باب الإغراء
باب الإغراء
إن قال قائل لم أقيم بعض الظروف و الحروف مقام الفعل قيل طلبا للتخفيف لأن الأسماء و الحروف أخف من الأفعال فاستعملوها بدلا عنها طلبا للتخفيف فإن قيل فلم كثر في عليك وعندك ودونك خاصة قيل لأن الفعل إنما يضمر إذا كان عليه دليل من مشاهدة حال أو غير ذلك و لما كانت على للاستعلاء و المستعلى يشاهد من تحته و عند للحضرة و من بحضرتك تشاهده و دون للقرب و من بقربك تشاهده صار هذا بمنزلة مشاهدة حال تدل عليه
فلهذا أقيمت مقام الفعل فإن قيل فلم خص به المخاطب دون الغائب والمتكلم قيل لأن الخاطب يقع الأمر له بالفعل من غير لام الأمر نحو قم و اذهب فلا يفتقر إلى لام الأمر وأما الغائب و المتكلم فلا يقع الأمر لهما إلا باللام نحو ليقم زيد و لأقم معه فيفتقر إلى لام الأمر فلما أقاموها مقام الفعل كرهوا أن يستعملوها للغائب والمتكلم لأنها تصير قائمة مقام شيئين اللام و الفعل و لم يكرهوا ذلك في المخاطب لأنها تقوم مقام شيء واحد و هو الفعل وأما قوله عليه السلام ومن لم يستطع منكم الباءة فعليه الصوم فإنه له وجاء فإنما جاء لأن من كان بحضرته يستدل بأمره للغائب على أنه داخل في حكمه وأما قول بعض العرب عليه رجلا ليسني فلا يقاس عليه لأنه كالمثل
فإن قيل فهل يجوز تقديم معمول هذه الكلم عليها أو لا قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب البصريون إلى أنه لا يجوز تقديم معمولها عليها لأنها فرع على الفعل في العمل فينبغي أن تتصرف تصرفه وأما الكوفيون فذهبوا إلى جواز تقديم معمولها عليها و استدلوا على ذلك بقوله تعالى ( كتاب الله عليكم فنصب كتاب الله ب عليكم و استدلوا أيضا بقول الشاعر - من الرجز
يا أيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا )
( يثنون خيرا و يمجدونكا ... ) و التقدير دونك دلوي ف دلوي في موضع نصب ب دونك فدل على جواز تقديم معمولها عليها.
و الصحيح ما ذهب إليه البصريون وأما ما استدل به الكوفيون فلا حجة لهم فيه لأن قوله تعالى ( كتاب الله عليكم ) ليس هو منصوبا بـ عليكم وإنما هو منصوب على المصدر بفعل مقدر وإنما قدر هذا الفعل لم يظهر لدلالة ما تقدم عليه من قوله تعالى ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ) الآية لأن في ذلك دلالة على أن ذلك مكتوب عليهم فنصب كتاب الله على المصدر كقوله تعالى ( و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب صنع الله ) فنصب صنع الله على المصدر بفعل مقدر دل عليه ما قبله و نحو ذلك قول الشاعر - من الطويل:
دأبت إلى أن ينتبت الظل بعدما ... تقاصر حتى كاد في الآل يمصح )
( وجيف المطايا ثم قلعت لصحبتي ... و لم ينزلوا أبردتم فتروحوا ) فنصب وجيف بفعل دل عليه ما تقدم وأما البيت الذي أنشدوه فلا حجة لهم فيه من وجهين أحدهما أن قوله دلوي دونكا في موضع رفع لأنه خبر مبتدأ مقدر والتقدير فيه هذا دلوي دونكا
والثاني أنا نسلم أنه في موضع نصب ولكن بإضمار فعل والتقدير فيه خذ دلوي دونك و دونك تفسير لذلك الفعل المقدر فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
أسرار العربية
أبو البركات الأنباري