مراسلة شعرية
مراسلة شعرية :
لما هاجر الشيخ محمد الخضر حسين من تونس في عام 1331هـ , بعث إليه صديقه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور – وقد كان كبير القضاة بتونس - رسالة مصدرة بالأبيات التالية:
بَعُدْتَ ونفسي في لقاك تصيدُ : فلم يُغِنِ عنها في الحنان قصيدُ
وخلَّفت ما بين الجوانح غصة : لها بين أحشاء الضلوع وقودُ
وأضحتْ أمانيْ القرب منك ضئيلةً : ومرُّ الليالي ضعفها سيزيدُ
أتذكر إذ ودَّعْتنا صبحَ ليلةٍ : يموج بها أنسٌ لنا وبرودُ
وهل كان ذا رمزاً لتوديع أنسنا : وهل بعد هذا البين سوف يعودُ
ألم ترَ هذا الدهر كيف تلاعبت : أصابعه بالدر وهو نضيدُ
إذا ذكروا للود شخصاً محافظاً : تجلى لنا مرآك وهو بعيدُ
إذا قيل: مَنْ للعلم والفكر والتقى : ذكرتُك إيقاناً بأَنْكَ فريدُ
فقل لليالي: جَدِّدي من نظامنا : فحسبكِ ما قد كان فهو شديدُ
ثم كتب تحت هذه الأبيات: هذه كلمات جاشت بها النفس الآن عند إرادة الكتابة إليكم، فأبثها على عِلاتها، وهي - وإن لم يكن لها رونق البلاغة والفصاحة - فإن الود والإخاء والوجدان النفسي يترقرق في أعماقها .
فلما وصلت الرسالة إلى الشيخ محمد الخضر حسين أجابه بالأبيات التالية:
أينعم لي بالٌ وأنت بعيدُ : وأسلو بطيف والمنام شريدُ
إذا أجَّجتْ ذكراك شوقيَ أُخْضِلَتْ : لعمري بدمع المقلتين خدودُ
بَعُدْتُ وآمادُ الحياة كثيرةٌ : وللأمد الأسمى عليَّ عهودُ
بعدت بجثماني وروحي رهينةٌ : لديك وللودِّ الصميم قيودُ
عرفتُك إذ زرتُ الوزير وقد حنا : عليَّ بإقبال وأنت شهيدُ
فكان غروبُ الشمس فجْرَ صداقةٍ : لها بين أحناء الضلوع خلودُ
لقيت الودادَ الحرَّ من قلب ماجدٍ : وأصدق من يُصْفي الوداد مجيدُ
ألم تَرْمِ للإصلاح عن قوس نافذٍ : درى كيف يُرعى طارفٌ وتليدُ
وقمتَ على الآداب تحمي قديمها : مخافةَ أن يطغى عليه جديدُ
أتذكر إذ كنا نباكر معهداً : حُميَّاه عِلْمٌ والسقاة أسودُ
أتذكر إذ كنا قرينين عندما : يحين صدورٌ أو يحين ورودُ
فأين ليالينا وأسمارها التي : تُبلُّ بها عند الظماء كبودُ
ليالٍ قضيناها بتونسَ ليتها : تعودُ وجيش الغاصبين طريدُ
__________________