طلب الرزق لا يشغل عن الطاعة
قال الله تعالى: ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)? (النور).
يقول الإمام الطبري في مناسبة الآية لما قبلها: يعني الله نور السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، في بيوت أذن الله أن ترفع (1).
ويقول ابن كثير: لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب؛ وذلك كالقنديل مثلاً ذكر محلها وهي المساجد، التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد (2).
وقوله تعالى: ?فِي بُيُوتٍ? قالوا: إنها المساجد المخصوصة لله تعالى بالعبادة، وأنها تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض (3)، وعن ابن عباس قال: "المساجد بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الأرض" (4)، وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن حقًّا على الله أن يكرم الزائر (5)" (6)، وعن عمرو بن ميمون قال: "أدركتُ أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها" (7).
وقوله تعالى: ?أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ? أذن الله أن تُبنى، وقيل أذن الله أن تُعظَّم (8)، ومنه قوله تعالى: ?وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ? (البقرة: من الآية 127)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من بنى مسجدًا من ماله بنى الله له بيتًا في الجنة" (9).
وقال الحسن البصري وغيره: معنى تُرفع: تُعظَّم ويُرفع شأنها، وتُطهَّر من الأنجاس والأقذار.. ففي الحديث: "إن المسجد لينزوي من النخامة، كما ينزوي الجلد من النار" (10)، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أخرج أذًى من المسجد، بنى الله بيتًا له في الجنة" (11)، وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخذ المساجد في الدور، وأن تطهر وتطيب (12)" (13).
وقوله تعالى: ?يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال? أي يصلي له في هذه البيوت بالغدوات والعشيات رجال. قال ابن عباس: كل تسبيحٍ في القرآن صلاة، ويدل عليه قوله: ?بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال? أي يصلي له فيها بالغداة والعشي؛ يعني بالغدو صلاة الغداة ويعني بالآصال صلاة العصر(14).
هذه الآيات القرآنية تُبيِّن لنا خاصيةً مهمة من خصائص المسلم الصادق، وتتجلى هذه الخاصية في حرصه الشديد على تلبية النداء، وأنه لا ينشغل بطلب الرزق عن طاعة الله، وفي مقدمة الطاعة الصلاة التي هي عمود الإسلام وأساسه المتين، وأن من أقامه فقد أقام الدين ومَن هدمه فقد هدم الدين.
ومن هذه الآية نستفيد أن:
- عمَّار المساجد عزائمهم عالية:
وصف الله عمار بيوته بقوله تعالى: ?رِجَالٌ? والتنكير هنا للتعظيم، يقول ابن كثير: فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية التي صاروا بها عمارًا للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحـيده وتنزيهه كما قال تعالى: ?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ? (الأحزاب: من الآية 23)" (15).
وقال كثيرٌ من الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق، الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا (16) ، فعن ابن مسعود: أنه رأى قومًا من أهل السوق حيث نودي بالصلاة تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: ?لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ? (17).
ويقول ابن كثير: "وقوله تعالى: ?لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ? كقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ? (المنافقون: من الآية 9)، وقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ? (الجمعة: من الآية 9).
والمعنى: لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خيرٌ لهم وأنفع مما في أيديهم؛ لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق، ولهذا قال تعالى: ?لاَ تُلْهِيهِمْ? أي يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم (18).
- سبب اختصاص التجارة بالذكر:
وقد اختصَّ الله التجارة بالذكر؛ لأنها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلاة والطاعات.
المراد بالذكر: حضور الصلاة.. وقيل: عن ذكر الله، بأسمائه الحسنى أي: يوحدونه ويمجدونه (19).
وعن ابن عباس في الآية قال: ضرب الله هذا المثل قوله ?مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ? لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله (20).
وقيل: إن رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما بياعًا، فإذا سمع النداء بالصلاة، فإن كان الميزان بيده طرحه، ولا يضعه وضعًا، وإن كان بالأرض لم يرفعه.. وكان الآخر قينًا يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مطرقته على السندان أبقاها موضوعة، وإن كان قد رفعها ألقاه من وراء ظهره إذا سمع الأذان، فأنزل الله تعالى هذا ثناءً عليهما وعلى مَن اقتدى بهما (21).
?وَإِقَامِ الصَّلَاةِ?: يدل على أن المراد بقوله: ?عَن ذِكْرِ اللَّهِ? غير الصلاة، لأنه يكون تكرارًا، ?وَإِيتَاء الزَّكَاةِ? قيل الزكاة المفروضة قاله ابن عباس، وقال ابن عباس: الزكاة هنا طاعة الله تعالى والإخلاص، إذ ليس لكل مؤمن مال (22).
- رجال المساجد عملهم خالصٌ لله:
فقوله تعالى: ?يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ? فيها تأكيدٌ لجانب أساسي من صفات المؤمنين أن أعمالهم تكون خالصةً لله، وأنهم على استحضار تام ليوم القيامة، وما فيها من أهوال تتقلب منها القلوب والأبصار.
وفي ذلك يقول الإمام الطبري: ?يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ? من هوله بين طمع بالنجاة، وحذَّر بالهلاك.. ?وَالأَبْصَار? أي ناحيةٍ يؤخذ بهم، ذات اليمين أم ذات الشمال؛ ومن أين يؤتون كتبهم؟ أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل، وذلك يوم القيامة (23).
وقوله: ?لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا? يقول: فعلوا ذلك يعني: أنهم لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطاعوا ربهم مخافة عذاب يوم القيامة كي يثيبهم الله يوم القيامة بأحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا، ويزيدهم على ثوابه إياهم، على أحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا من فضله، فيفضل عليهم من عنده بما أحب من كرامته لهم.
وقوله: ?وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ? يقول الله تعالى ذكره، يتفضل على مَن شاء وأراد من طوله وكرامته، ما لم يستحقه بعمله، ولم يبلغه بطاعته..
?بِغَيْرِ حِسَابٍ? يقول: بغير محاسبةٍ على ما بذل له وأعطاه (24).
وفي الآية الجزاء على الحسنات ولم يذكر الجزاء على السيئات، وإن كان يجازي عليها؛ لأمرين:
أحدهما: أنه ترغيبٌ، فاقتصر على ذكر الرغبة..
الثاني: أنه في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر، فكانت صغائرهم مغفورة.
وقوله: ?وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ? يحتمل وجهين:
أحدهما: ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها..
الثاني: ما يتفضل به من غير جزاء.
?وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ? أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه، إذ لا نهاية لإعطائه.
روي أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد قباء، فحضر عبد الله بن رواحة فقال: يا رسول الله، قد أفلح من بنى المساجد؟ قال: "نعم يا ابن رواحة".
ال: وصلى فيها قائمًا وقاعدًا؟ قال: "نعم يا ابن رواحة". قال: ولم يبت لله إلا ساجدًا؟ قال: "نعم يا ابن رواحة، وكف عن السجع، فما أٌعطي عبدٌ شيئًا شرًّا من طلاقةٍ في لسانه" (25).
---------
(1) الطبري، جامع البيان، مرجع سابق 9/ 329.
(2) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق 3/282.
(3) المرجع السابق 9/ 331. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 12/175. ابن عادل ، اللباب، مرجع سابق 14/393.
(4) الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، مرجع سابق 2/7. وعزاه إلى الطبراني في الكبير ورجاله موثقون.
(5) المرجع سابق 2 / 23 وعزاه إلي الطبراني في الكبير وهو ضعيف.السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، مرجع سابق 3/391 .
(6) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 12/175. بتصرف.
(7) الطبري، جامع البيان، مرجع سابق 9/329.
(8) الطبري، جامع البيان، مرجع سابق 9/330.
(9) ابن ماجه، سنن ابن ماجه، 1/243/737. المساجد- من بنى لله مسجدًا. عن علي بن أبي طالب.
(10) عبد الرزاق، المصنف، مرجع سابق 1/433/6191. عن أبي هريرة.
ابن أبي شيبة، مصنف ابن أبي شيبة، مرجع سابق 2/366/الصلاة- البصاق في المسجد خطيئة.
(11) ابن ماجه، سنن ابن ماجه، مرجع سابق 1/250 /757. المساجد - تطهير المساجد وتطييبها.
(12) المرجع السابق 1/250 /759. المساجد- تطهير المساجد وتطييبها.
الترمذي، الجامع الصحيح، مرجع سابق 2/489/594. الصلاة - ما ذكر في تطييب المساجد. أبو داود، سنن أبي داود، مرجع سابق 1/122/455. الصلاة- اتخاذ المساجد في الدور.
(13) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 12/176.
الطبري، جامع البيان، مرجع سابق 9/330. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق 3/282.ابن عادل، اللباب، مرجع سابق 14/393. ابن العربي، أحكام القرآن، مرجع سابق 3/405.
(14) الطبري، جامع البيان، مرجع سابق 9/331.
(15) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق 3/284.
(16) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 12/182.
(17) المرجع السابق 9/331.
(18) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق 3/285.
(19) المرجع السابق 12/184.
(20) المرجع السابق 5/94. وعزاه إلى ابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب.
(21) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 12/184.
(22) ابن عادل الدمشقي، اللباب في علوم الكتاب، مرجع سابق 14/397.
(23) المرجع السابق 9/337.
(24) المرجع السابق ونفس الصفحة.
(25) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 12/185
يقول الإمام الطبري في مناسبة الآية لما قبلها: يعني الله نور السماوات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، في بيوت أذن الله أن ترفع (1).
ويقول ابن كثير: لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب؛ وذلك كالقنديل مثلاً ذكر محلها وهي المساجد، التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد (2).
وقوله تعالى: ?فِي بُيُوتٍ? قالوا: إنها المساجد المخصوصة لله تعالى بالعبادة، وأنها تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض (3)، وعن ابن عباس قال: "المساجد بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الأرض" (4)، وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن حقًّا على الله أن يكرم الزائر (5)" (6)، وعن عمرو بن ميمون قال: "أدركتُ أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها" (7).
وقوله تعالى: ?أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ? أذن الله أن تُبنى، وقيل أذن الله أن تُعظَّم (8)، ومنه قوله تعالى: ?وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ? (البقرة: من الآية 127)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من بنى مسجدًا من ماله بنى الله له بيتًا في الجنة" (9).
وقال الحسن البصري وغيره: معنى تُرفع: تُعظَّم ويُرفع شأنها، وتُطهَّر من الأنجاس والأقذار.. ففي الحديث: "إن المسجد لينزوي من النخامة، كما ينزوي الجلد من النار" (10)، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أخرج أذًى من المسجد، بنى الله بيتًا له في الجنة" (11)، وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخذ المساجد في الدور، وأن تطهر وتطيب (12)" (13).
وقوله تعالى: ?يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال? أي يصلي له في هذه البيوت بالغدوات والعشيات رجال. قال ابن عباس: كل تسبيحٍ في القرآن صلاة، ويدل عليه قوله: ?بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال? أي يصلي له فيها بالغداة والعشي؛ يعني بالغدو صلاة الغداة ويعني بالآصال صلاة العصر(14).
هذه الآيات القرآنية تُبيِّن لنا خاصيةً مهمة من خصائص المسلم الصادق، وتتجلى هذه الخاصية في حرصه الشديد على تلبية النداء، وأنه لا ينشغل بطلب الرزق عن طاعة الله، وفي مقدمة الطاعة الصلاة التي هي عمود الإسلام وأساسه المتين، وأن من أقامه فقد أقام الدين ومَن هدمه فقد هدم الدين.
ومن هذه الآية نستفيد أن:
- عمَّار المساجد عزائمهم عالية:
وصف الله عمار بيوته بقوله تعالى: ?رِجَالٌ? والتنكير هنا للتعظيم، يقول ابن كثير: فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية التي صاروا بها عمارًا للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحـيده وتنزيهه كما قال تعالى: ?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ? (الأحزاب: من الآية 23)" (15).
وقال كثيرٌ من الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق، الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا (16) ، فعن ابن مسعود: أنه رأى قومًا من أهل السوق حيث نودي بالصلاة تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: ?لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ? (17).
ويقول ابن كثير: "وقوله تعالى: ?لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ? كقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ? (المنافقون: من الآية 9)، وقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ? (الجمعة: من الآية 9).
والمعنى: لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خيرٌ لهم وأنفع مما في أيديهم؛ لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق، ولهذا قال تعالى: ?لاَ تُلْهِيهِمْ? أي يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم (18).
- سبب اختصاص التجارة بالذكر:
وقد اختصَّ الله التجارة بالذكر؛ لأنها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلاة والطاعات.
المراد بالذكر: حضور الصلاة.. وقيل: عن ذكر الله، بأسمائه الحسنى أي: يوحدونه ويمجدونه (19).
وعن ابن عباس في الآية قال: ضرب الله هذا المثل قوله ?مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ? لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله (20).
وقيل: إن رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما بياعًا، فإذا سمع النداء بالصلاة، فإن كان الميزان بيده طرحه، ولا يضعه وضعًا، وإن كان بالأرض لم يرفعه.. وكان الآخر قينًا يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مطرقته على السندان أبقاها موضوعة، وإن كان قد رفعها ألقاه من وراء ظهره إذا سمع الأذان، فأنزل الله تعالى هذا ثناءً عليهما وعلى مَن اقتدى بهما (21).
?وَإِقَامِ الصَّلَاةِ?: يدل على أن المراد بقوله: ?عَن ذِكْرِ اللَّهِ? غير الصلاة، لأنه يكون تكرارًا، ?وَإِيتَاء الزَّكَاةِ? قيل الزكاة المفروضة قاله ابن عباس، وقال ابن عباس: الزكاة هنا طاعة الله تعالى والإخلاص، إذ ليس لكل مؤمن مال (22).
- رجال المساجد عملهم خالصٌ لله:
فقوله تعالى: ?يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ? فيها تأكيدٌ لجانب أساسي من صفات المؤمنين أن أعمالهم تكون خالصةً لله، وأنهم على استحضار تام ليوم القيامة، وما فيها من أهوال تتقلب منها القلوب والأبصار.
وفي ذلك يقول الإمام الطبري: ?يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ? من هوله بين طمع بالنجاة، وحذَّر بالهلاك.. ?وَالأَبْصَار? أي ناحيةٍ يؤخذ بهم، ذات اليمين أم ذات الشمال؛ ومن أين يؤتون كتبهم؟ أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل، وذلك يوم القيامة (23).
وقوله: ?لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا? يقول: فعلوا ذلك يعني: أنهم لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطاعوا ربهم مخافة عذاب يوم القيامة كي يثيبهم الله يوم القيامة بأحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا، ويزيدهم على ثوابه إياهم، على أحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا من فضله، فيفضل عليهم من عنده بما أحب من كرامته لهم.
وقوله: ?وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ? يقول الله تعالى ذكره، يتفضل على مَن شاء وأراد من طوله وكرامته، ما لم يستحقه بعمله، ولم يبلغه بطاعته..
?بِغَيْرِ حِسَابٍ? يقول: بغير محاسبةٍ على ما بذل له وأعطاه (24).
وفي الآية الجزاء على الحسنات ولم يذكر الجزاء على السيئات، وإن كان يجازي عليها؛ لأمرين:
أحدهما: أنه ترغيبٌ، فاقتصر على ذكر الرغبة..
الثاني: أنه في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر، فكانت صغائرهم مغفورة.
وقوله: ?وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ? يحتمل وجهين:
أحدهما: ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها..
الثاني: ما يتفضل به من غير جزاء.
?وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ? أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه، إذ لا نهاية لإعطائه.
روي أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد قباء، فحضر عبد الله بن رواحة فقال: يا رسول الله، قد أفلح من بنى المساجد؟ قال: "نعم يا ابن رواحة".
ال: وصلى فيها قائمًا وقاعدًا؟ قال: "نعم يا ابن رواحة". قال: ولم يبت لله إلا ساجدًا؟ قال: "نعم يا ابن رواحة، وكف عن السجع، فما أٌعطي عبدٌ شيئًا شرًّا من طلاقةٍ في لسانه" (25).
---------
(1) الطبري، جامع البيان، مرجع سابق 9/ 329.
(2) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق 3/282.
(3) المرجع السابق 9/ 331. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 12/175. ابن عادل ، اللباب، مرجع سابق 14/393.
(4) الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، مرجع سابق 2/7. وعزاه إلى الطبراني في الكبير ورجاله موثقون.
(5) المرجع سابق 2 / 23 وعزاه إلي الطبراني في الكبير وهو ضعيف.السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، مرجع سابق 3/391 .
(6) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 12/175. بتصرف.
(7) الطبري، جامع البيان، مرجع سابق 9/329.
(8) الطبري، جامع البيان، مرجع سابق 9/330.
(9) ابن ماجه، سنن ابن ماجه، 1/243/737. المساجد- من بنى لله مسجدًا. عن علي بن أبي طالب.
(10) عبد الرزاق، المصنف، مرجع سابق 1/433/6191. عن أبي هريرة.
ابن أبي شيبة، مصنف ابن أبي شيبة، مرجع سابق 2/366/الصلاة- البصاق في المسجد خطيئة.
(11) ابن ماجه، سنن ابن ماجه، مرجع سابق 1/250 /757. المساجد - تطهير المساجد وتطييبها.
(12) المرجع السابق 1/250 /759. المساجد- تطهير المساجد وتطييبها.
الترمذي، الجامع الصحيح، مرجع سابق 2/489/594. الصلاة - ما ذكر في تطييب المساجد. أبو داود، سنن أبي داود، مرجع سابق 1/122/455. الصلاة- اتخاذ المساجد في الدور.
(13) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 12/176.
الطبري، جامع البيان، مرجع سابق 9/330. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق 3/282.ابن عادل، اللباب، مرجع سابق 14/393. ابن العربي، أحكام القرآن، مرجع سابق 3/405.
(14) الطبري، جامع البيان، مرجع سابق 9/331.
(15) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق 3/284.
(16) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 12/182.
(17) المرجع السابق 9/331.
(18) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق 3/285.
(19) المرجع السابق 12/184.
(20) المرجع السابق 5/94. وعزاه إلى ابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب.
(21) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 12/184.
(22) ابن عادل الدمشقي، اللباب في علوم الكتاب، مرجع سابق 14/397.
(23) المرجع السابق 9/337.
(24) المرجع السابق ونفس الصفحة.
(25) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق 12/185