عيون لاتبكي (قصة قصيرة)
عـــــــيـون لا تبــكـى
صورة من معاناة الأجداد في حفر قناة السويس
تنفس الصبح وأعلن عن مولد يوم جديد ، واستيقظ الأشقياء الذين ساقوهم هنا في هذه الصحراء، ....استيقظوا من النوم مفزوعين ، كمن أصابهم كابوس، فالكابوس فى الأحلام فقط ، أما هنا فيظل يلازمهم مع بزوغ كل صباح ، وحتى انتصاف ليل ذات اليوم ، وتنهال الكرابيج على ظهورهم العارية للاستمرار فى العمل ، طاعة للذين يسعون للمجد على أشلائهم، ودمائهم التي ارتوت بها الأرض ،فكستها باللون الأحمر،فتتعالى صرخاتهم ، وتشكو لخالقها بعد أن نزعت الرحمة من قلوب هذه الشركة...ودوى صوت النفير،ليلقى الظلم بظلاله، فقام رجب من النوم متثاقلا، تاركا وراءه أحلاما ، وحمل فأسه،ليشارك زملاءه تحقيق المجد ... وخرج من الخيمة ، مكبلا بالهموم والأحزان ،يجر في جسمه المنهكة قواه ، وركله الحارس التركي بقدمه
الحارس
مالذى أخرك يابن الكلب....؟ قم سريعا إلى عملك وإلا دققت عنقك....!!
وكتم رجب غيظه، وغضبه لأنه لا حول له ولا قوة إزاء قوى الطغيان التي انتشرت فى مصر ، شرقها وغربها ...واستسلم لطغيانها وظلمها ،ولملم شتات نفسه سريعا ، وأخذ مكانه في العمل بجوار سعد؛ ومرعى، وحليم، وغيرهم من زملائه الذين يجمعهم الشقاء فى هذه البقعة النائية من أرض مصر، بعيدا عن الأهل والأحباب ، فكانوا يحفرون ، فيقبل فريق يحمل ركام الحفر إلى مكان بعيد، ويعبئونه في مقاطف ، فيحمله فريق آخر لإخلاء المكان0وكثيراماراودت رجب فكرة الهرب والخلاص من هذا العذاب الذي لا فكاك منه، ولكن تبوء محاولاته بالفشل ،أمام يقظة كلاب الحراسة وكرابيجها الموجعةالتى لا تفرق بين جسد وآخر ، و المصير المجهول الذي ينتظره في الصحراء ، حيث لا مأوى ولا ماء 00 واقترب من سعد وسأله
رجب
والعمل ....؟
هل ننتظر حتى نموت هنا ولا يعلم احد عنا شيئا....؟
سعد
وهل وجدنا مخرجا وتأخرنا ،إنهم يضيقون الخناق علينا،ويصعب علينا الهرب
رجب
وهل ننتظر حتى نموت هنا مثل أمين وسعدون والبدرى والتابعي ومتولي وغيرهم ،لا لن أنتظر حتى أموت هنا
سعد
هون عليك يا رجب ،وانتظر لعل الفرج قريب
رجب
الفرج .. أين...؟ كل يوم يمر هنا يقربنا من مماتنا...!،مات معظمنا من الجوع والعطش والأمراض التي تفتك بنا واحدا بعد الآخر.....!!!
وهدأه سعد ، واقترب منهما كلب من كلاب الشركة بكرباجه، وانهال عليهما ، وأشبعهم سبابا وتقريعا على تقصيرهما فى العمل ، وطلب من سعد أن يترك مكانه فى الحفر ، ويرفع الركام بعيدا ، ويترك رجب وحيدا يحفر مع زملائه الأشقياء ...وتراءت أمامه صورة شيخ الخفر ، وهو يخبره باختياره للعمل فى شركة القناة ،وكان ذلك الخبر كالصاعقة على رأسه، وألح عليه بان يعتقه ،لأن اليوم هو يوم عرسه الذي انتظره بفارغ الصبر، وينتظره كل رجل ، ليودع حياة ويقبل على أخرى .. ولم يرحم توسلاته وبكائه أمامه
شيخ الخفر
أنا أنفذ الأوامر فقط ...فلا تبك مثل الحريم وهذا أمر، ولا بد من تنفيذه
رجب
أبوس ايدك الليلة عرسي ،اتركني الليلة فقط
وسبق السيف العذل ، ولم يلق بالا، ويرحم توسلات والديه الضعيفين...وصمم رجب على عقد عرسه الليلة متحديا قرار شيخ الخفر وشركة القناة... واجتمع الأهل والأحباب ، وجلس رجب مع ناعسة يخطف سويعات يهنأ بها قبل أن يأتي هازم اللذات ومفرق الجماعات والقلوب ، عساه يتركه الليلة فقط يشعر بالسعادة التي يحاولون خطفها منه...واقتحم شيخ الخفر مع مجموعة مدججة بالسلاح الفرح ، وخطفوه من مكانه وسط صرخات ناعسة، وتوسلات الأهل والمدعوين ... واقتادوه ليلقى مصيره المحتوم ، واندفعت ناعسة وراءه تصرخ
ناعسة
خطفوك منى يا رجب فى ليلة عرسي نقشي فى يدي ، لم يجف بعد ، سأنتظرك يا رجب ،مهما طال الزمن...!!!
واقتاده شيخ الخفر مع مجموعة أخرى من أبناء القرى المجاورة ، وربطوهم بالحبال،واقتادوهم مثل الحيوانات حتى لا يهربون.....!!!وقطعوا أياما وأياما فى الصحراء بشمسها الحارقة، وهلك الكثير بضربات الشمس التي لم يتحمل حرارتها أحد، وأصيب بالحمى من أصيب حتى لقوا حتفهم ،وكانت الصحراء برمالها الحارقة أحن على أجسادهم من قسوة البشر، فتوارت أجسادهم فى الرمال ، وارتعدت فرائصهم خوفا من المجهول الذي ينتظرهم، وواقع مؤلم لا يرحم ..وانقضى أسبوع حتى وصل الركب إلى شركة القناة ،و حل بهم التعب ، وأصابهم العطش الشديد ، فوقعوا هلكى ،ووجدوا أمامهم برميل المياه ، فاندفعوا بأقصى سرعة ، فانهالت عليهم كلاب الحراسة بالكرابيج والطلقات النارية الطائشة فى الهواء ، لم يشعروا بضرباتها أمام العطش الذي أصابهم، فوقع البرميل على الأرض وضاعت المياه ، وصرخ فيهم الحارس التركي
الحارس التركي
أضعتوا الماء يااولاد الكلب ،هذا تموين أسبوع وسنموت من العطش
كانت كلمات الحارس أقسى من ضربات السياط الموجعة على أجسادهم ، ..ولم يمهلوهم فرصة لالتقاط الأنفاس،فدفعوهم إلى العمل،ووزعوهم على الأعمال المتفرقة في الشركة بعد أن أعطوهم أدوات الحفر من فؤوس ومقاطف..واستوقفهم أحد الفرنساوية، وحدثنهم بلغة عربية ركيكة، وطفق يستنهض حماسهم،و أن مجد مصر سيتحقق على يديهم، وسيعود المشروع على مصر وعليهم بالخير الذي سيعم على الكل،و سيحصل كل واحد على قرشين صاغ ونصف نظير العمل فى الحفر، وذهبوا إلى أعمالهم وهم يمنون أنفسهم بالخير الذي سيعم عليهم، واطمئنوا بأنهم لن يمكثوا هنا طويلا، وسيلقون معاملة طيبة.ولكن ذهبت هذه التصريحات الوردية أدراج الرياح أمام غطرسة الحراس الترك ، وعتاة الظلم الذين سلبوا منهم كل حقوقهم،فكانوا يحصلون على تعريفة فقط، وكانت تضيع منهم فى شراء المياه من الأتراك الجشعين ،ويصبحون بلا أموال ، كأنهم يعملون بلا مقابل ...وانتظر رجب أياما و شهورا ،وتعلق بالأمل فى العودة إلى بلده وأرضه, وناعسة التي وعدته أن تنتظره ، ولكن كانت هذه الوعود سرابا ، واستسلم لمصيره ،وأيقن انه سيدفن هنا ويتوارى جسده وسط الرمال مع من ماتوا من زملائه...فكل يوم يرى الموت يحاصرهم ،وأصبح شيئا عاديا كأن ملك الموت ترك البشر وتفرغ للعمال فى شركة القناة، ويحصد كل يوم رجال بالعشرات، فدفعهم اليأس إلى تمنى الموت،للنجاة من العذاب على أيدي زبانية الموت الذين يبيعون لهم الموت رغما عنهم.وفكر جب فى الخلاص من هذا المصير فأضرب عن العمل ، ورفع الفأس عاليا وصرخ عاليا
رجب
ما نهاية هذا العذاب ،لن اعمل بعد الآن،فليقتلوني كما قتلوا زهرة شباب مصر ،هنا في سبيل إرضاء غرور من لا يرحمون
وتوسل إليه زملاؤه أن يكف حتى لا تنهال الكرابيج الموجعة على أظهرهم العارية، ولم يلق لهم بالا ...واندفعت الكلاب من كل حدب وصوب ، وانهالت بكرابيجها على القلوب الكسيرة, التي رفعت فؤوسها ، واشتبكت معهم فى معركة كادت تميل لصالحهم ، وحاول المشرفون والمهندسون إنقاذ الموقف ، ووقف هذا التمرد،فانطلقت صفارة الإنذار تدوي مع الطلقات النارية فى الهواء ولم تؤثر في هذه الأجساد التي تنتظر بصيص أمل ... ولم يتوقفوا إلا بعد أن صوبت الطلقات نحوهم ، ودارت الدائرة عليهم،وسقطت الأجساد التي هدها السوس أمام كروش انتفخت بدماء هؤلاء المعذبين في هذه المعركة .وأصابت رجب طلقة فى ذراعه فانفجرت الدماء منه ، وحاول وقف الدماء فنزع الخرقة التي تستر جسده ووضعها على الجرح حتى يوقف النزيف..وصرخ فيهم المهندس الفر نسى
المهندس
هذا مصير من يتجرأ ويعلن العصيان ،أنتم هنا عبيد رهن إشارتنا ...!!!... والآن هيا إلى العمل
وقام من قام ليواصل عمله ،ووقع رجب من التعب والإعياء الشديد الذي حل به ، وظن أن أعينهم ستغفل عنه، لكن خاب ظنه، وانهال التركي السمين بكرباجه دون رحمة ، وهو يصرخ صرخات تدوي فى الصحراء ، وتصعق قلوب أخرى معذبة ، وحاول القيام فلم يستطع ؛ و خارت قواه تماما ، وصرخ التركي السمين ..اتركوا هذا الكلب يموت، وغدا ناتى بألف غيره..حملوا رجب ودفعوه لإحدى الخيام المنصوبة للنوم ، وطرحوه على الأرض ،والدماء الغزير تنفجر من ذراعه وهو يرتعش كمن أصابه الوباء ، ، زحف متلفتا حوله كي يجد ما يشربه أو يقتات به، هيهات .. لقد ساقوه إلى الجحيم..ولم تكد تمر دقائق؛حتى فوجىءبالجثث تلقى عليه واحدة بعد الأخرى، أجساد هدها التعب ويداعبها الموت ليخطفها ، وامتلأ المكان بالقوى المتهالكة؛ والتي لا نعرف لها عددا ، والقاسم المشترك أنها متعبة وتصرخ من التعب والعطش، .. وزحف رجب ما استطاع ليمر من بين هذه الجثث حتى بوابة الخيمة ،ليسمع الصوت النفير معلنا انتهاء العمل فى تمام الساعة الثانية عشرة مساء، والكل يجرى ليلحق مكانا ينام فيه ، ويشعر بالراحة ، ويحلم بالماء والطعام والحرية عسى أن يتحقق ذلك فى الحلم ، بعد أن تعذر الحصول عليه فى الواقع.حاول رجب القيام فلم يستطع. فأيقن أنها النهاية، ووقع على الأرض، وتراءت أمامه صورة ناعسة،و صوتها يتردد فى أذنه
ناعسة
سأنتظرك يا رجب مهما طال الزمن !!![/
صورة من معاناة الأجداد في حفر قناة السويس
تنفس الصبح وأعلن عن مولد يوم جديد ، واستيقظ الأشقياء الذين ساقوهم هنا في هذه الصحراء، ....استيقظوا من النوم مفزوعين ، كمن أصابهم كابوس، فالكابوس فى الأحلام فقط ، أما هنا فيظل يلازمهم مع بزوغ كل صباح ، وحتى انتصاف ليل ذات اليوم ، وتنهال الكرابيج على ظهورهم العارية للاستمرار فى العمل ، طاعة للذين يسعون للمجد على أشلائهم، ودمائهم التي ارتوت بها الأرض ،فكستها باللون الأحمر،فتتعالى صرخاتهم ، وتشكو لخالقها بعد أن نزعت الرحمة من قلوب هذه الشركة...ودوى صوت النفير،ليلقى الظلم بظلاله، فقام رجب من النوم متثاقلا، تاركا وراءه أحلاما ، وحمل فأسه،ليشارك زملاءه تحقيق المجد ... وخرج من الخيمة ، مكبلا بالهموم والأحزان ،يجر في جسمه المنهكة قواه ، وركله الحارس التركي بقدمه
الحارس
مالذى أخرك يابن الكلب....؟ قم سريعا إلى عملك وإلا دققت عنقك....!!
وكتم رجب غيظه، وغضبه لأنه لا حول له ولا قوة إزاء قوى الطغيان التي انتشرت فى مصر ، شرقها وغربها ...واستسلم لطغيانها وظلمها ،ولملم شتات نفسه سريعا ، وأخذ مكانه في العمل بجوار سعد؛ ومرعى، وحليم، وغيرهم من زملائه الذين يجمعهم الشقاء فى هذه البقعة النائية من أرض مصر، بعيدا عن الأهل والأحباب ، فكانوا يحفرون ، فيقبل فريق يحمل ركام الحفر إلى مكان بعيد، ويعبئونه في مقاطف ، فيحمله فريق آخر لإخلاء المكان0وكثيراماراودت رجب فكرة الهرب والخلاص من هذا العذاب الذي لا فكاك منه، ولكن تبوء محاولاته بالفشل ،أمام يقظة كلاب الحراسة وكرابيجها الموجعةالتى لا تفرق بين جسد وآخر ، و المصير المجهول الذي ينتظره في الصحراء ، حيث لا مأوى ولا ماء 00 واقترب من سعد وسأله
رجب
والعمل ....؟
هل ننتظر حتى نموت هنا ولا يعلم احد عنا شيئا....؟
سعد
وهل وجدنا مخرجا وتأخرنا ،إنهم يضيقون الخناق علينا،ويصعب علينا الهرب
رجب
وهل ننتظر حتى نموت هنا مثل أمين وسعدون والبدرى والتابعي ومتولي وغيرهم ،لا لن أنتظر حتى أموت هنا
سعد
هون عليك يا رجب ،وانتظر لعل الفرج قريب
رجب
الفرج .. أين...؟ كل يوم يمر هنا يقربنا من مماتنا...!،مات معظمنا من الجوع والعطش والأمراض التي تفتك بنا واحدا بعد الآخر.....!!!
وهدأه سعد ، واقترب منهما كلب من كلاب الشركة بكرباجه، وانهال عليهما ، وأشبعهم سبابا وتقريعا على تقصيرهما فى العمل ، وطلب من سعد أن يترك مكانه فى الحفر ، ويرفع الركام بعيدا ، ويترك رجب وحيدا يحفر مع زملائه الأشقياء ...وتراءت أمامه صورة شيخ الخفر ، وهو يخبره باختياره للعمل فى شركة القناة ،وكان ذلك الخبر كالصاعقة على رأسه، وألح عليه بان يعتقه ،لأن اليوم هو يوم عرسه الذي انتظره بفارغ الصبر، وينتظره كل رجل ، ليودع حياة ويقبل على أخرى .. ولم يرحم توسلاته وبكائه أمامه
شيخ الخفر
أنا أنفذ الأوامر فقط ...فلا تبك مثل الحريم وهذا أمر، ولا بد من تنفيذه
رجب
أبوس ايدك الليلة عرسي ،اتركني الليلة فقط
وسبق السيف العذل ، ولم يلق بالا، ويرحم توسلات والديه الضعيفين...وصمم رجب على عقد عرسه الليلة متحديا قرار شيخ الخفر وشركة القناة... واجتمع الأهل والأحباب ، وجلس رجب مع ناعسة يخطف سويعات يهنأ بها قبل أن يأتي هازم اللذات ومفرق الجماعات والقلوب ، عساه يتركه الليلة فقط يشعر بالسعادة التي يحاولون خطفها منه...واقتحم شيخ الخفر مع مجموعة مدججة بالسلاح الفرح ، وخطفوه من مكانه وسط صرخات ناعسة، وتوسلات الأهل والمدعوين ... واقتادوه ليلقى مصيره المحتوم ، واندفعت ناعسة وراءه تصرخ
ناعسة
خطفوك منى يا رجب فى ليلة عرسي نقشي فى يدي ، لم يجف بعد ، سأنتظرك يا رجب ،مهما طال الزمن...!!!
واقتاده شيخ الخفر مع مجموعة أخرى من أبناء القرى المجاورة ، وربطوهم بالحبال،واقتادوهم مثل الحيوانات حتى لا يهربون.....!!!وقطعوا أياما وأياما فى الصحراء بشمسها الحارقة، وهلك الكثير بضربات الشمس التي لم يتحمل حرارتها أحد، وأصيب بالحمى من أصيب حتى لقوا حتفهم ،وكانت الصحراء برمالها الحارقة أحن على أجسادهم من قسوة البشر، فتوارت أجسادهم فى الرمال ، وارتعدت فرائصهم خوفا من المجهول الذي ينتظرهم، وواقع مؤلم لا يرحم ..وانقضى أسبوع حتى وصل الركب إلى شركة القناة ،و حل بهم التعب ، وأصابهم العطش الشديد ، فوقعوا هلكى ،ووجدوا أمامهم برميل المياه ، فاندفعوا بأقصى سرعة ، فانهالت عليهم كلاب الحراسة بالكرابيج والطلقات النارية الطائشة فى الهواء ، لم يشعروا بضرباتها أمام العطش الذي أصابهم، فوقع البرميل على الأرض وضاعت المياه ، وصرخ فيهم الحارس التركي
الحارس التركي
أضعتوا الماء يااولاد الكلب ،هذا تموين أسبوع وسنموت من العطش
كانت كلمات الحارس أقسى من ضربات السياط الموجعة على أجسادهم ، ..ولم يمهلوهم فرصة لالتقاط الأنفاس،فدفعوهم إلى العمل،ووزعوهم على الأعمال المتفرقة في الشركة بعد أن أعطوهم أدوات الحفر من فؤوس ومقاطف..واستوقفهم أحد الفرنساوية، وحدثنهم بلغة عربية ركيكة، وطفق يستنهض حماسهم،و أن مجد مصر سيتحقق على يديهم، وسيعود المشروع على مصر وعليهم بالخير الذي سيعم على الكل،و سيحصل كل واحد على قرشين صاغ ونصف نظير العمل فى الحفر، وذهبوا إلى أعمالهم وهم يمنون أنفسهم بالخير الذي سيعم عليهم، واطمئنوا بأنهم لن يمكثوا هنا طويلا، وسيلقون معاملة طيبة.ولكن ذهبت هذه التصريحات الوردية أدراج الرياح أمام غطرسة الحراس الترك ، وعتاة الظلم الذين سلبوا منهم كل حقوقهم،فكانوا يحصلون على تعريفة فقط، وكانت تضيع منهم فى شراء المياه من الأتراك الجشعين ،ويصبحون بلا أموال ، كأنهم يعملون بلا مقابل ...وانتظر رجب أياما و شهورا ،وتعلق بالأمل فى العودة إلى بلده وأرضه, وناعسة التي وعدته أن تنتظره ، ولكن كانت هذه الوعود سرابا ، واستسلم لمصيره ،وأيقن انه سيدفن هنا ويتوارى جسده وسط الرمال مع من ماتوا من زملائه...فكل يوم يرى الموت يحاصرهم ،وأصبح شيئا عاديا كأن ملك الموت ترك البشر وتفرغ للعمال فى شركة القناة، ويحصد كل يوم رجال بالعشرات، فدفعهم اليأس إلى تمنى الموت،للنجاة من العذاب على أيدي زبانية الموت الذين يبيعون لهم الموت رغما عنهم.وفكر جب فى الخلاص من هذا المصير فأضرب عن العمل ، ورفع الفأس عاليا وصرخ عاليا
رجب
ما نهاية هذا العذاب ،لن اعمل بعد الآن،فليقتلوني كما قتلوا زهرة شباب مصر ،هنا في سبيل إرضاء غرور من لا يرحمون
وتوسل إليه زملاؤه أن يكف حتى لا تنهال الكرابيج الموجعة على أظهرهم العارية، ولم يلق لهم بالا ...واندفعت الكلاب من كل حدب وصوب ، وانهالت بكرابيجها على القلوب الكسيرة, التي رفعت فؤوسها ، واشتبكت معهم فى معركة كادت تميل لصالحهم ، وحاول المشرفون والمهندسون إنقاذ الموقف ، ووقف هذا التمرد،فانطلقت صفارة الإنذار تدوي مع الطلقات النارية فى الهواء ولم تؤثر في هذه الأجساد التي تنتظر بصيص أمل ... ولم يتوقفوا إلا بعد أن صوبت الطلقات نحوهم ، ودارت الدائرة عليهم،وسقطت الأجساد التي هدها السوس أمام كروش انتفخت بدماء هؤلاء المعذبين في هذه المعركة .وأصابت رجب طلقة فى ذراعه فانفجرت الدماء منه ، وحاول وقف الدماء فنزع الخرقة التي تستر جسده ووضعها على الجرح حتى يوقف النزيف..وصرخ فيهم المهندس الفر نسى
المهندس
هذا مصير من يتجرأ ويعلن العصيان ،أنتم هنا عبيد رهن إشارتنا ...!!!... والآن هيا إلى العمل
وقام من قام ليواصل عمله ،ووقع رجب من التعب والإعياء الشديد الذي حل به ، وظن أن أعينهم ستغفل عنه، لكن خاب ظنه، وانهال التركي السمين بكرباجه دون رحمة ، وهو يصرخ صرخات تدوي فى الصحراء ، وتصعق قلوب أخرى معذبة ، وحاول القيام فلم يستطع ؛ و خارت قواه تماما ، وصرخ التركي السمين ..اتركوا هذا الكلب يموت، وغدا ناتى بألف غيره..حملوا رجب ودفعوه لإحدى الخيام المنصوبة للنوم ، وطرحوه على الأرض ،والدماء الغزير تنفجر من ذراعه وهو يرتعش كمن أصابه الوباء ، ، زحف متلفتا حوله كي يجد ما يشربه أو يقتات به، هيهات .. لقد ساقوه إلى الجحيم..ولم تكد تمر دقائق؛حتى فوجىءبالجثث تلقى عليه واحدة بعد الأخرى، أجساد هدها التعب ويداعبها الموت ليخطفها ، وامتلأ المكان بالقوى المتهالكة؛ والتي لا نعرف لها عددا ، والقاسم المشترك أنها متعبة وتصرخ من التعب والعطش، .. وزحف رجب ما استطاع ليمر من بين هذه الجثث حتى بوابة الخيمة ،ليسمع الصوت النفير معلنا انتهاء العمل فى تمام الساعة الثانية عشرة مساء، والكل يجرى ليلحق مكانا ينام فيه ، ويشعر بالراحة ، ويحلم بالماء والطعام والحرية عسى أن يتحقق ذلك فى الحلم ، بعد أن تعذر الحصول عليه فى الواقع.حاول رجب القيام فلم يستطع. فأيقن أنها النهاية، ووقع على الأرض، وتراءت أمامه صورة ناعسة،و صوتها يتردد فى أذنه
ناعسة
سأنتظرك يا رجب مهما طال الزمن !!![/