الفنان عويسة ذاكرة مول البركي
×××××
في السوق الأسبوعي "أربعاء مول البركي" كان لقائي الأول مع الفنان "عيسى"، ذهبت خصيصا لملاقاته ذلك اليوم، وحين وصلت إلى السوق توجهت مباشرة إلى ابن أخيه الذي ينصب خيمة بالسوق يبيع فيها أنواعا من الحلويات، سألته عن عمه فنظر خلفه وقال لي بأنه "سيعود بعد قليل فدراجته الهوائية مازالت هنا بالخيمة، لم يغادر السوق بعد".جلست أنتظره وأنا كلي شوق لرؤيته والتعرف عليه، وفي الوقت الذي كنت فيه مستغرقا في التفكير، أرسم الخطوط العريضة للحوار الذي سأجريه معه، إذا بصاحب الحلويات ينظر إلي فجأة مشيرا بيده نحو رجل وصل للتو إلى الخيمة حيث أجلس:ها هو عيسى.كان يحمل في يده بعض البضائع، وضعها بسرعة وبادرني بالسلام، رجل قصير القامة، حليق الوجه، عيناه غائرتين، وجهه مستدير تكسوه تجاعيد بارزة خصوصا عند الخدين، وفمه صغير بدون أسنان أمامية. يرتدي سروالا أسود وجاكيط خضراء. كان مظهره الخارجي يوحي بالبساطة الشديدة، ويضعف الحال، وهو الأمر الذي جعلني أنظر باستغراب إلى الرجل حين وصوله وأتساءل مع نفسي "هل هذا هو عيسى"؟ !بعد التحية، استأذننا عيسى وقام لأخذ بعض الصناديق عن ابنه ووضعها بداخل الخيمة. قلت لأخي الذي كان يجلس بجانبي متسائلا:صناديق؟أخبرني بأنه يقوم بزرع الخضر وبيعها بالسوق.عاد الرجل ليجلس بمحاذاتي، أخبرته بأني أود الحديث معه قليلا فوافق بأدب وبدا مستعدا للحوار. وبعد أن قدمت له نفسي، سألته عن اسمه الكامل فأجاب:+ البحراوي عيسى***وتاريخ ازديادك؟***+ لا أذكره***لابد أن تكون قد جاوزت السبعين؟***+ ربما، هذا ممكن، فقد جرت العادة على تقدير الأعمار دون تدقيقها.عن بداياته الأولى، أخبرني أنه تعلم العزف على آلة الوطار لوحده دون الاعتماد على أي أحد، مستعينا في مرحلة الطفولة بآلة بسيطة من صنعه الخاص عبارة عن علبة حديدية مستطيلة (طارو) بواسطتها تعلم الأبجديات الأولى للعزف على الآلة وراء قطعان الغنم، متأثرا ببعض الفنانين من أمثال "أحمد القمش"، "علي أو الحطاب" و"قشبال وزروال". قال:+ لقد كنت أجن حين أستمع لعزف هؤلاء.****لكنك تميزت كثيرا عنهم؟***+ نعم، لقد كنت متقنا، مبدعا، مجددا في العزف، أعتقد أن ذلك كان هبة من الله.
في هذه اللحظة، تذكرت عبارة همس لي بها أحد العازفين على آلة الوطار المعاصرين حين قال لي محاولا أن يجمل مسيرة عيسى في كلمتين: "اعويسة: الإبداع في العزف على الوطار". ومن حيث العيوط، أجاب الفنان عيسى بأنه كان يحفظها عن بعض الشيوخ كالدعباجي والشيخة عيدة.
أخبرته أن هناك مغربي مقيم بفرنسا متأثر منذ طفولته بطريقته في العزف، وأنه يريد ملاقاته حال دخوله للمغرب، ومساعدته ماديا على قدر المستطاع، فاستحسن اعويسة الفكرة وانشرح لها كثيرا، وقال لي بإصرار: "مرحبا بكم في أي وقت في منزلي".
وحين تطرقنا لنهاية مشواره الفني، أخبرني ببالغ الحسرة أنه تعرض لتسميم، ربما من طرف أحد منافسيه في الميدان، فمرض مرضا شديدا جعله ينفر من آلة الوطار بل ويكره رؤيتها حتى.
أخبرني بفخر كبير أنه هو من علم الفنان المحفوظي محمد أصول العزف على الوطار إلى أن صار اليوم أمهر عازف على الآلة بالمغرب على الإطلاق.
لقد كان اللقاء مقتضبا، سريعا، فالرجل معتاد على مغادرة السوق في وقت مبكر، فلم أشأ أن آخذ من وقته الكثير، فودعته وتواعدنا على اللقاء مرة أخرى.
وحين هممت بمغادرة المكان، رمقته وأنا أمشي بنظرة سريعة، وجدته يحكي لابنه وقائع ما جرى بيننا من حوار. ولما أدبرت عائدا إلى منزلي، كانت جملة واحدة تجول بذاكرتي، تلك الجملة التي قالها اعويسة لمن كرموه في إحدى دورات مهرجان العيطة بمدينة آسفي وأعطوه 5000 درهم:"لقد كنت ميتا فأحييتموني" !
اننا أمام فنان كبير، يموت ببطء يوما بعد يوم، وهو الذي يعد كأمهر عازف على آلة الوطار بالمنطقة على الإطلاق نظرا للتجديدات والابتكارات التي أضافها في طريقة العزف على الآلة في زمن البساطة وشح الإمكانيات.
فمن يعيد الحياة إلى هذا النجم السائر إلى الأفول؟
احمد اشتيوي 08/07/2009