من مواعظ الإمام ابن الجوزي
رائعة من مواعظ الإمام ابن الجوزي
( من أراد دوام العافية والسلامة .. فليتق الله -عز وجل- ، فإنه ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافي التقوى وإن قل .. إلا وجد عقوبته عاجلة أو آجلة . ومن الاغترار أن تسيء فترى إحسانًا ، فتظن أنك قد سومحت ، وتنسى : {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وربما قالت النفس : إنه يغفر ، فتسامحت ! ولا شك أنه يغفر ، ولكن لمن يشاء .
وأنا أشرح لك حالًا فتأمله بفكرك تعرف معنى المغفرة .. وذلك أن من هفا هفوة لم يقصدها ولم يعزم عليها قبل الفعل ، ولا عزم على العود بعد الفعل ، ثم انتبه لما فعل ، فاستغفر الله .. كان فعله -وإن دخله عمدًا- في مقام خطأ ... فإذا انتبه لنفسه .. ندم على فعله ، فقام الندم بغسل تلك الأوساخ ، التي كانت كأنها غلطة لم تقصد ، فهذا معنى قوله تعالى : {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} .
فأما المداوم على تلك النظرة ، المردد لها ، المصر عليها .. فكأنه في مقام متعمد للنهي ، مبارز بالخلاف ، فالعفو يبعد عنه بمقدار إصراره ، ومن البعد ألا يرى الجزاء على ذلك...
واعلم أنه من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب ، فإن العقوبة تتأخر . ومن أعظم العقوبة ألا يحس الإنسان بها ، وأن تكون في سلب الدين ، وطمس القلوب ، وسوء الاختيار للنفس ...
فها أنا أنادي من على الساحل : إخواني !! احذروا لجة هذا البحر ، ولا تغتروا بسكونه ، وعليكم بالساحل ، ولازموا حصن التقوى ، فالعقوبة مرة .
واعلموا أن في ملازمة التقوى مرارات من فقد الأغراض والمشتهيات ...
وبالله، لو نمتم على المزابل مع الكلاب في طلب رضا المبتلي ، كان قليلًا في نيل رضاه ،ولو بلغتم نهاية الأماني من أغراض الدنيا ، مع إعراضه عنكم .. كانت سلامتكم هلاكًا ، وعافيتكم مرضًا ، وصحتكم سقمًا ، والأمر بآخره ، والعاقل من تلمح العواقب.
وصابروا رحمكم الله تعالى هجير البلاء ، فما أسرع زواله !!
والله الموفق ، إذ لا حول إلا به ، ولا قوة إلا بفضله )