باب كان و أخواتها
باب كان و أخواتها
إن قال قائل أي شيء كان وأخواتها من الكلم قيل أفعال وذهب بعض النحويين إلى أنها حروف وليست أفعالا لأنها لا تدل على المصدر ولو كانت أفعالا لكان ينبغي أن تدل على المصدر فلما لم تدل على المصدر دل على أنها ليست أفعالا
و الصحيح أنها أفعال وهو مذهب الأكثيرين والدليل على ذلك من ثلاثة أوجه الوجه الأول أنها تلحقها تاء الضمير و ألفه وواوه نحو كنت و كانا و كانوا كما تقول قمت وقاما وقاموا وما أشبه ذك والوجه الثاني أنها تلحقها تاء التأنيث الساكنة نحو كانت المرأة كما تقول قامت المرأة و هذه التاء تختص بالأفعال والوجه الثالث أنها تتصرف نحو كان يكون وصار يصير وأصبح يصبح وأمسى يمسي وكذلك سائرها ما عدا ليس وإنما لم يدخلها التصرف لأنها أشبهت ما لأنها تنفي الحال كما أن ما تنقي الحال ولهذا تجري ما مجرى ليس في لغة أهل الحجاز فلما أشبهت ما وهي حرف لا يتصرف وجب ألا تتصرف
وأما قولهم إنها لا تدل على المصدر ولو كانت أفعالا لدلت على المصدر قلنا هذا إنما يكون في الأفعال الحقيقية وهذه أفعال غير حقيقية و لهذا المعنى تسمى أفعال العبارة فما ذكرناه يدل على أنها أفعال و ما ذكروه يدل على أنها أفعال غير حقيقية فقد عملنا بمقتضى الدليلين على أنهم قد جبروا هذا الكسر فألزموها الخبر عوضا عن دلالتها على المصدر و إذا وجد الجبر بلزوم الخبر عوضا عن المصدر كان في حكم الموجود الثابت
فإن قيل فعلى كم تنقسم كان و أخواتها قيل أما كان فتنقسم على خمسة أوجه:
الوجه الأول أنها تكون ناقصة فتدل على الزمان المجرد عن الحدث نحو كان زيد قائما و يلزمها الخبر لما بينا و الوجه الثاني أنها تكون تامة فتدل على الزمان و الحدث كغيرها من الأفعال الحقيقية ولا تفتقر إلى خبر نحو كان زيد وهي بمعنى حدث ووقع قال الله تعالى ( و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) أي حدث ووقع
و قال تعالى ( إلا أن تكون تجارة ) و قال تعالى ( و إن تك حسنة يضاعفها ) في قراءة من قرأ بالرفع و قال تعالى ( كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) أي وجد و حدث و صبيا منصوب على الحال و لا يجوز أن تكون كان ههنا الناقصة لأنه لا اختصاص لعيسى في ذلك لأن كلا قد كان في المهد صبيا ولا عجب في تكليم من كان فيما مضى في حال الصبي وإنما العجب في تكليم من هو موجود في المهد في حال الصبي فدل على أنها ههنا بمعنى وجد وحدث وعلى هذا قولهم أنا مذ كنت صديقك أي وجدت قال الشاعر - من الطويل - ( فدى لبنى ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب ) أي حدث يوم و قال الآخر - من الوافر -
( إذا كان الشتاء فادفئوني ... فإن الشيخ يهدمه الشتاء ) أي حدث الشتاء.
و الوجه الثالث أن يجعل فيها ضمير الشان والحديث فتكون الجملة خبرها نحو كان زيد قائم أي كان الشأن و الحديث زيد قائم قال الشاعرا - من الطويل -
( إذا مت كان الناس نصفان شامت ... وآخر مثن بالذي كنت اصنع ) أي كان الشأن و الحديث الناس نصفان والوجه الرابع أن تكون زائدة غير عاملة زيد قائم قال الشاعر - من الوافر -
( سراة بني أبي بكر تسامى ... على كان المسومة العراب ) أي على المسومة وقال آخر - من الوافر
فكيف إذا مررت بدار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام ) أي جيران كرام
والوجه الخامس أن تكون بمعنى صار قال الله تعالى ( وكان من الكافرين ) ا ( فكان من المغرقين ) أي صار وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى ( كيف نكلم من كان في المهد صبيا )
أي صار وقال الشاعر
( بتيهاء قفر والمطي كأنها ... قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها ) - من الطويل -
أي صارت فراخا بيوضها
وأما صار فتستعمل ناقصة وتامة فأما الناقصة فتدل أيضا على الزمان المجرد عن الحدث وتفتقر إلى الخبر نحو صار زيد عالما مثل كان إذا كانت ناقصة و أما التامة فتدل على الزمان والحدث ولا تفتقر إلى خبر نحو صار زيد إلى عمرو مثل كان إذا كانت تامة وكذلك سائر أخواتها تستعمل ناقصة وتامة إلا ظل وليس وما زال وما فتئ فإنها لا تستعمل إلا ناقصةا فإن قيل فلم عملت هذه الأفعال في شيئين قيل لأنها عبارة عن الجمل دون المفردات فلما اقتضت شيئين وجب أن تعمل فيهما فإن قيل فلم رفعت الاسم و نصبت الخبر قيل تشبيها بالأفعال الحقيقية فرفعت الاسم تشبيها بالفاعل و نصبت الخبر تشبيها بالمفعول فإن قيل فهل يجوز تقديم أخبارها على أسمائها قيل نعم يجوز تقديم أخبارها على أسمائها وإنما جاز ذلك لأنها لما كانت أخبارها مشبهة بالمفعول وأسماؤها مشبهة بالفاعل والمفعول يجوز تقديمه على الفاعل فكذلك ما كان مشبها به فإن قيل فهل يجوز تقديم أخبارها عليها أنفسها قيل يجوز ذلك فيما لم يكن في أوله ما نحو قائما كان زيد وإنما جاز ذلك لأنه لما كان مشبها بالمفعول و العامل فيه متصرف جاز تقديمه عليه كالمفعول نحو عمرا ضرب زيد فإن قيل فلم لم يجز تقديم أسمائها عليها أنفسها كما يجوز تقديم أخبارها عليها قيل إنما لم يجز تقديم أسمائها عليها لأن أسماءها مشبهة بالفاعل و الفاعل لا يجوز تقديمه على الفعل فكذلك ما كان مشبها به و جاز تقديم أخبارها عليها لأنها مشبهة بالمفعول والمفعول يجوز تقديمه على الفعل كما بينا فإن قيل فلم لم يجز تقديما خبر ما في أوله ما عليه قيل لأن ما في أوله ما ما عدا ما دام للنفي والنفي له صدر الكلام كالاستفهام فكما أن الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله نحو عمرا اضرب زيد فكذلك النفي لا يعمل ما بعده فيما قبله نحو قائما ما زال زيد وقد ذهب بعض النحويين ا إلى أنه يجوز تقديم خبر ما زال عليها وذلك لأن ما للنفي و زال فيها معنى النفي والنفي إذا دخل على النفي صار إيجابا فإذا صار إيجابا صار قولك ما زال زيد قائما بمنزلة كان زيد قائما وكما يجوز أن تقول قائما كان زيد
فكذلك يجوز أن تقول قائما ما زال زيد و أجمعوا على أنه لا يجوز تقديم خبر ما دام عليها وذلك لأن ما فيها مع الفعل بمنزلة المصدر ومعمول المصدر لا يتقدم عليه
فإن قيل فهل يجوز تقديم خبر ليس عليها قيل اختلف النحويون في ذلك فذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبرها عليها وذهب اكثر البصريين إلى جوازه لأنه كما جاز تقديم خبرها على اسمها جاز تقديم خبرها عليها نفسها و الاختيار عندي ما ذهب إليه الكوفيون لأن ليس فعل لا يتصرف والفعل إنما يتصرف عمله إذا كان متصرفا في نفسه وإذا لم يكن متصرفا في نفسه لم يتصرف عمله وأما قولهم أنه كما جاز تقديم خبرها على اسمها جاز تقديم خبرها عليها ففاسد لأن تقديم خبرها على اسمها لا يخرجه على كونه متأخرا عنها وتقديم خبرها عليها يوجب كونه متقدما عليها و ليس من الضرورة أن يعمل الفعل فيما يعده ويجب أن يعمل فيما قبله ثم نقول إنما جاز تقديم خبرها على اسمها لأنها اضعف من كان لأنها تتصرف ويجوز تقديم خبرها عليها و أقوى من ما لأنها حرف ولا يجوز تقديم خبرها على اسمها فجعل لها منزلة بين منزلتين فلم يجز تقديم خبرها عليها نفسها لتنحط عن درجة كان ويجوز تقديم خبرها على اسمها لترتفع عن درجة ما.
فإن قيل لم جاز ما كان زيد إلا قائما ولم يجز ما زال زيد إلا قائما قيل لأن إلا إذا دخلت في الكلام أبطلت معنى النفي فإذا قلت ما كان زيد إلا قائما كان التقدير فيه كان زيد قائماا و إذا قلت ما زال زيد إلا قائما صار التقدير زال زيد قائما و زال لا تستعمل إلا بحرف النفي فلما كان إدخال حرف الاستثناء يوجب إبطال معنى النفي و كان يجوز استعمالها من غير حرف النفي و زال لا يجوز استعمالها إلا بحرف النفي جاز ما كان زيد إلا قائما و لم يجز ما زال زيد إلا قائما فأما قول الشاعر - من الطويل -
حراجيج ما تنفك إلا مناخة ... على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا ) فالخبر قوله على الخسف وتقديره ما تنفك على الخسف إلا أن تناخ أو نرمي بها بلدا قفرا
و قد روى مناخة بالرفع ولا مزية في هذه الرواية فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
أسرار العربية
أبو البركات الأنباري