باب المصدر
باب المصدر
إن قال قائل لم كان المصدر منصوبا قيل لوقوع الفعل عليه وهو المفعول المطلق فإن قيل هل الفعل مشتق من المصدر أو المصدر مشتق من الفعل قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب البصريون إلى أن الفعل مشتق من المصدر واستدلوا على ذلك من سبعة أوجه الوجه الأول أنه سمي مصدرا والمصدر هو الموضع الذي تصدر عنه الإبل فلما سمي مصدرا دل على أنه قد صدر عنه الفعل
و الوجه الثاني أن المصدر يدل على زمان مطلق و الفعل يدل على زمان معين فكما أن المطلق اصل للمقيد فكذلك المصدر أصل للفعل والوجه الثالث أن الفعل يدل على شيئين و المصدر يدل على شيء واحد و كما أن الواحد قبل الاثنين فكذلك يجب أن يكون المصدر قبل الفعل
و الوجه الرابع أن المصدر اسم وهو يستغني على الفعل والفعل لا بد له من الاسم وما يكون مفتقرا إلى غيره و لا يقوم بنفسه أولى بأن يكون فرعا مما لا يكون مفتقرا إلى غيره و الوجه الخامس أن المصدر لو كان مشتقا من الفعل لوجب أن يدل على ما في الفعل من الحدث والزمان ومعنى ثالث كما دلت أسماء الفاعلين والمفعولين على الحدث وعلى ذات الفاعل و المفعول به فلما لم يكن المصدر كذلك دل على أنه ليس مشتقا من الفعل و الوجه السادس أن المصدر لو كان مشتقا من الفعل لوجب أن يجري على سنن واحد ولم يختلف كما لم تختلف أسماء الفاعلين والمفعولين فلما اختلف المصدر اختلاف سائر الأجناس دل على أن الفعل مشتق منه.
والوجه السابع أن الفعل يتضمن المصدر و المصدر لا يتضمن الفعل ألا ترى أن ضرب يدل على ما يدل عليه الضرب و الضرب لا يدل على ما يدل عليه ضرب و إذا كان كذلك دل على أن المصدر أصل و الفعل فرع و صار هذا كما تقول في الأواني المصوغة من الفضة فإنها فرع عليها و مأخوذة منها وفيها زيادة ليست في الفضة لأن الأواني فضة و ليست الفضة بأوان فدل على أن الفعل مأخوذ من المصدر كما كانت الأواني مأخوذة من الفضة فكذلك ههنا.
وأما الكوفيون فذهبوا إلى أن المصدر مأخوذ ملي الفعل و استدلوا على ذلك من ثلاثة أوجه الوجه الأول أن المصدر يعتل لاعتلال الفعل و يصح لصحته تقول قمت قياما فيعتل المصدر لاعتلال الفعل و تقول قاوم قواما فيصح المصدر لصحة الفعل فدل على أنه فرع عليه و الوجه الثاني أن الفعل يعمل في المصدر و لا شك أن رتبة العامل قبل ا لمعمول و الوجه الثالث أن المصدر يذكر توكيدا للفعل و لا شك أن رتبة المؤكد قبل رتبة المؤكد فدل على أن المصدر مأخوذ من الفعل و الصحيح ما ذهب إليه البصريون وأما ما استدل به الكوفيون ففاسد أما قولهم أنه يصح لصحة الفعل ويعتل لاعتلاله قلنا إنما صح لصحته و اعتل لاعتلاله طلبا للتشاكل ليجري الباب على سنن واحد لئلا تختلف طرق تصاريف الكلمة و هذا لا يدل على الأصل والفرع ألا ترى أنهم قالوا يعد والأصل فيه يوعد فحذفوا الواو لوقوعها بين ياء و كسرة و قالوا أعد و نعد و تعد فحذفوا الواو و إن لم تقع بين ياء و كسرة حملا على يعد لئلا تختلف طرق تصاريف الكلمة، وكذلك قالوا أكرم و الأصل فيه أأكرم إلا أنهم حذفوا إحدى الهمزتين استثقالا لاجتماعهما ثم قالوا يكرم و تكرم و نكرم فحذفوا الهمزة و إن لم تجتمع همزتان حملا على أكرم ليجري الباب على سنن واحد فكذلك ههنا وأما قولهم أن الفعل يعمل في المصدر فلنا هذا لا يدل على أنه أصل له ا فإنا أجمعنا على أن الحروف تعمل في الأسماء والأفعال و لا شك أن الحروف ليست أصلا للأسماء ولا للأفعال
فكذلك ههنا وأما قولهم إن المصدر يذكر يأكيدا للفعل قلنا هذا لا يدل على أنه فرع عليه ألا ترى أنك تقول جاءني زيد زيد و رأيت زيدا زيدا و لا يدل هذا على أن زيدا الثاني فرع على الأول فكذلك ههنا و قد بينا هذا مستوفى في المسائل الخلافية.
فإن قيل فلم كان قولهم سرت أشد السير منصوبا على المصدر قيل لأن أفعل لا يضاف إلا إلى ما هو بعض له و قد أضيف إلى المصدر الذي هو السير فلما أضيف إلى المصدر كان مصدرا فانتصب انتصاب المصادر كلها
فإن قيل فعلى ماذا ينتصب قولهم قعد القرفصاء و نحوه قيل ينتصب على المصدر بالفعل الذي قبله لأن القرفصاء لما كانت نوعا من القعود والفعل الذي هو قعد يتعدى إلى جنس القعود الذي يشتمل على القرفصاء و غيرها تعدى إلى القرفصاء التي هي نوع منه لأنه إذا عمل في الجنس عمل في النوع إذ كان داخلا تحته هذا مذهب سيبويه وذهب أبو بكر بن السراج إلى أنه صفة لمصدر محذوف والتقدير فيه قعد القعدة القرفصاء إلا أنه حذف الموصوف و أقام الصفة مقامه و الذي عليه الأكثرون مذهب سيبويه لأنه لا يفتقر إلى تقدير موصوف و ما ذهب إليه ابن السراج يفتقر إلى تقدير موصوف وما لا يفتقر إلى تقدير أولى مما يفتقر إلى تقدير فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
أسرار العربية
أبو البركات الأنباري