قصة قصيرة
الإعدام / قصة قصيرة / أ. رفيقة سماحي
×××××
على ضفاف أنهار الأحلام، وفي عتمة الليل الطويل، أصدرت المحكمة حكمها عليّ بالسجن المؤبد ذلك السجن الذي لطالما كنت أخشاه رغم ترقبي له كل ليلة، فمنذ صغري وأنا أكره الغياهب والأماكن المظلمة المفزعة والمقرفة، وها هو ذا يصبح السجن سكناي وملجئي الأبدي، قضيت الليلة الأولى في السجن في غرفة ضيقة مظلمة منقوشة بالأحزان، تعلوها نافذة صغيرة جدا كنت بين الفينة والأخرى أسترق النظر إليها علني أتذوق طعم الحرية.
سولت لي نفسي بالهروب من تلك النافذة غير أنها لضيقها وشباكها المتين لم تلب رغبتي رغم جسمي النحيل، لم أستطع النوم تلك الليلة تجرعت مرارة الألم وتوسدت بالدموع التي ارتسمت على خدي مشكلة صدفات متلألئة في بحر الحزن العميق، أغمضت عيناي لأعودهما على وحشة المكان ، بيدأن فؤادي بات يقظا.
أرسلت الشمس شعاعها الذهبي من تلك النافذة ليتسلل في أعماقي ، شعرت بالارتياح لاستقبال يوم جديد رغم مكوثي في زنزانة مظلمة تأبى منح السعادة لسجينها ، وبينما أنا مسترسلة لأفكار لطالما أرهقتني أفزعني صوت الحارس وهو يفتح الباب بشدة و يصرخ، رمى الأكل لي بكل ما أتاه الله من قوة، وكأن أمامه حيوان. كلا حتى الحيوان صار مقدسا في هذا الزمان يعامل بلطف بل ومعاملته فاقت كل الحدود.
لم تكن لي رغبة في الطعام أو النوم كنت أحدق ببصري في سقف الغرفة المتهشم وأنظر من النافذة علها تنسج لي خيوط الأمل أو يسامرني طيف الحرية من جديد.
مرت أيام وسنين وأنا في تلك الزنزانة وحيدة حزينة كما الطائر السجين الذي يأمل أن يكون حرا طليقا يحلق في الجو كما يشاء ومتى شاء ، وأنى للحرية أن تطرق بابي و أنا على علم يقين بأني سأمضي بقية حياتي في السجن، فما أقسى الحقيقة ! وما أقساها إن كانت أكيدة ! غير أني أقنعت نفسي بارتداء قناع مزيف مرسوم بابتسامة تناشد الحرية.
كنت أتطلع للحرية دوما بمجرد رؤيتي لتلك النافذة لكنني أسأم أحيانا عند تذكري لمصيري ، أحلامي تحطمت أهدافي كُبلت، ضاع مستقبلي. كيف لا وقد حكموا علي بسجن مؤبد رغم براءتي المؤكــــ....لكن. دون جدوى لا أحد قادر على تصديقي يقولون لي دوما "القانون لا يحمي المغفلين" أو فعلا كنت مغفلة لهذا الحد حتى لا يستطيع القانون البشري حمايتي؟!
رغم حزني الطويل خلال تلك السنين التي قضيتها في السجن إلا أن السعادة كانت تطرق فؤادي أحيانا، نور إلاهي يتغلغل في جسدي وبراءة وارتياح يملآن فؤادي الصادق القوي.
يوم 17 سبتمبر حددت الجلسة وفيها أعادت السلطات القضائية النظر إلى قضيتي وتحديد مصيري، جاءت الأدلة جميعها ضدي ، حتى الأشخاص شهدوا ضدي شهادة زور وافتراء، أ لهذا الحد يحبون المال، ينصاعون وراء النزوات الدنيوية؟!
قبل أن يغمى علي ترددت على مسامعي كلمة القاضي الأخيرة "حكمت المحكمة بإعدام المتهمة".
نقلت إلى المستشفى ، لأنني ما كنت لأتصور يوما أن بعض القضاة لا توجد بكنههم ذرة عدل و رحمة صحيح هم بشر ، يخطئون ويصيبون ، لكن غلو ذلك القاضي مزق في نفسي جميع الآمال.
بات ذلك اليوم الموعود كالخنجر يمزق أحشائي وينقض على جسدي المرعوب ويهشم دماغي ورأسي عله يتخلص من اعتقاداتي وأفكاري التي كانت تحبس أنفاس غيري وتكبلهم بينما كانت لي أنسا ورفيقا في وحدة الدنا والسجن.
حدد موعد الإعدام اقترب مني شخص مكلف بشنقي هيئته كما الحيوان أظافره طويلة ، أشعث ، أغبر، طويل القامة، ضخم، شعره طويل، عيناه محمرتان لهيب النار يتصاعد منهما ، جرد من الإحساس والرأفة، جرد من العقل الذي حباه الله للانسان وفضله به عن سائر المخلوقات..جاء متثاقلا نحوي، أرهبني حاله وفي الوقت عينه شعرت اتجاهه بالضيق رائحته النتنة كادت أن تخنقني و تحبس أنفاسي قبل الأوان صرخ قائلا : "ألك كلمة تودين قولها قبل أن أطفئ عنك نور الحياة". فقلت وكلي شجاعة:
" لا تأسفنَّ على غدرِ الزمَانِ لطالمَـــــــــــــــا رقصَتْ علَى جُثثِ الأسودِ كـــــــــلابُ
لا تحسبنَّ برقصِهَا تعلُو على أسيادِهـَـــــــــــا تبقَى الأسُودُ أسودا والكلاَبُ كــــــلابَ"
اصفر وجهه ارتعدت فرائسه غضب غضبا شديدا وهمهم بعبارات، لم ألق لها بالا، مسك الحبل بقوة ووجّهه نحو عنقي، تمت عملية إعدامي بإحكام متقن وكأن ذلك الأشعث كان يجيد مهنته بحزم ومهارة كبيرتين.
بعدما انتهت مراسيم الدفن صار اسمي على ألسنة العامة، سمعت الأصدقاء، الأقرباء والجيران، الكل يبكي ويصرخ لم يتصور أحدهم يوما أن أدخل تلك الحفرة المظلمة الموحشة وأنا لازلت في ريعان شبابي.
بت ليلتي الأولى في القبر بدأت فيها حياتي البرزخية صار القبر ملجئي بعدما كان السجن سكناي في الدنيا جاءني منكر ونكير سألاني فأجبت، كانت إجابات يحذوها فزع وخوف يملؤها رعب وهول، بعدما فرغا من سؤالي وُسّع لي في قبري فصار أحسن من قصر ملكي وفتحت لي نافذة متعت بها ناظري، شتان بين نافذة السجن ونافذة القبر !!
تلك النافذة ما رأيت مشاهدها من قبل، صحيح كنت أتجول وأسافر أتمتع بالمناظر الخلابة وما تشدوه الطبيعة من سحرها المتدفق لكن مشاهد تلك النافذة كانت لها رسمات خاصة، مبهرة وساحرة، تربتها الزعفران حجارتها اللآلئ، بلاطها المسك، حصباؤها اللؤلؤ والجوهر، أنهارها من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى. أما طعامها ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، شرابها التسنيم والزنجبيل والكافور، آنيتها من الذهب والفضة...إنها الجنة.
بعد لحظات سمعت رنين المنبه. ياله من حلم ! استيقظت لصلاة الفجر مهرولة عزمت منذ ذلك اليوم أن أعمل بجد وصدق لإرضاء رب العباد وحتى أدخل الفردوس بسلام ويكون قبري حقا روضة من رياض الجنان.