بينما الرباط تجذبني إليها كرها
×××××
بينما الرباط تجذبني إليها كرها.. لأجل بعض الأشغال الإدارية الخاصة، وبينما استقر بي الرأي بعد أيام في العاصمة، أن استقل الحافلة صباحا في اتجاه تطوان، اتجهت صوب محطة الحافلات بالقامرة قاصدا السفر عبر حافلة نقل الوسام الذهبي.. وبينما وصلت باب المحطة واجهني الكورتيات أو "الخطافة" بسيل من الأسئلة من كل جانب: فاس.. مكناس.. كازا.. اكادير ..وجدة، ... وغيرها.. وكعادتي أشدّ أذني و أتجاهل كل تلك الأسئلة، قاصدا الحافلة التي قررت مسبقا السفر فيها.. ولما وصلت للحافلة وصعدت على متنها، واستويت في مقعدي أثار انتباهي منظر امرأة محترمة صعدت توا إلى الحافلة وبدأت في توجيه خطابها والحديث بكل طلاقة، "عاونوني أخوتي مابغيت نشكي عليكم، أنا أختكم في الإسلام، وربي كتّب علي نمد يدي ليكم، راجلي مريض وناعس ف السبيطار فوجدة وأنا عاندي لولاد، وما عنديش باش نمشي نشوفوا، ويلا جات على خاطركم عاونوني على الورقة ديال الكار، راه واحد المومن عطاني شي براكة ومازال خاصاني 70 درهم" . فتأثر الجميع من قصة السيدة وهي تظهر عليها علامات الحشمة والوقار " ماشي سعاية" وبدوري تأثرت من قصتها وبادر الجميع إلى مساعدتها، ونزلت من الحافلة وفي يديها ما لا يقل عن ثمن التذكرة.
ولم يكد يمضي أسبوعا على هذه القصة، وشاءت الظروف أن تجر بي ثانية إلى الرباط، وبعد ليلتين، سأعود على متن نفس الحافلة، وما أن جلست في مقعدي حتى بدأ نفس السيناريوا يتكرر ، صعدت نفس المرأة وتظهر عليها كل صفات الاحترام والحشمة وبدأت في سرد قصتها المثيرة، وحينذاك فهمت أن المرأة حفظت الكلمات والقصة جيدا ؟؟؟ وبطريقة مؤثرة جدا " أنا قصدتكم والمقصود هو الله" وفي ظرف لا يتجاوز دقائق معدودة.. نزلت السيدة المحترمة وهي تحمل بين أناملها خمس وستون 65 درهما، في الحقيقة هي تملك أسلوبا خطيرا في التوسل والتسول، والتأثير والإقناع... ولو أنني لم أصادفها قبلا لانطوت علي خدعتها,, لقد خيّل إلي أن تلك السيدة هي خريجة "المعهد الوطني للتسول"، وهي تركز بشكل كبير على الخطاب الديني التضامني، مستغلة روح التضامن المنغرسة في قلوب المغاربة والتي هي من صميم تشبعهم بقيم الإسلام، فلا ولن يتردد أحد في مساعدتها، لقد استطاعت أن تجذب من حافلة واحدة 65 درهما، فإذا احتسبنا بقية الحافلات التي تتودد فيها وتنشر فيها دعوتها وخطابها المؤثر فكم يا ترى سيكون مجموع مداخيلها اليومي عند المساء، ومن ثم ماهو المعدل الشهري؟؟ مع العلم أنها لا تقصد إلا الحافلات التي تظهر عليها علامات "الجديدة" و النقاء والصفاء والجودة، فهذه السيدة لا تشغل بالها بالحافلات البالية والقديمة.
هذا نموذج، أو لنقل حالة من الحالات التي نشاهدها يوميا أينما حللنا وارتحلنا،إنها نموذج لما يصطلح عليه "بالمتسولين" داخل مجتمعنا المغربي، فبعدما كانت الظاهرة وليدة الحاجة، أصبحت اليوم تعتبر مهنة مربحة، تدر على صاحبها ما لا تدره الدولة على موظفيها، مع فارق بسيط بالطبع، وهو أن الموظف يحصل على أجرته مقابل عمله وأتعابه، بينما المتسول يبيع الكلمات الحلوة والجميلة، يبيع العواطف والقيم، يبيع الوهم والقصص الخيالية من خلال تجربته اليومية يفهم المتسول ماهي اقرب الطرق والوسائل للوصول إلى القلوب والتأثير فيها وكسب ودها وعطفها.
إن هذه الظاهرة أضحت تمثل شريحة كبيرة وهامة من النسيج الاجتماعي المغربي، فلو قمنا باحتساب أعدادهم لوجدناهم أكبر من أي حزب سياسي بالمغرب، ويمتلكون أقوى الوسائل والأساليب للتأثير على المشاعر والعقول والقلوب، ولا يكتفون بالقليل أو ما يسد رمق العيش..والكفاف ..وإنما يسعون دوما إلى المزيد، والى مراكمة الثروات حتى بتنا نسمع قصصا هنا وهناك عن متسولين تم ضبطهم وبحوزتهم الملايين...؟؟
فليس عيبا أن يعمد الإنسان المحتاج إلى طلب المساعدة وقت الحاجة.. وإنما الخطير هو أن يصبح الأمر مهنة لها مكانتها داخل النسيج الاجتماعي، والخطير أيضا أن هذه الظاهرة ستؤثر سلبا على قيم التكافل والتعاطف والتضامن داخل المجتمع، ما دام هذا الاجتماعي يشعر بأن قيمه ومشاعره يتم استغلالها للتحايل عليه قصد الحصول منه على شيء ما...
ويبقى الأمر الايجابي داخل المجتمع المغربي هو انه يقدم المساعدة بالرغم من انه يعرف مسبقا بان القصة مختلقة وهي محض افتراء وتحايل، ويقول المغاربة " أنا أعطيتها في سبيل الله، وهو لا يكذب إلا على نفسه.."
وبالرغم من ذلك فاني أرى انه لابد من العمل على تقنين هذه الممارسات والحد منها حتى لا تنعكس بشكل سلبي على نسيجنا الاجتماعي، للحفاظ أولا على قيم التكافل والتضامن من الاضمحلال نتيجة انعدام الثقة ، ولحماية المجتمع من سيادة مثل هذه الظاهرة وانتشارها.