دردشة مع أكبر معمر في العالم
المصدر: سيدي بنور بريس
كان لزاما علينا أن نقبل التنقل في سيارة أجرة رفقة عشرة ركاب عوض ستة، وبمبلغ عشرة دراهم عوض ستة ، من مركز أولاد فرج، نحو مسجد دار القايد على طرف دوار السماعلة حيث تتفشى بالمنطقة حركة النقل السري في غفلة من السلطات الوصية.
كان الطريق وعرا يمكن نعته تجاوزا بالمعبّد أمام سيارة متهالكة تلفظ سحب دخانها كلما حرّك السائق النحيل ذو الشارب الكثيف ركبته بعد أن يضع يده على علبة السرعة، لم تكف السيارة عن المراوغة بين الحفر المترامية و النّدوب الكثيرة كلما طوت شبرا من المسيرة التي امتدت زهاء الأربعين دقيقة، وسط حقول قاحلة لا يوحي إلى الناظر أنها ضمن المجال السقوي سوى تلك القنوات المتراصة جنب الطريق و التي تتنفس حرّا على رؤوس بعض الأغنام المحتمية بها من ألهبة الشمس التي ما فتئت تلفحها، لنكمل الباقي مشيا على الأقدام لمسافة كيلومتر و نيف، بين صفوف الطلح و الصبار التي تمنع عنا رؤية بعض أشجار التين و الرمان المختبئة خلفها في مكان هاديء لا يكسر صمته سوى نباح غير متراتب لكلاب علمنا فيما بعد أنها تسخر لحراسة هذه الحقول من أي تطاول غاشم.
لنصل أخيرا إلى مقام سي قدور مقصوري أكبر معمر في العالم و الذي عايش فترة حكم سبعة سلاطين علويين بداية بحقبة المولى الحسن الأول إلى الآن و لا زال يحفظ كل تاريخ المغرب قبل و بعد الإستعمار بذاكرة قوية لم يعلوها الخرف أبدا و كان دليلنا بالطريق المؤدية إليه أحد ساكنة المنطقة المعروف بلقب "ولد مواتو" كناية على انقسام تربيته بين أمه الأصلية وجدته بعد أن توفي والده مع أول صرخاته بالدنيا و هو الذي دلّل أمامنا كل الصعاب التي كانت تعترضنا ليس بالطريق فحسب بل حتى إنجاز العمل.
اقتحمنا عليه خلوته شيخ متوسط القامة يرتدي جلبابا ناصع البياض تعلو وجهه الذي غزته التجاعيد عمامة مشرقية مرتبة بعناية كبيرة فوق لحية طويلة تطفو على شارب لم يعف عنه و في أقصى زاوية انتصب عكاز (بوردو)يستند إليه كلما اقتضت الحاجة،بعد التحية قدمني مرافقي للشيخ فبادرني بابتسامة باردة تترجم أن الزمن بدأ ينال منه رويدا رويدا أردفها أن الصحافة الإسبانية و الفرنسية سبقتانا إلى زيارته لكن ذلك لم يمنعه من حركة لطيفة عربون ترحيب. بيد أن الملاحظ هو حديثه بأسلوب مضبوط و رزين وبطريقة مسترسلة كأنه يحفظ الأحداث عن ظهر قلب لا تقاطعه إلا لحظة ابتلاع ريق أو استنشاق نفس،و قد عدّل جلسته كأنه يرفض الخنوع لقانون خريف العمر و الدليل أنه لا يتوانى في حضور كل اجتماعات أهل الدوار مثلما لا يتوانى في أداء واجباته الدينية بشكل موقوت.
تاريخ النشأة و الأحداث التاريخية التي عايشها
في غياب أي وثيقة إدارية رسمية قد تعفينا مشقة تأريخ ميلاد سي قدور مقصوري وجدنا أنفسنا مرغمين على تقليب أكوام الأحداث التاريخية التي تراكمت بذاكرة الرجل علّنا نلفي أي خيط يدلنا إلى ما نريد فكان أهم حدث حفظته هو وفاة السلطان الحسن الأول سنة 1894 حيث قال أنه يتذكر ذلك جيدا إذ كان يبلغ الثاني عشرة من عمره مما يعني حسابيا أنه جاوز المائة و الثلاثين كما يتذكر الزيارة التي قام بها للقواسم معقل الطير الحرّ و إصدار أمره بإعفاء أهلها من أداء الضرائب و الرسوم بعدها حين قال قولته الشهيرة(لا كلفة على القواسم بعد اليوم)،وكذلك سرد لنا بانسياب كل الحقب التالية حيث توالى على الحكم بعد ذلك المولى عبدالعزيز و المولى عبدالحفيظ و المولى يوسف بن الحسن و سيدي محمد بن يوسف ثم الحسن الثاني و أخيرا محمد السادس مع كل ما تخلل هذه المدة من تغيرات تاريخية كفرض الحماية على المغرب(دخول الفرنسيس) و نفي الملك محمد الخامس(ملّي هزّو الملك) ثم فترات المجاعة (الجوع الأول أو بوهيّوف) و ما رافقها من نكبات و أوبئة و كيف كانت معيشة الناس و تنقلهم مشيا على الأقدام حفاة في الغالب نحو اتجاهات مختلفة كالجبل الأخضر بأقصى الجنوب الشرقي لدكالة ثم سطات و قلعة السراغنة في ظل غياب وسائل النقل و افتراشهم للتبن والطحان_حصير يصنع من الدّوم و السّمار_ .
يحكي سي قدور وقد حاولنا طيلة فترات الحديث ان نبحث عن السر في حيويته المتجددة رغم تقدمه في السن الى جانب القدرة الالهية طبعا سوى ان الرجل يأكل زيت الزيتون وخبز الشعير والعسل الحروالسمن المملّح و التمر و الحليب علاوة على كل ما هو طبيعي من تين و زيتون و عنب وبطيخ و إن كانت زوجته للا موينة ثالث امرأة تزوجها بعد وفاة الزوجتين الأولى و الثانية و لم ينجب منهم ذرية أجمعين فاضطر إلى تبني ابن أخت الأخيرة التي أكدت أنه يفضل أكل اللحوم كثيرا رغم الصعوبة التي بات يعانيها مؤخرا في غياب الاسنان باستثناء واحدة تعلو الجهة اليمنى من فكّه العلوي إضافة الى انه لا يزور الطبيب بالمرة إذ أنّ المرة الأولى و الوحيدة كانت قبل حوالي ستين سنة لدى طبيب يدعى (فاص) و هو بالمناسبة فرنسي الجنسية كان مشهورا بالمنطقة إلى جانب آخر زميل له يدعى (فيردي)،هذا الأخير استعطفته السلطات المغربية للبقاء بعمله بعد حصول المغرب على الإستقلال نظرا لسمعته الطيبة التي اكتسبها،و قد نصح سي قدور خلال الزيارة التي قام بها لمركز أولاد فرج في مهمة طبية لفحص أهل المنطقة بضرورة الذهاب إلى مستشفى بلعياشي لأن حالته الصحية تستوجب ذلك لكنه رفض المسألة جملة و تفصيلا و عاد أدراجه صوب الدوار حسب قوله غير آبه بتحذيراته (رجعت للدوار من هذاك الوقت مالي آش وقع ليّا،العمر في يد الله).كما يتذكر دخول الإستعمار و فرض الحماية و الحالة التي كانت سائدة آنذاك إذ انتشرت الأوبئة و المجاعات بشكل فظيع حيث قال أن (فرنسا دخلت من جهة دار قدور بن لحسن و كان عمري حينها أكثر من ثلاثين سنة لكن المنطقة لم تشهد مواجهات دامية كما هو الحال في مناطق أخرى)قبل أن يسترسل في الحديث عن "عام الجوع الاول" حيث يؤكد (كنا نذهب لأخذ الذرة من أولاد سي بن حمدون بعد أن فتكت المجاعة بالناس لأنهم يقضوا أغلب الوقت في البحث عن "يرني"_نبتة تستخرج من باطن الأرض_) قبل أن يستطرد (الذرة بدورها كانت توزّع على السكان مجانا رغم ضآلة الكمية الممنوحة إضافة إلى كيلوغرامات معدودة من مادة السكر و قد تجاوزت حينها الأربعين سنة ثم إني أتذكر أن المخزن كان يقوم بحملات بحث عن الأشخاص الذين يخزنون فائض الحبوب فيما يسمى "المطمورة" فيعمد إلى تجريده منها بالقوة لتفريقها على الناس المحتاجين و نفس الشيء بالنسبة للحليّ و هو ما شجع الناس إلى طمرها فيما أصبح ينعت لاحقا ب "الخزاين")و قد سرد لنا رواية عن شخص من أبناء المنطقة يدعى "سي علي بن زهيرو" كان يعمل جنديا كان بسد الدورات و كان المستعمر اقترحه لمنصب قائد هناك نظرا لكفاءته لكن السلطات المقربة آنذاك اعترضت عليه بدعوى تشبته بوطنيته و معاداته جهارا الفرنسيين.ثم استرسل في الحديث عن مسألة نفي محمد الخامس و الحالة المزرية التي عاشها المغاربة بعد ذلك إلى غاية عودته و ما رافق ذلك من احتفالات على إيقاع الشعبي و التبوريدة.
تربية الصقور و ركوب الخيل
يروي سي قدور مقصوري و قد عدّل جلسته و ارتشف من كوب الماء الطيني المنقوش بالقطران أمامه عن احترافه للبيازة(الصيد بالصقور) و كيف كان يسافر إلى منطقة حاحا لصيدها ويفضل أن تكون أنثى لأن حجم الذكور يكون نحيلا قبل إخضاعها لبرنامج تدريب صارم و مضبوط لينتقل إلى التطرق لزياراته المتكررة رفقة مجموعة من أقرانه صوب الرباط تلبية لدعوات ملكية (كنا دائمي التنقل للرباط في عهد سيدي محمد الخامس و السنوات السابقة حيث كنا ننزل ضيوفا على الأمير مولاي الحسن آنذاك و الأمير مولاي عبد الله مصحوبين بطيورنا المدرّبة و نخرج سويا في رحلات صيد بالصقور أمام مرآهما لأن هذه الرياضة كانت تستهويهما كثيرا و عليه كانا يغدقان علينا العطاء بحيث يمنحونا قيمة مالية كبيرة تقدّر بخمسمائة درهم و خمسين كيلو من السكر إضافة إلى طن من "النخالة" نستخلصه من الجديدة ) و نفى الشيخ مقصوري عصرنة مهنة تربية و تدريب الصقور بين الأمس و اليوم بحيث ظلت نفس الطرق و الوسائل المستعملة في ذلك منذ أن لقنه عمه سي الهاشمي أولى أبجدياتها،للإشارة فعمه هذا عايش فترة القايد سي عيسى بمنطقة عبدة الذي اشتهر بقصته مع خربوشة كما أنه شارك في عدة ملتقيات للصيد بالمغرب و كذلك بتركيا،لكن المؤكد ان سي قدور لم يعد يملك من كل تاريخه مع الصقور سوى قفاز يؤثث جدران البيت الذي يقطنه و حفيد من ابنه بالتبني يشتغل على غرار مجموعة من شباب الدوار لدى أحد الأمراء الخليجيين بإيفران في مهنة تربية و تدريب هذا الصنف من الطيور.كما ان له تاريخا مع التبوريدة و ركوب الخيل حيث لم يقم ببيع فرسه إلا العام الماضي بعدما لم تعد له القدرة على ذلك و يحكي أنه تعلم ركوب الخيل منذ الصغر ضمن سربة القواسم وراء العلاّم سي الحسين أحد أشهر نظرائه بدكالة و قد فاز رفقته بعدة جوائز تقديرية قبل أن يتسلم المشعل ابنه بعد وفاته لكنه لم ينس المرة الأولى التي شارك فيها رسميا في التبوريدة وقال( كان العلام حينها القايد بوبكر الذي كان كان يتزعم سنويا مجموع الفرسان المشاركين بموسم مولاي عبدالله أمغار و التي تفوق 700 مشارك، و لازالت بحوزتي و ثيقة تؤكد انتمائي لسربة القايد بوبكر)مضيفا أنه مواظب على حضور الموسم منذ ما يقرب من 110 سنوات عندما كان يقتاد الفرس مشيا على الأقدام للحفاظ على لياقته في ظل عدم توفر أداة لتنقيله و سيظل كذلك مادام حيا لارتباطه وجدانيا بأشهر مواسم دكالة و المغرب عموما.
ختم الشيخ مقصوري حديثه بالتماس الجهات المعنية لتمكينه من مأذونية يعيش من عائداتها مادام حيا و استنكر تجاهل المسؤولين لكل تاريخه حيث قوبل طلبه إلى العامل السابق على الإقليم باللامبالاة و التسويف رغم الوثائق التي أدلى بها كعميد للبيازة و الخيالة و انتسابه للشرفاء القواسم.
كان لزاما علينا أن نقبل التنقل في سيارة أجرة رفقة عشرة ركاب عوض ستة، وبمبلغ عشرة دراهم عوض ستة ، من مركز أولاد فرج، نحو مسجد دار القايد على طرف دوار السماعلة حيث تتفشى بالمنطقة حركة النقل السري في غفلة من السلطات الوصية.
كان الطريق وعرا يمكن نعته تجاوزا بالمعبّد أمام سيارة متهالكة تلفظ سحب دخانها كلما حرّك السائق النحيل ذو الشارب الكثيف ركبته بعد أن يضع يده على علبة السرعة، لم تكف السيارة عن المراوغة بين الحفر المترامية و النّدوب الكثيرة كلما طوت شبرا من المسيرة التي امتدت زهاء الأربعين دقيقة، وسط حقول قاحلة لا يوحي إلى الناظر أنها ضمن المجال السقوي سوى تلك القنوات المتراصة جنب الطريق و التي تتنفس حرّا على رؤوس بعض الأغنام المحتمية بها من ألهبة الشمس التي ما فتئت تلفحها، لنكمل الباقي مشيا على الأقدام لمسافة كيلومتر و نيف، بين صفوف الطلح و الصبار التي تمنع عنا رؤية بعض أشجار التين و الرمان المختبئة خلفها في مكان هاديء لا يكسر صمته سوى نباح غير متراتب لكلاب علمنا فيما بعد أنها تسخر لحراسة هذه الحقول من أي تطاول غاشم.
لنصل أخيرا إلى مقام سي قدور مقصوري أكبر معمر في العالم و الذي عايش فترة حكم سبعة سلاطين علويين بداية بحقبة المولى الحسن الأول إلى الآن و لا زال يحفظ كل تاريخ المغرب قبل و بعد الإستعمار بذاكرة قوية لم يعلوها الخرف أبدا و كان دليلنا بالطريق المؤدية إليه أحد ساكنة المنطقة المعروف بلقب "ولد مواتو" كناية على انقسام تربيته بين أمه الأصلية وجدته بعد أن توفي والده مع أول صرخاته بالدنيا و هو الذي دلّل أمامنا كل الصعاب التي كانت تعترضنا ليس بالطريق فحسب بل حتى إنجاز العمل.
اقتحمنا عليه خلوته شيخ متوسط القامة يرتدي جلبابا ناصع البياض تعلو وجهه الذي غزته التجاعيد عمامة مشرقية مرتبة بعناية كبيرة فوق لحية طويلة تطفو على شارب لم يعف عنه و في أقصى زاوية انتصب عكاز (بوردو)يستند إليه كلما اقتضت الحاجة،بعد التحية قدمني مرافقي للشيخ فبادرني بابتسامة باردة تترجم أن الزمن بدأ ينال منه رويدا رويدا أردفها أن الصحافة الإسبانية و الفرنسية سبقتانا إلى زيارته لكن ذلك لم يمنعه من حركة لطيفة عربون ترحيب. بيد أن الملاحظ هو حديثه بأسلوب مضبوط و رزين وبطريقة مسترسلة كأنه يحفظ الأحداث عن ظهر قلب لا تقاطعه إلا لحظة ابتلاع ريق أو استنشاق نفس،و قد عدّل جلسته كأنه يرفض الخنوع لقانون خريف العمر و الدليل أنه لا يتوانى في حضور كل اجتماعات أهل الدوار مثلما لا يتوانى في أداء واجباته الدينية بشكل موقوت.
تاريخ النشأة و الأحداث التاريخية التي عايشها
في غياب أي وثيقة إدارية رسمية قد تعفينا مشقة تأريخ ميلاد سي قدور مقصوري وجدنا أنفسنا مرغمين على تقليب أكوام الأحداث التاريخية التي تراكمت بذاكرة الرجل علّنا نلفي أي خيط يدلنا إلى ما نريد فكان أهم حدث حفظته هو وفاة السلطان الحسن الأول سنة 1894 حيث قال أنه يتذكر ذلك جيدا إذ كان يبلغ الثاني عشرة من عمره مما يعني حسابيا أنه جاوز المائة و الثلاثين كما يتذكر الزيارة التي قام بها للقواسم معقل الطير الحرّ و إصدار أمره بإعفاء أهلها من أداء الضرائب و الرسوم بعدها حين قال قولته الشهيرة(لا كلفة على القواسم بعد اليوم)،وكذلك سرد لنا بانسياب كل الحقب التالية حيث توالى على الحكم بعد ذلك المولى عبدالعزيز و المولى عبدالحفيظ و المولى يوسف بن الحسن و سيدي محمد بن يوسف ثم الحسن الثاني و أخيرا محمد السادس مع كل ما تخلل هذه المدة من تغيرات تاريخية كفرض الحماية على المغرب(دخول الفرنسيس) و نفي الملك محمد الخامس(ملّي هزّو الملك) ثم فترات المجاعة (الجوع الأول أو بوهيّوف) و ما رافقها من نكبات و أوبئة و كيف كانت معيشة الناس و تنقلهم مشيا على الأقدام حفاة في الغالب نحو اتجاهات مختلفة كالجبل الأخضر بأقصى الجنوب الشرقي لدكالة ثم سطات و قلعة السراغنة في ظل غياب وسائل النقل و افتراشهم للتبن والطحان_حصير يصنع من الدّوم و السّمار_ .
يحكي سي قدور وقد حاولنا طيلة فترات الحديث ان نبحث عن السر في حيويته المتجددة رغم تقدمه في السن الى جانب القدرة الالهية طبعا سوى ان الرجل يأكل زيت الزيتون وخبز الشعير والعسل الحروالسمن المملّح و التمر و الحليب علاوة على كل ما هو طبيعي من تين و زيتون و عنب وبطيخ و إن كانت زوجته للا موينة ثالث امرأة تزوجها بعد وفاة الزوجتين الأولى و الثانية و لم ينجب منهم ذرية أجمعين فاضطر إلى تبني ابن أخت الأخيرة التي أكدت أنه يفضل أكل اللحوم كثيرا رغم الصعوبة التي بات يعانيها مؤخرا في غياب الاسنان باستثناء واحدة تعلو الجهة اليمنى من فكّه العلوي إضافة الى انه لا يزور الطبيب بالمرة إذ أنّ المرة الأولى و الوحيدة كانت قبل حوالي ستين سنة لدى طبيب يدعى (فاص) و هو بالمناسبة فرنسي الجنسية كان مشهورا بالمنطقة إلى جانب آخر زميل له يدعى (فيردي)،هذا الأخير استعطفته السلطات المغربية للبقاء بعمله بعد حصول المغرب على الإستقلال نظرا لسمعته الطيبة التي اكتسبها،و قد نصح سي قدور خلال الزيارة التي قام بها لمركز أولاد فرج في مهمة طبية لفحص أهل المنطقة بضرورة الذهاب إلى مستشفى بلعياشي لأن حالته الصحية تستوجب ذلك لكنه رفض المسألة جملة و تفصيلا و عاد أدراجه صوب الدوار حسب قوله غير آبه بتحذيراته (رجعت للدوار من هذاك الوقت مالي آش وقع ليّا،العمر في يد الله).كما يتذكر دخول الإستعمار و فرض الحماية و الحالة التي كانت سائدة آنذاك إذ انتشرت الأوبئة و المجاعات بشكل فظيع حيث قال أن (فرنسا دخلت من جهة دار قدور بن لحسن و كان عمري حينها أكثر من ثلاثين سنة لكن المنطقة لم تشهد مواجهات دامية كما هو الحال في مناطق أخرى)قبل أن يسترسل في الحديث عن "عام الجوع الاول" حيث يؤكد (كنا نذهب لأخذ الذرة من أولاد سي بن حمدون بعد أن فتكت المجاعة بالناس لأنهم يقضوا أغلب الوقت في البحث عن "يرني"_نبتة تستخرج من باطن الأرض_) قبل أن يستطرد (الذرة بدورها كانت توزّع على السكان مجانا رغم ضآلة الكمية الممنوحة إضافة إلى كيلوغرامات معدودة من مادة السكر و قد تجاوزت حينها الأربعين سنة ثم إني أتذكر أن المخزن كان يقوم بحملات بحث عن الأشخاص الذين يخزنون فائض الحبوب فيما يسمى "المطمورة" فيعمد إلى تجريده منها بالقوة لتفريقها على الناس المحتاجين و نفس الشيء بالنسبة للحليّ و هو ما شجع الناس إلى طمرها فيما أصبح ينعت لاحقا ب "الخزاين")و قد سرد لنا رواية عن شخص من أبناء المنطقة يدعى "سي علي بن زهيرو" كان يعمل جنديا كان بسد الدورات و كان المستعمر اقترحه لمنصب قائد هناك نظرا لكفاءته لكن السلطات المقربة آنذاك اعترضت عليه بدعوى تشبته بوطنيته و معاداته جهارا الفرنسيين.ثم استرسل في الحديث عن مسألة نفي محمد الخامس و الحالة المزرية التي عاشها المغاربة بعد ذلك إلى غاية عودته و ما رافق ذلك من احتفالات على إيقاع الشعبي و التبوريدة.
تربية الصقور و ركوب الخيل
يروي سي قدور مقصوري و قد عدّل جلسته و ارتشف من كوب الماء الطيني المنقوش بالقطران أمامه عن احترافه للبيازة(الصيد بالصقور) و كيف كان يسافر إلى منطقة حاحا لصيدها ويفضل أن تكون أنثى لأن حجم الذكور يكون نحيلا قبل إخضاعها لبرنامج تدريب صارم و مضبوط لينتقل إلى التطرق لزياراته المتكررة رفقة مجموعة من أقرانه صوب الرباط تلبية لدعوات ملكية (كنا دائمي التنقل للرباط في عهد سيدي محمد الخامس و السنوات السابقة حيث كنا ننزل ضيوفا على الأمير مولاي الحسن آنذاك و الأمير مولاي عبد الله مصحوبين بطيورنا المدرّبة و نخرج سويا في رحلات صيد بالصقور أمام مرآهما لأن هذه الرياضة كانت تستهويهما كثيرا و عليه كانا يغدقان علينا العطاء بحيث يمنحونا قيمة مالية كبيرة تقدّر بخمسمائة درهم و خمسين كيلو من السكر إضافة إلى طن من "النخالة" نستخلصه من الجديدة ) و نفى الشيخ مقصوري عصرنة مهنة تربية و تدريب الصقور بين الأمس و اليوم بحيث ظلت نفس الطرق و الوسائل المستعملة في ذلك منذ أن لقنه عمه سي الهاشمي أولى أبجدياتها،للإشارة فعمه هذا عايش فترة القايد سي عيسى بمنطقة عبدة الذي اشتهر بقصته مع خربوشة كما أنه شارك في عدة ملتقيات للصيد بالمغرب و كذلك بتركيا،لكن المؤكد ان سي قدور لم يعد يملك من كل تاريخه مع الصقور سوى قفاز يؤثث جدران البيت الذي يقطنه و حفيد من ابنه بالتبني يشتغل على غرار مجموعة من شباب الدوار لدى أحد الأمراء الخليجيين بإيفران في مهنة تربية و تدريب هذا الصنف من الطيور.كما ان له تاريخا مع التبوريدة و ركوب الخيل حيث لم يقم ببيع فرسه إلا العام الماضي بعدما لم تعد له القدرة على ذلك و يحكي أنه تعلم ركوب الخيل منذ الصغر ضمن سربة القواسم وراء العلاّم سي الحسين أحد أشهر نظرائه بدكالة و قد فاز رفقته بعدة جوائز تقديرية قبل أن يتسلم المشعل ابنه بعد وفاته لكنه لم ينس المرة الأولى التي شارك فيها رسميا في التبوريدة وقال( كان العلام حينها القايد بوبكر الذي كان كان يتزعم سنويا مجموع الفرسان المشاركين بموسم مولاي عبدالله أمغار و التي تفوق 700 مشارك، و لازالت بحوزتي و ثيقة تؤكد انتمائي لسربة القايد بوبكر)مضيفا أنه مواظب على حضور الموسم منذ ما يقرب من 110 سنوات عندما كان يقتاد الفرس مشيا على الأقدام للحفاظ على لياقته في ظل عدم توفر أداة لتنقيله و سيظل كذلك مادام حيا لارتباطه وجدانيا بأشهر مواسم دكالة و المغرب عموما.
ختم الشيخ مقصوري حديثه بالتماس الجهات المعنية لتمكينه من مأذونية يعيش من عائداتها مادام حيا و استنكر تجاهل المسؤولين لكل تاريخه حيث قوبل طلبه إلى العامل السابق على الإقليم باللامبالاة و التسويف رغم الوثائق التي أدلى بها كعميد للبيازة و الخيالة و انتسابه للشرفاء القواسم.