بيوت الطين في الرقة تراث قديم وحضارة وعبق الماضي
عرفت بلاد مابين النهرين قديماً حضارة اسست بيوتها اعتماداً على الطين المجبول بالمياه فكانت فناً تفرد به سكان الفرات ولاتزال
باقية حتى الأن تقاوم غضب الطبيعة احياناً وشر الانسان احياناً اخرى , حيث كانت المراحل التي تمر بها عملية البناء كانت كالتالي حيث يروي لنا احد السكان وهو الحاج محمود البالغ من العمر 90 عاماً فيقول :" عندما نريد بناء دار او"قاووش" وهي كلمة تركية تعني غرفة صغيرة , نقوم بحفر التراب وتكون بكمية كافية تقريباً ثم نقوم بتحضير جبلة الوحل ثم نحضر الماء والتبن وهو بقايا حصاد القمح او الشعير وهي تساعد على تماسك اللبنة وتقويها حيث تخلط مع بعضها جيداً, حتى تصبح جبلة الوحل جاهزة ومن ثم نقوم بإحضار " قطاعة اللبن" وهي مقسمة على ثلاث اشكال مستطيلة ذات ابعاد متساوية , تصنع القطاعة من الخشب او الحديد وهنا نقوم بسكب الوحل فيها حتى تمتلء ثم نقوم بمسحها بالماء حتى تصبح مسطحة وناعمة , ويضيف الحاج قائلاً ": ثم نرفع القطاعة تاركة الوحل يأخذ شكلها المستطيل حتى يجف .
مستلزمات البناء :
ويقول الحاج محمود : نحتاج الى نحو 13 الف لبنة لبناء دار بطول 8 امتار وعرض 4 امتار وارتفاع 2.5 متر بعدها تأتي عملية اختيار شكل البناء أهو "جملوني " أم مائل أم داخلي والجملوني هو دار مقسومة بجايز أي عمود من المنتصف بشكل مرتفع كما في الصورة حيث تقسمه نصفين مائلين وهو بناء مختلف عن البيوت الاخرى ولكنه كان منتشراً بكثرة في تلك القرى ,
كيفية البناء :
يقول : نقوم بمرحلة العمار وهي ان توضع اللبنة فوق الاخرى بشكل المعروف حالياً للبناء الحديث , ووضع بين كل لبنة واخرى الطين من الوحل المجبول بالماء ليتم التماسك مع بعضها البعض, وبعدها نقوم بتغطية السطح بالخشب " عمدان" لتحمل السقف وتقويه وتوضع بعض النبات النهري وهو معروف ب" الزل" وبعض الاشواك او " السفير" بقايا القمح بعد حصاده , ويوضع فوقها النايلون لمنع تسرب مياه الامطار في الشتاء ثم تغطى بالوحل ويمسح بالمالج الناعم ويوضع لها المزاريب لكي يتم تصريف الماء اثناء المطر .
نوعية قديمة لم تعد موجودة:
يقول : كانت البيوت قديماً يبنى نصفها تحت الارض والباقي على السطح وكانت تسمى هذه النوعية من الدور بالدبابة الارضية وتتصف بأنها دافئة شتاءً وباردة صيفاً وتوضع لها مايسمى" بالطوك" أي النوافذ الدائرية الصغيرة حسب الطلب او مستطيلة , واخر مرحلة هي الطلاس أي تغليف جدران البيوت وتتم ايضاً بالوحل الناعم المخلوط بالتبن ويكون الباب من الخشب قطعة واحدة واحياناً يتم وضع "جايز " للبيت وهو عمود في الوسط يقوي البناء ويساعد على رفع السطح ,
الرقة قديماً
من المعلوم أنَّ الخليفة أبا جعفر المنصور قد أشاد في الرقّة مدينة جديدة سمّاها " الرافقة" بنيت على شاكلة بغداد في أبوابها، وأسوارها، وفصولها، ومساحتها، ورحابها، وفي استعمال مادة البناء نفسها وهي الطابوق، وقامت إلى جانب الرقّة البيزنطية، الأموية على مسافة "300 " ذراع إلى الشمال الغربي، وكان سورها يتألف من سور مضاعف داخلي وخارجي بينهما فاصل، وحفر حول السور الخارجي خندق، وكان عرض السور الخارجي يبلغ ( 5و4 ) أمتار، وكان أساس السور من الحجر الكلسي، وشابهت بغداد في أبوابها، وبيوتها، وجعل للمدينة بابان، الأول، يُسمى " باب بغداد" ويقع في الزاوية الجنوبية الشرقية، لايزال قائماً حتى اليوم، والثاني، وهو " باب الجنان" وكان يقوم إلى جانب كل منهما برج مستدير نصف قطره ( 8و7) أمتار.
وظل اعتماد سكّان الرقّة حتى فترة ما بين الحربين العالميتين على أطلال الرقّة في استخراج مادة الطابوق اللازم لبناء بيوتهم، وقد رأى البرج العالم هرتزفيلد سنة 1908، ولها باب ثالث يقع في الجهة الشمالية ما زال قائماً حتى اليوم، وأعيد ترميمه من جديد، ويسمى باب " أورفة " أو باب " حرّان ".
ويذكر الرحالة ابن حوقل في معرض كلامه عن المهدية في تونس ولها بابان ليس لهما فيما رأيته من الأرض شبيه، ولا نظير إلا البابين اللذين على سور الرافقة).
وإذا علمنا أن موتها هذا بمثابة منفذ على الفرات الذي هو أشبه ما يكون بدهليز، تنفذ خلاله طرق المواصلات التجارية من أقصى المغرب، ومصر، والشام، والجزيرة.. وكان قد مر معنا في المصادر أن المنصور حينما اعتزم بناء بغداد واختار موقعها، قال: لتكونن أعمر مدينة في الأرض، ثم لأبنين بعدها أربع مدن لاتخرب، واحدة منهن أبداً، فبنى " الرافقة "، ولم يسمها، وبنى ملطية، وبنى المصيصة، وبنى المنصورة بالسند.
وذكر اليعقوبي، أن لهم في الفرات نهر عيسى العظيم، الذي يأخذ من معظم الفرات، تدخل فيه السفن العظام التي تأتي من الرقّة، ويحمل فيها الدقيق، والتجارات من الشام.. ولقد كان من بين الحوافز التي حدت بالخليفة المنصور لبناء الرافقة، وغيرها ذلك البرنامج الجديد الذي أوجدته ضرورة إقامة المدن المحصنة، إذ إن هذا الخليفة أحس بأن الأمويين ارتكبوا خطأ فاحشاً لأنهم لم يتخذوا لأنفسهم مدينةً محصنة تحصيناً قوياً تستطيع أن تقاوم الأعداء لأطول مدة ممكنة.
ورغب في إصلاح هذا الخطأ ببناء بغداد، ثم ولنفس السبب بنى " الرافقة " وهي أشبه ما تكون بقلعة قوية بالقرب من الرقّة عند مجاري الفرات العليا، ووضع فيها حامية من الجند الخرسانيين، ودعم نفس الخليفة حصون الكوفة، والبصيرة الدفاعية بمال جمعه من مواطني هاتين المدينتين، وقد بلغت الرقّة أوجها في عصر الخليفة هارون الرشيد، إذ كانت قبل عام ( 180 هـ 796 م ) مصيفاً للخليفة، ومنها تنطلق غزواته الصائفة لحرب الروم، ولقد اتسعت، ولم تعد بلدانها القديمة البيضاء، والسوداء، والرافقة، وواسط كافية لاستيعاب سكانها فشيّد الرشيد بالرقّة " الوسطى " وهي توسع الرافقة، واتصال الرقتين، فشملت جميع المنطقة السهلية الواقعة عند ملتقى الفرات مع البليخ بما فيها من روابٍ، على هذا السهل، كما أنَّ نهر الفرات بتغيير مجراه قد ذهب بجميع معالم المدينة الواقعة في الجهة الشامية المقابلة، والمعروفة " بواسطة الرقّة ـ أو رقّة واسط " ومع ذلك فقد قدرت مساحة الأنقاض الباقية في مدينة الرقّة الجزرية بخمسين كيلو متراً مربعاً.
الرقّة الحديثة..
إنَّ الرقّة اليوم، التي تنعم بالخيرات الوافرة، الغنية بزراعتها الكثيفة المتنوعة تبدو في صورةٍ مشرقة ناصعة، فقد شيّدت فيها الأبنية الحديثة، وأقيمت فيها العديد من الساحات العامة، والحدائق التي يركن في إحداها تمثال هارون الرشيد، الخليفة العباسي وفاءً لذكراه، بالإضافة لأسدين اثنين عثر عليهما مع المكتشفات الأثرية الحديثة، في الرقّة.
بقي أن نقول، إنّ الرقّة واحة للراحة، يقصدها السيّاح من كل بقاع الدنيا، للتمتع بمائها، وخضرتها، وآثارها القيمة، ودعوة من القلب لزيارة هذه البقعة من الوطن الحبيب، للتعرف عليها عن كثب.
واخيراً:
الذي يتجول في هذه القرى يجد نفسه في عصر قديم رائع يحيط بت الكرم والروعة والجمال حياة تكثر فيها البساطة الريفية وعبقرية الاجداد , حيث ترتصف البيوت مشكلة لوحات تغني اروع الالحان الفراتية وتنطلق اجمل حكايات الزمان الماضي لتقول للمستقبل بأن الفرات اب لكل من شرب من مائه واشتم عطره.
جنة يا رقتنا
باقية حتى الأن تقاوم غضب الطبيعة احياناً وشر الانسان احياناً اخرى , حيث كانت المراحل التي تمر بها عملية البناء كانت كالتالي حيث يروي لنا احد السكان وهو الحاج محمود البالغ من العمر 90 عاماً فيقول :" عندما نريد بناء دار او"قاووش" وهي كلمة تركية تعني غرفة صغيرة , نقوم بحفر التراب وتكون بكمية كافية تقريباً ثم نقوم بتحضير جبلة الوحل ثم نحضر الماء والتبن وهو بقايا حصاد القمح او الشعير وهي تساعد على تماسك اللبنة وتقويها حيث تخلط مع بعضها جيداً, حتى تصبح جبلة الوحل جاهزة ومن ثم نقوم بإحضار " قطاعة اللبن" وهي مقسمة على ثلاث اشكال مستطيلة ذات ابعاد متساوية , تصنع القطاعة من الخشب او الحديد وهنا نقوم بسكب الوحل فيها حتى تمتلء ثم نقوم بمسحها بالماء حتى تصبح مسطحة وناعمة , ويضيف الحاج قائلاً ": ثم نرفع القطاعة تاركة الوحل يأخذ شكلها المستطيل حتى يجف .
مستلزمات البناء :
ويقول الحاج محمود : نحتاج الى نحو 13 الف لبنة لبناء دار بطول 8 امتار وعرض 4 امتار وارتفاع 2.5 متر بعدها تأتي عملية اختيار شكل البناء أهو "جملوني " أم مائل أم داخلي والجملوني هو دار مقسومة بجايز أي عمود من المنتصف بشكل مرتفع كما في الصورة حيث تقسمه نصفين مائلين وهو بناء مختلف عن البيوت الاخرى ولكنه كان منتشراً بكثرة في تلك القرى ,
كيفية البناء :
يقول : نقوم بمرحلة العمار وهي ان توضع اللبنة فوق الاخرى بشكل المعروف حالياً للبناء الحديث , ووضع بين كل لبنة واخرى الطين من الوحل المجبول بالماء ليتم التماسك مع بعضها البعض, وبعدها نقوم بتغطية السطح بالخشب " عمدان" لتحمل السقف وتقويه وتوضع بعض النبات النهري وهو معروف ب" الزل" وبعض الاشواك او " السفير" بقايا القمح بعد حصاده , ويوضع فوقها النايلون لمنع تسرب مياه الامطار في الشتاء ثم تغطى بالوحل ويمسح بالمالج الناعم ويوضع لها المزاريب لكي يتم تصريف الماء اثناء المطر .
نوعية قديمة لم تعد موجودة:
يقول : كانت البيوت قديماً يبنى نصفها تحت الارض والباقي على السطح وكانت تسمى هذه النوعية من الدور بالدبابة الارضية وتتصف بأنها دافئة شتاءً وباردة صيفاً وتوضع لها مايسمى" بالطوك" أي النوافذ الدائرية الصغيرة حسب الطلب او مستطيلة , واخر مرحلة هي الطلاس أي تغليف جدران البيوت وتتم ايضاً بالوحل الناعم المخلوط بالتبن ويكون الباب من الخشب قطعة واحدة واحياناً يتم وضع "جايز " للبيت وهو عمود في الوسط يقوي البناء ويساعد على رفع السطح ,
الرقة قديماً
من المعلوم أنَّ الخليفة أبا جعفر المنصور قد أشاد في الرقّة مدينة جديدة سمّاها " الرافقة" بنيت على شاكلة بغداد في أبوابها، وأسوارها، وفصولها، ومساحتها، ورحابها، وفي استعمال مادة البناء نفسها وهي الطابوق، وقامت إلى جانب الرقّة البيزنطية، الأموية على مسافة "300 " ذراع إلى الشمال الغربي، وكان سورها يتألف من سور مضاعف داخلي وخارجي بينهما فاصل، وحفر حول السور الخارجي خندق، وكان عرض السور الخارجي يبلغ ( 5و4 ) أمتار، وكان أساس السور من الحجر الكلسي، وشابهت بغداد في أبوابها، وبيوتها، وجعل للمدينة بابان، الأول، يُسمى " باب بغداد" ويقع في الزاوية الجنوبية الشرقية، لايزال قائماً حتى اليوم، والثاني، وهو " باب الجنان" وكان يقوم إلى جانب كل منهما برج مستدير نصف قطره ( 8و7) أمتار.
وظل اعتماد سكّان الرقّة حتى فترة ما بين الحربين العالميتين على أطلال الرقّة في استخراج مادة الطابوق اللازم لبناء بيوتهم، وقد رأى البرج العالم هرتزفيلد سنة 1908، ولها باب ثالث يقع في الجهة الشمالية ما زال قائماً حتى اليوم، وأعيد ترميمه من جديد، ويسمى باب " أورفة " أو باب " حرّان ".
ويذكر الرحالة ابن حوقل في معرض كلامه عن المهدية في تونس ولها بابان ليس لهما فيما رأيته من الأرض شبيه، ولا نظير إلا البابين اللذين على سور الرافقة).
وإذا علمنا أن موتها هذا بمثابة منفذ على الفرات الذي هو أشبه ما يكون بدهليز، تنفذ خلاله طرق المواصلات التجارية من أقصى المغرب، ومصر، والشام، والجزيرة.. وكان قد مر معنا في المصادر أن المنصور حينما اعتزم بناء بغداد واختار موقعها، قال: لتكونن أعمر مدينة في الأرض، ثم لأبنين بعدها أربع مدن لاتخرب، واحدة منهن أبداً، فبنى " الرافقة "، ولم يسمها، وبنى ملطية، وبنى المصيصة، وبنى المنصورة بالسند.
وذكر اليعقوبي، أن لهم في الفرات نهر عيسى العظيم، الذي يأخذ من معظم الفرات، تدخل فيه السفن العظام التي تأتي من الرقّة، ويحمل فيها الدقيق، والتجارات من الشام.. ولقد كان من بين الحوافز التي حدت بالخليفة المنصور لبناء الرافقة، وغيرها ذلك البرنامج الجديد الذي أوجدته ضرورة إقامة المدن المحصنة، إذ إن هذا الخليفة أحس بأن الأمويين ارتكبوا خطأ فاحشاً لأنهم لم يتخذوا لأنفسهم مدينةً محصنة تحصيناً قوياً تستطيع أن تقاوم الأعداء لأطول مدة ممكنة.
ورغب في إصلاح هذا الخطأ ببناء بغداد، ثم ولنفس السبب بنى " الرافقة " وهي أشبه ما تكون بقلعة قوية بالقرب من الرقّة عند مجاري الفرات العليا، ووضع فيها حامية من الجند الخرسانيين، ودعم نفس الخليفة حصون الكوفة، والبصيرة الدفاعية بمال جمعه من مواطني هاتين المدينتين، وقد بلغت الرقّة أوجها في عصر الخليفة هارون الرشيد، إذ كانت قبل عام ( 180 هـ 796 م ) مصيفاً للخليفة، ومنها تنطلق غزواته الصائفة لحرب الروم، ولقد اتسعت، ولم تعد بلدانها القديمة البيضاء، والسوداء، والرافقة، وواسط كافية لاستيعاب سكانها فشيّد الرشيد بالرقّة " الوسطى " وهي توسع الرافقة، واتصال الرقتين، فشملت جميع المنطقة السهلية الواقعة عند ملتقى الفرات مع البليخ بما فيها من روابٍ، على هذا السهل، كما أنَّ نهر الفرات بتغيير مجراه قد ذهب بجميع معالم المدينة الواقعة في الجهة الشامية المقابلة، والمعروفة " بواسطة الرقّة ـ أو رقّة واسط " ومع ذلك فقد قدرت مساحة الأنقاض الباقية في مدينة الرقّة الجزرية بخمسين كيلو متراً مربعاً.
الرقّة الحديثة..
إنَّ الرقّة اليوم، التي تنعم بالخيرات الوافرة، الغنية بزراعتها الكثيفة المتنوعة تبدو في صورةٍ مشرقة ناصعة، فقد شيّدت فيها الأبنية الحديثة، وأقيمت فيها العديد من الساحات العامة، والحدائق التي يركن في إحداها تمثال هارون الرشيد، الخليفة العباسي وفاءً لذكراه، بالإضافة لأسدين اثنين عثر عليهما مع المكتشفات الأثرية الحديثة، في الرقّة.
بقي أن نقول، إنّ الرقّة واحة للراحة، يقصدها السيّاح من كل بقاع الدنيا، للتمتع بمائها، وخضرتها، وآثارها القيمة، ودعوة من القلب لزيارة هذه البقعة من الوطن الحبيب، للتعرف عليها عن كثب.
واخيراً:
الذي يتجول في هذه القرى يجد نفسه في عصر قديم رائع يحيط بت الكرم والروعة والجمال حياة تكثر فيها البساطة الريفية وعبقرية الاجداد , حيث ترتصف البيوت مشكلة لوحات تغني اروع الالحان الفراتية وتنطلق اجمل حكايات الزمان الماضي لتقول للمستقبل بأن الفرات اب لكل من شرب من مائه واشتم عطره.
جنة يا رقتنا