زمان "الفركة" فى نقادة..!
الطيب أديب
اشتهرمركز نقادة بمحافظة قنا بحرف تراثية عديدة، كالفخار والحصر والأسرة المصنعة من جريد النخيل، ولكن نقادة وقراها ارتبط اسمها بحرفة الفركة زمنا طويلا فى العواصم الأفريقية. والفركة "بكسر الفاء" عبارة عن منسوجات مصنعة من الخيوط القطنية، تمر صناعتها بمراحل عديدة تبدأ بصباغة الخيوط بألوان زاهية وجمعها على دواليب يدوية صغيرة، وصفها على النول اليدوى بطريقة هندسية بديعة، ويجلس صانع الفركة (النوال) محتضنا نوله "الفرعونى المنشأ"، وهو يمد قدميه أسفل حفرة النول، يحرك الجزء السفلى من النول، ويستخدم كلتى يديه فى عملية شد المضرب وضم الخيوط لبعضها، ويضرب المكوك يمنة ويسارا، وعندما ينتهى من تصنيع "الملاية" يقطعها ويبدأ فى تصنيع غيرها، ويتسلم النوال أجره من صاحب النول مع بداية كل أسبوع بعدد ما صنعت يداه من ملايات.
العصر الذهبى للفركة
ولاقت الملاية النقادية شهرة واسعة الآفاق، خاصة فى العواصم الإفريقية، كالخرطوم ونيروبى وأديس أبابا وغيرها، حيث تتهافت عليها النساء الإفريقيات لاعتقادهن أن هذه الملايات تجلب الحظ والبركة، وتضفى عليهن قدرا كبيرا من الوقار والحشمة وهن يقمن بلف هذه الملايات حول أجسادهن الفارهة، حتى أن العروس الأفريقية كانت تشترط على عريسها تقديم عددا معينا من هذه الملايات ضمن جهازها قبل الزفاف وكانت فترة نهاية السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى عصرا ذهبيا لفركة نقادة، إذ كانت تدر ما يعادل أربعة ملايين دولار على نقادة وقراها التى احتكرت المنتج بعد خروج إخميم بسوهاج عن المنافسة واحتكارها للسجاد .
قاعة النول
ولحجرة النول فى قرى نقادة ونجوعها ذكريات سعيدة لا تنسى، إذ كانت الحجرة التى يطلق عليها النوالة (قاعة النول) تبنى مستقلة داخل أحد أركان البيت،ويعمل شباب النوالة لدى صاحب النول الذى يجمع الملايات المصنعة فى نهاية الأسبوع، ومع مطلع نهار يوم السبت يسحب (ركوبته )ويحمل ملاياته قاصدا تاجر الجملة فى سوق نقادة الشهير، الذى يشترى منه الملايات ويلفها ويعتمدها بختم نقادة ويشحنها إلى معبر حلفا جنوب أسوان ومنه إلى العواصم الإفريقية التى تتلقف المنتج . وكانت قاعة النوالة ملتقى لشباب القرية يحولون ليلها لحلقات عمل وسمر ويتبادلون فيها أخبار القرية ونوادرها ويتتبعون فيها أخبار العالم عبر جهاز الراديو المعلق فى ركن القاعة ويطربون على نغمات أغانى أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد قنديل ومحمد عبد الوهاب ومحمد رشدى، وكلما ازدهر موسم الفركة دقت الطبول فى شوارع القرى تزف الفتيات للشباب على أن عصر الفركة الذهبى ولى بلا رجعة بعد تدهور الأحوال الاقتصادية فى معظم العواصم الإفريقية وفتح باب الهجرة لدول الخليج فأغلق أصحاب الأنوال مصانعهم الصغيرة، وهرول معظم الشباب يبحثون عن كفيل لهم فى بلاد النفط فتدهورت صناعة الفركة فى جميع القرى والنجوع.
الفركة الحداثية
ولكن عميد صناع الفركة فى نقادة المعلم شمروخ مقار، أصر على الاستمرار فى حرفة آبائه وأجداده، وبجهوده الفردية تمكن من الوصول لأسواق بديلة فى العواصم الأوربية والأسيوية وهو يحمل ملايات الفركة وبرفقته مجسم لنوله اليدوى كما حكى لى منذ ست سنوات قبل رحيله بشهور واستطاع أن يكسب جمهورا جديدا للفركة فى برلين وباريس ومدريد وغيرها من العواصم الأوربية، ولكن رغبة الجمهور الجديد غيرت من شكل المنتج فلم تعد الملاية التقليدية (الإفريقية) تناسب ذوق المستهلك الجديد، فظهرت الفركة ( الحداثية ) المطورة حسب رغبة جمهورها الجديد، وراحت الأيادى الماهرة تصنع المفارش والستائر والكوفيات وغيرها.. بينما صناع الفركة وتجارها يسوقون منتجاتهم الجديدة فى المدن السياحية كالأقصر والغردقة وأسوان وغيرها.. ولا تزال نقادة وتوابعها كالخطارة وكوم الضبع وغيرها تنتج الفركة الجديدة.
الغول الجديد
ولكن فرحة صناع الفركة لم تدم طويلا لظهور منافس جديد (شرس) على الساحة اقتحم عليهم حياتهم، وهوذلك الغول القادم من أقصى الشرق يحمل معه الأستيكة والقفل وفانوس رمضان والموتوسيكل، ها هو الغول الصينى يعود هذه المرة يحمل معه خيوط الفركة الجاهزة، بل ومنتجات الفركة الجديدة يعرضها فى الأسواق المصرية، رغم أنه لم يسهر يوما داخل قاعات الأنوال ولم يطرب لأغانى أم كلثوم ومحمد رشدى ولم يركب ركوبته كل يوم سبت متوجها إلى سوق نقاده، لكنه قدر الله الذى سلط علينا الصين والمسئولين المصريين، اللهم أبعدهم عنا يا رب العالمين.. قولوا آمين..!
* قاص وروائى - قنا
اشتهرمركز نقادة بمحافظة قنا بحرف تراثية عديدة، كالفخار والحصر والأسرة المصنعة من جريد النخيل، ولكن نقادة وقراها ارتبط اسمها بحرفة الفركة زمنا طويلا فى العواصم الأفريقية. والفركة "بكسر الفاء" عبارة عن منسوجات مصنعة من الخيوط القطنية، تمر صناعتها بمراحل عديدة تبدأ بصباغة الخيوط بألوان زاهية وجمعها على دواليب يدوية صغيرة، وصفها على النول اليدوى بطريقة هندسية بديعة، ويجلس صانع الفركة (النوال) محتضنا نوله "الفرعونى المنشأ"، وهو يمد قدميه أسفل حفرة النول، يحرك الجزء السفلى من النول، ويستخدم كلتى يديه فى عملية شد المضرب وضم الخيوط لبعضها، ويضرب المكوك يمنة ويسارا، وعندما ينتهى من تصنيع "الملاية" يقطعها ويبدأ فى تصنيع غيرها، ويتسلم النوال أجره من صاحب النول مع بداية كل أسبوع بعدد ما صنعت يداه من ملايات.
العصر الذهبى للفركة
ولاقت الملاية النقادية شهرة واسعة الآفاق، خاصة فى العواصم الإفريقية، كالخرطوم ونيروبى وأديس أبابا وغيرها، حيث تتهافت عليها النساء الإفريقيات لاعتقادهن أن هذه الملايات تجلب الحظ والبركة، وتضفى عليهن قدرا كبيرا من الوقار والحشمة وهن يقمن بلف هذه الملايات حول أجسادهن الفارهة، حتى أن العروس الأفريقية كانت تشترط على عريسها تقديم عددا معينا من هذه الملايات ضمن جهازها قبل الزفاف وكانت فترة نهاية السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى عصرا ذهبيا لفركة نقادة، إذ كانت تدر ما يعادل أربعة ملايين دولار على نقادة وقراها التى احتكرت المنتج بعد خروج إخميم بسوهاج عن المنافسة واحتكارها للسجاد .
قاعة النول
ولحجرة النول فى قرى نقادة ونجوعها ذكريات سعيدة لا تنسى، إذ كانت الحجرة التى يطلق عليها النوالة (قاعة النول) تبنى مستقلة داخل أحد أركان البيت،ويعمل شباب النوالة لدى صاحب النول الذى يجمع الملايات المصنعة فى نهاية الأسبوع، ومع مطلع نهار يوم السبت يسحب (ركوبته )ويحمل ملاياته قاصدا تاجر الجملة فى سوق نقادة الشهير، الذى يشترى منه الملايات ويلفها ويعتمدها بختم نقادة ويشحنها إلى معبر حلفا جنوب أسوان ومنه إلى العواصم الإفريقية التى تتلقف المنتج . وكانت قاعة النوالة ملتقى لشباب القرية يحولون ليلها لحلقات عمل وسمر ويتبادلون فيها أخبار القرية ونوادرها ويتتبعون فيها أخبار العالم عبر جهاز الراديو المعلق فى ركن القاعة ويطربون على نغمات أغانى أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد قنديل ومحمد عبد الوهاب ومحمد رشدى، وكلما ازدهر موسم الفركة دقت الطبول فى شوارع القرى تزف الفتيات للشباب على أن عصر الفركة الذهبى ولى بلا رجعة بعد تدهور الأحوال الاقتصادية فى معظم العواصم الإفريقية وفتح باب الهجرة لدول الخليج فأغلق أصحاب الأنوال مصانعهم الصغيرة، وهرول معظم الشباب يبحثون عن كفيل لهم فى بلاد النفط فتدهورت صناعة الفركة فى جميع القرى والنجوع.
الفركة الحداثية
ولكن عميد صناع الفركة فى نقادة المعلم شمروخ مقار، أصر على الاستمرار فى حرفة آبائه وأجداده، وبجهوده الفردية تمكن من الوصول لأسواق بديلة فى العواصم الأوربية والأسيوية وهو يحمل ملايات الفركة وبرفقته مجسم لنوله اليدوى كما حكى لى منذ ست سنوات قبل رحيله بشهور واستطاع أن يكسب جمهورا جديدا للفركة فى برلين وباريس ومدريد وغيرها من العواصم الأوربية، ولكن رغبة الجمهور الجديد غيرت من شكل المنتج فلم تعد الملاية التقليدية (الإفريقية) تناسب ذوق المستهلك الجديد، فظهرت الفركة ( الحداثية ) المطورة حسب رغبة جمهورها الجديد، وراحت الأيادى الماهرة تصنع المفارش والستائر والكوفيات وغيرها.. بينما صناع الفركة وتجارها يسوقون منتجاتهم الجديدة فى المدن السياحية كالأقصر والغردقة وأسوان وغيرها.. ولا تزال نقادة وتوابعها كالخطارة وكوم الضبع وغيرها تنتج الفركة الجديدة.
الغول الجديد
ولكن فرحة صناع الفركة لم تدم طويلا لظهور منافس جديد (شرس) على الساحة اقتحم عليهم حياتهم، وهوذلك الغول القادم من أقصى الشرق يحمل معه الأستيكة والقفل وفانوس رمضان والموتوسيكل، ها هو الغول الصينى يعود هذه المرة يحمل معه خيوط الفركة الجاهزة، بل ومنتجات الفركة الجديدة يعرضها فى الأسواق المصرية، رغم أنه لم يسهر يوما داخل قاعات الأنوال ولم يطرب لأغانى أم كلثوم ومحمد رشدى ولم يركب ركوبته كل يوم سبت متوجها إلى سوق نقاده، لكنه قدر الله الذى سلط علينا الصين والمسئولين المصريين، اللهم أبعدهم عنا يا رب العالمين.. قولوا آمين..!
* قاص وروائى - قنا