الحج ثابتة بكتاب الله وسنَّة رسوله وإجماع المسلمين عليها إجماعًا قطعيًّا؛ ولهذا قال العلماء: مَنْ أنكر فريضة الحج فقد كفر؛ يعني: لو قال إنسان: إن الحج ليس بفريضة ولكنّه سنَّة مؤكّدة لَكَان كافرًا إلا إذا كان الإنسان حديث عهد بإسلام أو في بادية بعيدة عن المدن والعلْم فإنه يُعلَّم ثم إن أَصرَّ بعد التعليم على أنها ليست بفريضة كان كافرًا .
أيها المسلمون، إن من الناس مَن ابتُلِيَ بالبخل على نفسه: تجده قادرًا ببدنه غنيًّا بماله ولكنّه يتكاسل ويتهاون ويُسَوِّفُ ويقول: العام القادم أحج ولا يدري أيدركه الموت قبل العام القادم أو لا، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الإنسان إذا ترك الحج تهاونًا مع القدرة ثم مات فإنه يلقى الله تعالى ناقصًا ركنًا من أركان الإسلام ولا ينفع أن يحج عنه ورثتُه .
أيها المسلمون، كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه ! كيف يبخل الإنسان على نفسه بالمال وهو يُنفق الكثير من ماله فيما تهواه نفسه ! كيف يوفّر نفسه عن التعب في الحج وهو يُرهق نفسه في التعب في أمور دنياه ! كيف يتثاقل فريضة الحج والحج لا يجب في العمر إلا مرّة واحدة ! كيف يتراخى في أدائه وهو لا يدري لعلّه لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه !
فاتَّقوا الله - عباد الله - وأدّوا ما فرض الله عليكم من الحج تعبّدًا لله عزَّ وجل، وانقيادًا لحكمه، وسمعًا وطاعة لأمره إن كنتم مؤمنين، ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا? [الأحزاب: 36] .
إن الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام في هذا الباب، قسم من الناس: يتهاون بِما أوجب الله عليه من الحج ويسوّف ويُمهل نفسه ولا يدري أيدركه الموت قبل أن يحج أم لا، وقسم آخر: يرى أن من المؤكّد أن يحج كل عام فلا يدع الحج ولو كان صرف المال في غيره أفضل ومع ذلك تجده حريصًا جدًّا على الحج وهو متهاون بِما هو أعظم من الحج وأفضل من الحج، تجده يبذل المال في الحج ولو كثيرًا ولكنّه لا يؤدّي الزكاة أو يؤدّي بعضها ويتهاون في بعضها وربما يحرص على الحج كثيرًا ولكنّه إذا قام إلى الصلاة قام على كسل ومهل وتهاون، بل إن من الناس مَن يحرص على الحج كثيرًا ومع ذلك فإنه لا يصلي أبدًا وهذا الذي لا يصلي أبدًا لا يَحِل له أن يدخل مكة ولا حدود حرمها ولا يُقبل منه حج أو عمرة ولا صدقة ولا صيام؛ ذلك لأنه كافر، الذي لا يصلي كافرٌ كفرًا أكبر مخرجًا عن الملّة لا يقبل الله منه صَرْفًا ولا عدلاً، يقول الله عزَّ وجل: ?وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ? [التوبة: 54] .
أما القسم الثالث من الناس فهو: المتوسّط الذي يؤدّي ما أوجب الله عليه من الحج ويعلم ويؤمن بأن الحج لا يجب إلا مرّة وما عدا ذلك فهو تطوّع، ثم هو يقدّم بعض التطوّع على بعض إذا رأى أن غيره أفضل، فمثلاً: لو كان الإنسان مُحتاجًا إلى أن يتزوّج وقد حجَّ حَجّ الفريضة فإننا نقول له: صَرْفُ المال في الزواج أفضل من صرفه في الحج، ولو كان في المسلمين مجاعة و مسغبة وهو قد حجَّ الفريضة فإننا نقول له: إن صرف النفقات في حاجات المسلمين أفضل، ولو احتاج المسلمون إلى نفقات للجهاد فإن صرف النفقات في الجهاد أفضل من صرفها في حج التطوّع ولو احتاجت جهة من البلد - أي بلد إسلامي يؤمَن من الفتنة في إقامة المساجد فيه - لو احتاجت إلى مسجد فإن صرف الدراهم في المسجد أفضل من صرفها في الحج إذا كان قد أدّى الفريضة؛ لذلك ينبغي للإنسان أن يُقارن بين الأعمال وبين الفاضل والمفضول منها ولْيتّبع ما هو أفضل وأرضى لله عزَّ وجل .
أيها المسلمون، إن من تمام رحمة الله ومن بالغ الحكمة أن جعل لفرائضه حدودًا وشروطًا؛ لتنضبط الفرائض وتتحدَّد المسؤولية، وجعل هذه الحدود والشروط في غاية المناسبة للفاعل والزمان والمكان، ومن هذه الفرائض: الحج الذي فرضه الله على عباده ولكنّه جعل لفرضه حدودًا وشروطًا لا يجب على المسلم إلا بها، فمن ذلك: البلوغ، فمَن كان دون البلوغ فإن الحج لا يجب عليه ولكنّه لو حج فله أجر إلا أنه إذا كان في حجه مشقّة عليه وعلى وليّه وكان يشغل وليّه عن الإتيان بِما هو أفضل من نسكه فإن الأولَى ألا يحجّج بل يبقى حلالاً؛ حتى لا ينشغل بِما يشقّ عليه ولا ينشغل وليّه بِما يُلْهيه عن أداء نسكه على الوجه الأكمل لاسيما في هذا العصر الذي يكثر فيه الزحام والمشقّة .
ويحصل البلوغ في الذكور بواحد من أمور ثلاثة، الأول: إنزال المني، والثاني: تمام خمس عشرة سنة، والثالث: نبات شعر العانة، وفي الإناث يحصل البلوغ بواحد من هذه الثلاثة وبزيادة أمر رابع وهو: الحيض، فمَن لم يحصل منه واحد من ذلك فإنه ليس ببالغ ولا يلزمه الحج .
ومِن شروط وجوب الحج: أن يكون الإنسان مستطيعًا بماله وبدنه؛ لأن الله تعالى شرط ذلك للوجوب في قوله: ?مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً? [آل عمران: 97]، فمَن لم يكن مستطيعًا فلا حج عليه، والاستطاعة بالمال: أن يملك الإنسان ما يكفي لحجه زائدًا عن حوائج بيته وما يحتاجه من نفقة وكسوة له ولعياله وأجرة سكن وقضاء ديون حالَّة؛ وعلى هذا فنقول: مَنْ كان عليه دَيْن حالٌّ فإنه يجب عليه قضاؤه قبل أن يحج، ومَنْ كان عليه دَيْن مؤجّل وقد وثِق من نفسه أن يوفيه في وقت حلوله وكان عنده ما يحج به فلْيحج، ومَنْ كان عليه دَيْن مؤجّل ولكنه ليس واثقًا من قضائه في محلّه وعنده دراهم فلْيبْقها للدَّين الذي يَحِل عليه فيما بعد ليؤدّي الدَّين، وأما مَنْ حج وعليه دَين حالٌّ ولم يوفِهِ فإنه آثم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم»(3)، ونحن إذا قلنا الدَّيْن فلا نعني بذلك: الدَّيْن المعروف عند الناس والذي يسمّى عند العلماء: مسألة التورّق، ولكنّنا نريد بالدَّين: ما هو أعم من ذلك، فالدَّين: كل ما ثبت في الذمة من ثمن مبيع أو أجرة منزل أو غير ذلك مِمَّا يتعلّق بالذمة؛ لأن قضاء الدَّين مهمّ جدًّا، «حتى إن الرجل لَيُقتل في سبيل الله شهيدًا فتكفّر عنه الشهادةُ كل شيءٍ إلا الدَّين فإنها لا تكفّره»(4)، وحتى إن الرجل لَيموت وعليه الدَّين، فيروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أن «نفسه معلّقة بدَيْنه حتى يُقضى عنه»(5)، «وحتى إن الرجل لَيُقدّم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه فإذا سأل أَعَلَيه دين ؟ فقالوا: نَعم، تَرَك الصلاة عليه وقال: صلّوا على صاحبكم، فلمّا فتح الله عليه - أي: على النبي صلى الله عليه وسلم - وكثر المال عنده صار صلى الله عليه وسلم يلتزم بقضاء الدَّين عن الميت ويصلي عليه»(6) .
أما الاستطاعة بالبدن: فأن يكون الإنسان قادرًا على الوصول بنفسه إلى البيت - أي: إلى مكة - بدون مشقّة، فإن كان لا يستطيع الوصول إلى البيت أو يستطيع الوصول إلى البيت ولكن بمشقّة شديدة كالمريض فإننا ننظر: إن كان يُرجى أن يستطيع في المستقبل انتظر حتى يستطيع ثم يحج فإن مات قبل ذلك حُجّ عنه من تركته، فإن كان لا يُرجى أن يستطيع في المستقبل كالكبير والمريض الذي أُيِسَ من برئه فإنه يوكِّل مَن يحج عنه من أقاربه أو غيرهم فإن مات قبل التوكيل حُجّ عنه من تركته .
ومن الاستطاعة: أن يكون للمرأة مَحْرم فليس على المرأة حج حتى تجد مَحْرمًا يحج معها؛ لأنها لا تستطيع الوصول إلى البيت إلا بالمحرَم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس فقال: «لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي مَحْرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجَّة وإني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق فحج مع امرأتك»(7)، فأمَرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدع الغزو وأن يحج مع امرأته ولم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - منه هل كانت امرأته شابة أم عجوزًا ؟ وهل كان معها نساء أم لا ؟ وهل كانت جميلة أو قبيحة ؟ وهل كانت آمنة أو غير آمنه ؟ وهو دليل على أن المرأة يَحرم عليها السفر على أي حال وعلى أي مركوب طائرة أو سيارة أو سفينة أو غير ذلك إلا بمحرَم وهو زوجها وكل مَنْ يحرم عليه نكاحها تحريمًا مؤبّدًا كالأب وإن علا والابن وإن نزل والأخ وابن الأخ وإن نزل وابن الأخت وإن نزل والعم والخال سواء كان ذلك من نسب أو رضاع، وكذلك مَنْ هُمْ محارم بالمصاهرة كأب الزوج وابن الزوج .
أيها المسلمون، مَنْ رأى من نفسه أنه استكمل شروط وجوب الحج فلْيبادر به ولا يتأخر؛ فإن أوامر الله ورسوله واجبة على الفور بدون تأخير، والإنسان لا يدري ما يحصل له في المستقبل، وقد يسَّر الله لنا - ولله الحمد - في هذه البلاد ما لم يُيَسِّره لغيرنا من سهولة الوصول إلى البيت وأداء النسك، فقابلوا - أيها المسلمون - هذه النعمة بشكرها، وأدّوا ما فرض الله عليكم قبل أن يأتي أحدَكم الموتُ فيندم حين لا ينفع الندم، واسمعوا قول الله عزَّ وجل: ?وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ? [الزمر: 54-58] .
أيها الإخوة، مَنْ حج على الوجه الشرعي مُخلصًا لله متَّبعًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد تَمَّ حجه سواء كان قد تُمِّمَ له أم لا وسواء كان قد قضى ما عليه من صيام رمضان أم لم يقضِ، أما ما توهَّمه بعض العوام أن مَن لم يُتَمَّم له فلا حج له فهذا غير صحيح؛ فلا علاقة بين التميمة والحج، وكذلك ما توهَّمه بعض الناس من أنه إذا كان عليه قضاء من رمضان فإنه لا يحج فهذا أيضًا لا صحةَ له ولا أصل له .
اللهم إنّا نسألك علْمًا نافعًا وعملاً صالِحًا مُتقبّلاً ورزقًا طيِّبًا واسعًا تغنينا به عن غيرك يا رب العالمين .
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله شهادة تنجي مَن أخلصها يوم يلاقيه، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله وخليله وأمِينه على وحْيه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فيا عباد الله، اتَّقوا الله عزَّ وجل، قوموا بِما أوجب الله عليكم واجتنبوا ما نهى الله عنه؛ فإن ذلك عنوان السعادة، يقول الله عزَّ وجل: ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [النحل: 97].
أيها الإخوة، إننا ذكرنا أن مَنْ عليه دَيْن حالٌّ وجبَ عليه قضاؤه قبل أن يحج وأن مَنْ عليه دَيْن مؤجَّل وهو يرجو وفاءه فإنه يحج بِما عنده من المال وإذا حَلَّ الدَّيْن أوفاه، ومَنْ عليه دَيْن مؤجَّل لكن لا يرجو وفاءه؛ لأنه قليل ذات اليد وليس له مورد فإنه لا يحج ولكن يوفي الدَّيْن الذي عليه، وذكرنا أن الإنسان لا ينبغي له أن يُسرف في الحج كل عام ويدع ما هو أفضل من ذلك، ومن هذا: أنه لو كان هناك فقير لم يؤدِ فريضة الحج وكان الإنسان عنده زيادة مال يريد أن يحجّج عنه نفلاً فإن الأفضل أن يُعين هذا الفقير على فرضه أفضل من كونه يُنيب مَنْ يحج عنه نفلاً، بل إن بعض العلماء قال: إن الإنابة في النفل غير صحيحة؛ لأن الإنابة في الحج إنما جاءت في الفريضة لِمَن لا يستطيع أن يحج، وأما النافلة فمَنْ كان عنده مال فلْيحج به بنفسه وإلا فلا ينيب ولكنّ المشهور عند فقهائنا الحنابلة - رحمهم الله - أنه لا بأس أن يُنيب في النفل ولو كان قادرًا إلا أنه - كما قلت لكم - إذا صرف هذه الدراهم في حج فرْضِ فقيرٍ فهو أفضل؛ لأنه يُعين إنسانًا على أداء فريضة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن جهَّز غازيًا فقد غزا»(8) ولا يبعد أن يكون كذلك الحج أن مَن جهز حاجًّا فقد حج، وإذا كانت فريضة كان للذي جهّزه مثل أجره؛ لأن الحج نوع من الجهاد في سبيل الله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها - وقد سألته هل على النساء جهاد ؟ قال: «عليهنّ جهاد لا قتال فيه: الحجُّ والعمرة»(9)؛ ولأن الله تعالى قال في كتابه: ?وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ? [البقرة: 195-196]، فذَكَرَ إتمام الحج والعمرة بعد الأمر بالإنفاق في سبيل الله وهذا يُشعِرُ بأن الحج والعمرة نوع من الجهاد في سبيل الله .
أيها الإخوة، إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ألا وإن الجماعة: أن تجتمعوا على دين الله ولا تتفرّقوا فيه، أن تكونوا متآلفين متحابّين متناصرين في الحق، قائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه هي الجماعة، ومن ذلك أيضًا: أن تُقيموا الجماعة مع المسلمين في المساجد؛ «فإن الصلاة في المساجد أفضل من صلاة المرء وحده بسبع وعشرين درجة»(10).
فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النار، وأكْثروا من الصلاة والسلام على نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ «فإن مَنْ صلى عليه مرّة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا»(11).
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبّته واتّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفَّنا على ملّته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم أسْقنا من حوضه، اللهم اجمعنا به في جنّات النّعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين .
اللهم لا تَحل بيننا وبين ذلك بسوء أفعالنا، اللهم تجاوزْ عنّا واعفُ عنّا واغفر لنا وارحمنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم نوِّر قلوبنا بالعلم والإيمان، اللهم نوِّر قلوبنا بالعلم والإيمان، وأصْلح قلوبنا وأعمالنا، وأصْلح لنا شأننا كله يا رب العالمين .
اللهم يسِّر أمورنا واغفر ذنوبنا واهدنا للحق؛ إنك على كل شيء قدير، وبيدك الفضل والله واسع عليم .
عباد الله، ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ? [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزِدْكُم، ?وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ? [العنكبوت: 45] .
----------------
أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الإيمان] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس» رقم [7]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام] رقم [22] من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما .
أخرجه الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [الإيمان] باب: ما جاء في ترك الصلاة، رقم [546] ت ط ع .
أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الاستقراض وأداء الديون] باب: «مطل الغني ظلم»، رقم [2225]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [المساقات] باب: تحرم مطل الغني ظلم وصحة الحوالة واستحباب قبولها إذا أحيل على ملىء، رقم [2924] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
انظر إليه في [تمهيد الكمال] للمري، حديث [18] من صفحة [221]، رقم [3483] من حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، ت م ش .
أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، رقم [10194]، والترمذي في سننه رحمه الله تعالى، رقم [999]، وابن ماجة -رحمه الله تعالى- في سننه، رقم [2404] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [المحاولة] باب: مَن تكفل عن ميت فليس له أن ترجع به، قال الحسن [2133]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الفرائض] باب: مَن ترك مالاً فلورثته، رقم [3040] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الجهاد والسير] باب: مَن اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة أو كان له عذر هل يؤذن له، رقم [2784]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الحج] باب: سفر المرأة مع مَحْرم إلى الحج وغيره، رقم [2391] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع .
أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الجهاد والسير] باب: فضل مَن جهَّز غازيًا أو خلفه بخير، رقم [2631]، و أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الإمارة] رقم باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره وخلافته في أهله بخيره، رقم [3511] من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في باقي مسند الأنصار، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، رقم [24158]، وأخرجه ابن ماجة -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [المناسك] باب الحج جهاد النساء، رقم [2892] من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، ت ط ع .
أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الأذان] باب: فضل صلاة الجماعة، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، رقم [609]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [المساجد ومواضع الصلاة] باب: فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلّف عنها، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع .
أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الصلاة] باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لِمَن سمعه ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يسأل الله له الوسيلة، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، رقم [577] .
http://www.ibnothaimeen.com/all/khotab/article_124.shtml