الدكتور محمد رفعت الإمام في حوار خاص
حوار مع الدكتور محمد رفعت
حوار-باسنت موسى
في الماضي البعيد كان يتعايش المصريون مع جاليات أجنبية كثيرة وأتضح ذلك لمن لم يحيا تلك الفترة من خلال سينما الزمن الجميل التي عكست لنا كيف كان المصري أكثر تسامحاً وقبولاً للآخر الذي يختلف عنه في اللغة والدين والعِرق، في هذا الحوار التقينا بالدكتور "محمد رفعت" أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الإسكندرية ورئيس تحرير الطبعة العربية مجلة" أريف" الأرمينية ليحدثنا تاريخياً عن سبل تعايش الفرد المصري مع الأرمن كجالية أجنبية ومدى حب وتفاعل الأرمن مع المجتمع المصري الذي لم يسعى لطمس هويتهم الثقافية فارتبطوا أكثر به وبرز منهم المميزين في كل المجالات مما عاد بالخير على المجتمع ككل.
** بداية دعنا نسألك عن سر اهتمامك بدراسة الوجود الأرمني في مصر -أعني بذلك محفزات الدراسة-؟
دوماً ما كنت أسال لماذا يطلق على مصر تعبير "أم الدنيا"؟ وببعض البحث ومحاولات الفهم أدركت أن ذلك التعبير راجع إلى طبيعة الروح المصرية تلك الطبيعة التي اتسعت في فترة ما من التاريخ لاستيعاب كل الأديان والألوان والجنسيات والتعايش معها بشكل يبهر المتحدثين عن قبول الآخر والتواصل بين الثقافات،عند متابعتي لتترات الأفلام المصرية القديمة كثيراً ما كنت ألمح أسماء تبدو ليست لمصريين كـ "أورفانلي، مزرحاي، ناصبيان" وما إلى ذلك من أسماء لأناس ساهموا في الصناعة السينمائية المصرية بشكل كبير واكتشفت بعد ذلك أن تلك الأسماء هي لمصريين أرمن ولشغفي في معرفة المزيد عن هؤلاء الأرمن انتقلت للعيش في القاهرة والسعي للتعرف على الأرمن عن قرب لإعداد الماجستير، ومن ثم الدكتوراة لكنني في البداية لم أجد ترحيب أرمني بي في القاهرة لأن الفرد الأرمني عادة يتوجس من الغرباء، ربما لأن تاريخه أضفي على شخصيته نوع من القلق عند التواصل مع الآخر ولا سيما أنني بالإضافة لكوني غريب عنهم فأني وبين قوسين مسلم، لكن مع الوقت وإصراري على دراسة أوضاع الأرمن في مصر تاريخاً وحاضراً تغيرت النظرة وأصبح التعاون جيد ومتاح.
** منذ متى بدأ التواجد الأرمني في مصر؟
يعود الوجود الأرميني بمصر إلى العصر القديم، لكن الجالية الأرمينية تكونت بشكل رسمي في العصر الفاطمي (909- 1171) على يد بدر الدين الجمالي -كان في بداية تاريخه المهني قائداً لدمشق ثم والياً على عكا وقائداً عاماً للبحرية المصرية-، والذي أتى وقتها بما يزيد عن ثلاثة ألاف أرميني في عهد الخليفة المستنصر لاستخدامهم في إنهاء حالة الفوضى والاضطراب في أنحاء دولة الخلافة المصرية، في عهد "محمد علي" ازداد عدد الأرمن بمصر بصورة ليست بالقليلة كما تولىَ العديد منهم مناصب هامة ومرموقة وذلك لأن "محمد علي" كان يقيم الفرد الذي يحتاجه للعمل على أساس الكفاءة والقدرة على خدمة الأهداف السياسية للدولة المصرية وقت ذاك وليس على أي اعتبارات أخرى، لذلك يمكننا القول أن عهد "محمد علي" كان العصر الذهبي للأرمن في مصر حيث كانوا في عصره النخبة الاقتصادية والسياسية وهناك في ذلك العصر تولىَ أكثر من أثنى عشر أرمني تولى وزارة الخارجية، لكن مع نهاية القرن التاسع عشر وبسبب المذابح التي حدثت للأرمن في تركيا جاء عدد من الأرمن لمصر كلاجئين فتغيّر وضع الأرمن في مصر من نخبة إلى أصحاب أعمال شعبية تقليدية كتفصيل الملابس وإصلاح الأحذية وما إلى ذلك من أعمال.
** المذابح والحروب تحوي في كل الأحيان إن جاز لنا التعبير قصصاً إنسانية، هل لك أن تروي لنا واحدة من تلك القصص فيما يتعلق بما حدث للأرمن من مذابح في تركيا؟
بالتأكيد، الحروب وما شابهها من أحداث تحوى الكثير من القصص الإنسانية التي تشعر بالحزن والأسف، وأتذكر هنا قصة فتاة أرمينية كانت تسمى "تاكوهي" تاهت في صحراء الموصل من أهلها وهي بعمر الثانية عشر فقامت أحد العشائر باختطافها وتزويجها لشيخ العشيرة ودفعها لاعتناق الإسلام، وبالفعل انصاعت الفتاة لهم وتزوجت الشيخ واعتنقت الإسلام بل وأنجبت ذكر دعاه زوجها "محمد" وبعد ذلك بسنوات ليست طويلة أدرك أخيها مكانها وذهب لشيخ العشيرة من أجل الحصول على أخته، وبالفعل وبعد حديث واتفاقات عادت "تاكوهي" لسابق عهدها ومسيحيتها للعيش مع أخيها في مصر وتزوجت وأنجبت وصارت حياتها طبيعية إلى أن ظهر ولدها محمد من جديد وهى أم مسنة لفتاتين غير مسيحيات وبقي لزاماً على تلك المرأة التي ذاقت العذاب من طفولتها أن تختار بين رؤية أبنها أو الاحتفاظ بحياة هادئة لبناتها ولكونها غير قادرة على الاختيار ظلت تبكي حتى ماتت ولم يراها ولدها محمد إلا وهي في نعش الموت وحتى رؤيته لها جاءت خلسة خوفاً من تأثير ظهوره على استقرار حياة أختيه.
** في إحدى الحلقات التليفزيونية عن التواجد الأرمني بمصر أوضح أحد الشخصيات الأرمينية أن عددهم أي الأرمن- أصبح غير كبير داخل مصر مما جعلهم يتخلوا عن واحدة من سماتهم الأساسية، وهي الزواج من بعضهم البعض والتوجه للزواج بالمصريين غير الأرمن، في هذا الإطار أوضح لنا أسباب تناقص الوجود الأرمني داخل مصر خاصة منذ 23 يوليو 1952؟
تناقص عدد الأرمن بمصر راجع إلى أسباب متعلقة بالأرمن أنفسهم، وأرمينيا السوفيتية إضافة للحكومة المصرية، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تجمع عدد من الأرمن في أرمينيا السوفيتية، ووعدوا أرمن مصر بفرص اقتصادية ووظائف أكبر إذا تركوا مصر وذهبوا لأرمينيا السوفيتية وبالفعل عام 1947 هاجر أربعة آلاف أرمني من القاهرة لهناك لكنهم وجودا أن ما وعدوا به كان مجرد سراب ودعوتهم للذهاب كانت نوع من التعويض النوعي للخلل السكاني الذي حدث في الإتحاد السوفيتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث تناقص عدد الذكور بشكل كبير يشكل خطراً على بناء المجتمع نوعياً وتلك الهجرة للأرمن من مصر كانت بداية تناقص الوجود الأرمني إضافة لما يتعلق بالحكومة المصرية فمصر ظلت تابعة للدولة العثمانية حتى عام 1914 وفي عام 1929 وضع المشرع المصري قوانين للحصول على الجنسية المصرية ومن استطاع شراء تلك الجنسية من الأرمن بالمعنى الحرفي لكلمة شراء تمكن من العيش والعمل بذات الشكل المتاح للمصري ومن لم يستطع ظل يواجه مشكلات في العمل حيث يعامل كأجنبي مما جعل كثير من الأرمن الذين ولدوا وعاشوا بمصر يبحثون عن مكان آخر للعيش لأن قوانين الجنسية تجعلهم أجانب، عند قيام الثورة المصرية 1952 لم يمارس ضد الأرمن سياسات تهجير بعينها لكن حرب 1956 وتسليط الضوء على اليهود والرغبة في تهجيرهم جعلت الأرمن يشعرون بأنهم حتماً سيأتي الدور عليهم بعد اليهود، فهاجر معظمهم ومع قوانين التأميم التي بدأت عام 1958 وجه للأرمن ضربة قاضية لأن أغلبهم تعرض للتأميم وأصبح الوضع الاقتصادي وقوانينه غير ملائم لطموحاتهم فهاجروا بشكل واسع إلى أن أصبح عددهم قليل الآن.
** من العادات الأرمينية كما أشرت في السؤال السابق هو الزواج من داخل المجتمع الأرمني، أضف إلى ذلك حديثهم لبعض البعض في حياتهم باللغة الأرمينية ووجود المدارس الخاصة بهم وأماكن الترفية، بل وأيضاً الصحافة التي تعبر عنهم... كل هذا يجعلنا نتساءل هل الأرمن مجتمع خاص مغلق داخل المجتمع المصري؟
لا الأرمن ليسوا منعزلين عن المجتمع المصري كما أنهم ليسوا مجتمع منعزل داخل مصر أو كما يقول البعض دولة داخل الدولة، بل أن احتفاظهم بخصوصيتهم الثقافية جزء من عبقرية مصر، بمعنى أن الأرمن يشجعون الكرة ويستمعون للأغنيات المصرية والجيل القديم منهم يفضل عبد الوهاب وأم كلثوم، وجيل الشباب لديهم يتفاعل أكثر مع عمرو دياب وتلك كلها دلائل على أنهم متشبعين بالثقافة المصرية ويتفاعلوا معها، وهذا يعمق شعورهم بأنهم مواطنين مصريين لهم ذات حقوق المصري ويؤدون نفس الواجبات، لكن هذا لا يمنع أن يهتموا بخصوصيتهم الثقافية من خلال رعاية ثقافتهم الفرعية الخاصة بهم وحقيقة الحكومات المصرية على مدار التاريخ ساهمت في جعل الأرمن قادرين على الاحتفاظ بخصوصيتهم تلك، فالمدارس والنوادي والصحافة الأرمينية تخضع للرقابة المصرية نعم لكن دون التدخل في شئونها مادامت غير مخالفة للأطر القانونية التي يجب أن تلتزم بها وذلك عكس الذي يحدث في دول العالم التي بها تواجد أرمني فسوريا على سبيل المثال لا تسمح للأرمن بإطلاق الأسماء الأرمينية على المؤسسات الاجتماعية التي يمتلكها الأرمن في اليونان ممنوع الحديث بالأرمينية داخل المدارس،داخل المجتمع الأمريكي يجد الأرمني ذاته محاصر بالثقافة الأمريكية في كل مكان بما لا يساعده على أن تكون له خصوصية يتمسك بها وينميها فاقترابه من الأمركة هو السبيل الوحيد له ليعيش بحال جيد.
** حدثنا عن صحيفة "أريف" وملحقها الشهري العربي الذي تترأس مجموعته التحريرية؟
"أريف" كلمة أرمينية تعني الشمس وهى فعلياً صحيفة يومية مكتوبة بالأرمينية تصدر منذ 15 مايو 1915 لها ملحق شهري بالعربية يصدر منذ إحدى عشر عام كمنحة ثقافية، لذلك هو لا يقدم إعلانات ولا يخضع لمعايير السوق الصحفية لذا فهو ثقافي الطابع يسعى لترسيخ قيم الحوار والاعتراف بالآخر واحترام ثقافته.
** الأرمن مشتتين طوال تاريخهم في دول عده ما سبب ذلك وكيف أثر سلبياً وإيجابياً عليهم؟
أرمينيا هي قنطرة بين الشرق والغرب لذلك كانت دوماً طرفاً في حرب وطبيعتها المنفرة للسكان، حيث تكرار الظواهر الطبيعية السلبية كالزلازل والبراكين إضافة لأنه بسبب اعتناقها المسيحية دفعت الكثير من الشهداء في سبيل ذلك الاعتناق لذلك كله الأرمني يعيش غالباً خارج وطنه وهذا ساعده على سرعة اكتساب اللغات ومهارات التعايش مع الآخر الذي يستضيفه ويمكنني شرح قدرة الأرمني على التعايش من خلال النموذج المصري، فالأرمن مع نهايات القرن التاسع عشر جاءوا لمصر لاجئين ومع ذلك وعلى الرغم من أنهم غرباء على المجتمع المصري إلا أنهم عملوا في الحرف الجماهيرية كتفصيل الملابس وسائر الحرف اليدوية وبرز منهم فنانين كبار منهم في مجال الرسم "ديمرجيان" والذي وصف برائد الواقعية المصرية حيث كان يسكن في شارع محمد على ورسم من خلال تعايشه مع المصريين الواقع المصري كما هو عكس ما كان يفعله الفرنسيين قبله حيث يرسمون الواقع المصري بعكس حاله الحقيقي،هناك أيضاً "ألكسندر صاروخان" والذي أبتكر شخصية "المصري أفندي" بـ "روزاليوسف" وحمل على تلك الشخصية كل فلسفة الواقع المصري.
** شجرة الدر امرأة مؤثرة في التاريخ المصري كانت ذات أصول أرمينية لو عكسنا حال قوتها على النساء الأرمينيات في مصر الآن ماذا سنقول؟
النساء الأرمينيات في مصر ليسوا أفضل حالاً أو ثقافة من سائر المصريات، بل يمكننا القول أنهن أكثر شرقية من الشرقيات متعصبات جداً لدينهن وعلى الرغم من أنهن متعلمات، إلا أن العمل ليس من أولويات الكثيرات منهن وهذا راجع للخوف من أن يخضن عبر العمل مشكلات كثيرة إضافة إلى أنهن يعشن ما يمكن أن نطلق عليه "مجتمع الهوانم" فالسيدة الراقية هي التي لا تعمل بل تكون ربة منزل.
نقلاعن موقع الاقباط متحدون
حوار-باسنت موسى
في الماضي البعيد كان يتعايش المصريون مع جاليات أجنبية كثيرة وأتضح ذلك لمن لم يحيا تلك الفترة من خلال سينما الزمن الجميل التي عكست لنا كيف كان المصري أكثر تسامحاً وقبولاً للآخر الذي يختلف عنه في اللغة والدين والعِرق، في هذا الحوار التقينا بالدكتور "محمد رفعت" أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الإسكندرية ورئيس تحرير الطبعة العربية مجلة" أريف" الأرمينية ليحدثنا تاريخياً عن سبل تعايش الفرد المصري مع الأرمن كجالية أجنبية ومدى حب وتفاعل الأرمن مع المجتمع المصري الذي لم يسعى لطمس هويتهم الثقافية فارتبطوا أكثر به وبرز منهم المميزين في كل المجالات مما عاد بالخير على المجتمع ككل.
** بداية دعنا نسألك عن سر اهتمامك بدراسة الوجود الأرمني في مصر -أعني بذلك محفزات الدراسة-؟
دوماً ما كنت أسال لماذا يطلق على مصر تعبير "أم الدنيا"؟ وببعض البحث ومحاولات الفهم أدركت أن ذلك التعبير راجع إلى طبيعة الروح المصرية تلك الطبيعة التي اتسعت في فترة ما من التاريخ لاستيعاب كل الأديان والألوان والجنسيات والتعايش معها بشكل يبهر المتحدثين عن قبول الآخر والتواصل بين الثقافات،عند متابعتي لتترات الأفلام المصرية القديمة كثيراً ما كنت ألمح أسماء تبدو ليست لمصريين كـ "أورفانلي، مزرحاي، ناصبيان" وما إلى ذلك من أسماء لأناس ساهموا في الصناعة السينمائية المصرية بشكل كبير واكتشفت بعد ذلك أن تلك الأسماء هي لمصريين أرمن ولشغفي في معرفة المزيد عن هؤلاء الأرمن انتقلت للعيش في القاهرة والسعي للتعرف على الأرمن عن قرب لإعداد الماجستير، ومن ثم الدكتوراة لكنني في البداية لم أجد ترحيب أرمني بي في القاهرة لأن الفرد الأرمني عادة يتوجس من الغرباء، ربما لأن تاريخه أضفي على شخصيته نوع من القلق عند التواصل مع الآخر ولا سيما أنني بالإضافة لكوني غريب عنهم فأني وبين قوسين مسلم، لكن مع الوقت وإصراري على دراسة أوضاع الأرمن في مصر تاريخاً وحاضراً تغيرت النظرة وأصبح التعاون جيد ومتاح.
** منذ متى بدأ التواجد الأرمني في مصر؟
يعود الوجود الأرميني بمصر إلى العصر القديم، لكن الجالية الأرمينية تكونت بشكل رسمي في العصر الفاطمي (909- 1171) على يد بدر الدين الجمالي -كان في بداية تاريخه المهني قائداً لدمشق ثم والياً على عكا وقائداً عاماً للبحرية المصرية-، والذي أتى وقتها بما يزيد عن ثلاثة ألاف أرميني في عهد الخليفة المستنصر لاستخدامهم في إنهاء حالة الفوضى والاضطراب في أنحاء دولة الخلافة المصرية، في عهد "محمد علي" ازداد عدد الأرمن بمصر بصورة ليست بالقليلة كما تولىَ العديد منهم مناصب هامة ومرموقة وذلك لأن "محمد علي" كان يقيم الفرد الذي يحتاجه للعمل على أساس الكفاءة والقدرة على خدمة الأهداف السياسية للدولة المصرية وقت ذاك وليس على أي اعتبارات أخرى، لذلك يمكننا القول أن عهد "محمد علي" كان العصر الذهبي للأرمن في مصر حيث كانوا في عصره النخبة الاقتصادية والسياسية وهناك في ذلك العصر تولىَ أكثر من أثنى عشر أرمني تولى وزارة الخارجية، لكن مع نهاية القرن التاسع عشر وبسبب المذابح التي حدثت للأرمن في تركيا جاء عدد من الأرمن لمصر كلاجئين فتغيّر وضع الأرمن في مصر من نخبة إلى أصحاب أعمال شعبية تقليدية كتفصيل الملابس وإصلاح الأحذية وما إلى ذلك من أعمال.
** المذابح والحروب تحوي في كل الأحيان إن جاز لنا التعبير قصصاً إنسانية، هل لك أن تروي لنا واحدة من تلك القصص فيما يتعلق بما حدث للأرمن من مذابح في تركيا؟
بالتأكيد، الحروب وما شابهها من أحداث تحوى الكثير من القصص الإنسانية التي تشعر بالحزن والأسف، وأتذكر هنا قصة فتاة أرمينية كانت تسمى "تاكوهي" تاهت في صحراء الموصل من أهلها وهي بعمر الثانية عشر فقامت أحد العشائر باختطافها وتزويجها لشيخ العشيرة ودفعها لاعتناق الإسلام، وبالفعل انصاعت الفتاة لهم وتزوجت الشيخ واعتنقت الإسلام بل وأنجبت ذكر دعاه زوجها "محمد" وبعد ذلك بسنوات ليست طويلة أدرك أخيها مكانها وذهب لشيخ العشيرة من أجل الحصول على أخته، وبالفعل وبعد حديث واتفاقات عادت "تاكوهي" لسابق عهدها ومسيحيتها للعيش مع أخيها في مصر وتزوجت وأنجبت وصارت حياتها طبيعية إلى أن ظهر ولدها محمد من جديد وهى أم مسنة لفتاتين غير مسيحيات وبقي لزاماً على تلك المرأة التي ذاقت العذاب من طفولتها أن تختار بين رؤية أبنها أو الاحتفاظ بحياة هادئة لبناتها ولكونها غير قادرة على الاختيار ظلت تبكي حتى ماتت ولم يراها ولدها محمد إلا وهي في نعش الموت وحتى رؤيته لها جاءت خلسة خوفاً من تأثير ظهوره على استقرار حياة أختيه.
** في إحدى الحلقات التليفزيونية عن التواجد الأرمني بمصر أوضح أحد الشخصيات الأرمينية أن عددهم أي الأرمن- أصبح غير كبير داخل مصر مما جعلهم يتخلوا عن واحدة من سماتهم الأساسية، وهي الزواج من بعضهم البعض والتوجه للزواج بالمصريين غير الأرمن، في هذا الإطار أوضح لنا أسباب تناقص الوجود الأرمني داخل مصر خاصة منذ 23 يوليو 1952؟
تناقص عدد الأرمن بمصر راجع إلى أسباب متعلقة بالأرمن أنفسهم، وأرمينيا السوفيتية إضافة للحكومة المصرية، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تجمع عدد من الأرمن في أرمينيا السوفيتية، ووعدوا أرمن مصر بفرص اقتصادية ووظائف أكبر إذا تركوا مصر وذهبوا لأرمينيا السوفيتية وبالفعل عام 1947 هاجر أربعة آلاف أرمني من القاهرة لهناك لكنهم وجودا أن ما وعدوا به كان مجرد سراب ودعوتهم للذهاب كانت نوع من التعويض النوعي للخلل السكاني الذي حدث في الإتحاد السوفيتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث تناقص عدد الذكور بشكل كبير يشكل خطراً على بناء المجتمع نوعياً وتلك الهجرة للأرمن من مصر كانت بداية تناقص الوجود الأرمني إضافة لما يتعلق بالحكومة المصرية فمصر ظلت تابعة للدولة العثمانية حتى عام 1914 وفي عام 1929 وضع المشرع المصري قوانين للحصول على الجنسية المصرية ومن استطاع شراء تلك الجنسية من الأرمن بالمعنى الحرفي لكلمة شراء تمكن من العيش والعمل بذات الشكل المتاح للمصري ومن لم يستطع ظل يواجه مشكلات في العمل حيث يعامل كأجنبي مما جعل كثير من الأرمن الذين ولدوا وعاشوا بمصر يبحثون عن مكان آخر للعيش لأن قوانين الجنسية تجعلهم أجانب، عند قيام الثورة المصرية 1952 لم يمارس ضد الأرمن سياسات تهجير بعينها لكن حرب 1956 وتسليط الضوء على اليهود والرغبة في تهجيرهم جعلت الأرمن يشعرون بأنهم حتماً سيأتي الدور عليهم بعد اليهود، فهاجر معظمهم ومع قوانين التأميم التي بدأت عام 1958 وجه للأرمن ضربة قاضية لأن أغلبهم تعرض للتأميم وأصبح الوضع الاقتصادي وقوانينه غير ملائم لطموحاتهم فهاجروا بشكل واسع إلى أن أصبح عددهم قليل الآن.
** من العادات الأرمينية كما أشرت في السؤال السابق هو الزواج من داخل المجتمع الأرمني، أضف إلى ذلك حديثهم لبعض البعض في حياتهم باللغة الأرمينية ووجود المدارس الخاصة بهم وأماكن الترفية، بل وأيضاً الصحافة التي تعبر عنهم... كل هذا يجعلنا نتساءل هل الأرمن مجتمع خاص مغلق داخل المجتمع المصري؟
لا الأرمن ليسوا منعزلين عن المجتمع المصري كما أنهم ليسوا مجتمع منعزل داخل مصر أو كما يقول البعض دولة داخل الدولة، بل أن احتفاظهم بخصوصيتهم الثقافية جزء من عبقرية مصر، بمعنى أن الأرمن يشجعون الكرة ويستمعون للأغنيات المصرية والجيل القديم منهم يفضل عبد الوهاب وأم كلثوم، وجيل الشباب لديهم يتفاعل أكثر مع عمرو دياب وتلك كلها دلائل على أنهم متشبعين بالثقافة المصرية ويتفاعلوا معها، وهذا يعمق شعورهم بأنهم مواطنين مصريين لهم ذات حقوق المصري ويؤدون نفس الواجبات، لكن هذا لا يمنع أن يهتموا بخصوصيتهم الثقافية من خلال رعاية ثقافتهم الفرعية الخاصة بهم وحقيقة الحكومات المصرية على مدار التاريخ ساهمت في جعل الأرمن قادرين على الاحتفاظ بخصوصيتهم تلك، فالمدارس والنوادي والصحافة الأرمينية تخضع للرقابة المصرية نعم لكن دون التدخل في شئونها مادامت غير مخالفة للأطر القانونية التي يجب أن تلتزم بها وذلك عكس الذي يحدث في دول العالم التي بها تواجد أرمني فسوريا على سبيل المثال لا تسمح للأرمن بإطلاق الأسماء الأرمينية على المؤسسات الاجتماعية التي يمتلكها الأرمن في اليونان ممنوع الحديث بالأرمينية داخل المدارس،داخل المجتمع الأمريكي يجد الأرمني ذاته محاصر بالثقافة الأمريكية في كل مكان بما لا يساعده على أن تكون له خصوصية يتمسك بها وينميها فاقترابه من الأمركة هو السبيل الوحيد له ليعيش بحال جيد.
** حدثنا عن صحيفة "أريف" وملحقها الشهري العربي الذي تترأس مجموعته التحريرية؟
"أريف" كلمة أرمينية تعني الشمس وهى فعلياً صحيفة يومية مكتوبة بالأرمينية تصدر منذ 15 مايو 1915 لها ملحق شهري بالعربية يصدر منذ إحدى عشر عام كمنحة ثقافية، لذلك هو لا يقدم إعلانات ولا يخضع لمعايير السوق الصحفية لذا فهو ثقافي الطابع يسعى لترسيخ قيم الحوار والاعتراف بالآخر واحترام ثقافته.
** الأرمن مشتتين طوال تاريخهم في دول عده ما سبب ذلك وكيف أثر سلبياً وإيجابياً عليهم؟
أرمينيا هي قنطرة بين الشرق والغرب لذلك كانت دوماً طرفاً في حرب وطبيعتها المنفرة للسكان، حيث تكرار الظواهر الطبيعية السلبية كالزلازل والبراكين إضافة لأنه بسبب اعتناقها المسيحية دفعت الكثير من الشهداء في سبيل ذلك الاعتناق لذلك كله الأرمني يعيش غالباً خارج وطنه وهذا ساعده على سرعة اكتساب اللغات ومهارات التعايش مع الآخر الذي يستضيفه ويمكنني شرح قدرة الأرمني على التعايش من خلال النموذج المصري، فالأرمن مع نهايات القرن التاسع عشر جاءوا لمصر لاجئين ومع ذلك وعلى الرغم من أنهم غرباء على المجتمع المصري إلا أنهم عملوا في الحرف الجماهيرية كتفصيل الملابس وسائر الحرف اليدوية وبرز منهم فنانين كبار منهم في مجال الرسم "ديمرجيان" والذي وصف برائد الواقعية المصرية حيث كان يسكن في شارع محمد على ورسم من خلال تعايشه مع المصريين الواقع المصري كما هو عكس ما كان يفعله الفرنسيين قبله حيث يرسمون الواقع المصري بعكس حاله الحقيقي،هناك أيضاً "ألكسندر صاروخان" والذي أبتكر شخصية "المصري أفندي" بـ "روزاليوسف" وحمل على تلك الشخصية كل فلسفة الواقع المصري.
** شجرة الدر امرأة مؤثرة في التاريخ المصري كانت ذات أصول أرمينية لو عكسنا حال قوتها على النساء الأرمينيات في مصر الآن ماذا سنقول؟
النساء الأرمينيات في مصر ليسوا أفضل حالاً أو ثقافة من سائر المصريات، بل يمكننا القول أنهن أكثر شرقية من الشرقيات متعصبات جداً لدينهن وعلى الرغم من أنهن متعلمات، إلا أن العمل ليس من أولويات الكثيرات منهن وهذا راجع للخوف من أن يخضن عبر العمل مشكلات كثيرة إضافة إلى أنهن يعشن ما يمكن أن نطلق عليه "مجتمع الهوانم" فالسيدة الراقية هي التي لا تعمل بل تكون ربة منزل.
نقلاعن موقع الاقباط متحدون