حقوق الله تعالى وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم
حقوق الله تعالى وحقوق رسوله (صلى الله عليه وسلم)
(مجلة «الإصلاح» ـ العدد 14)
حسن آيت علجت
إنَّ اللهَ - تبارك وتعالى - خلَقَ الخلْقَ لحِكْمَةٍ سَامِيَةٍ، وغايَةٍ جليلَةٍ؛ ألاَ وهِيَ عِبَادَتُه وطاعَتُه، كما قال سبحانه: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)? [الذاريات]، ثُمَّ أرْسَلَ - جَلَّ في عُلاه - حُشُودًا من الأنبياء والرُّسُلِ إلى خَلْقِهِ، لِيُذَكِّرُوهُم ويأْمُروهُم بما خُلِقوا مِنْ أجْلِه؛ كما قال سبحانه: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)? [الأنبياء]، وقال أيضًا: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ? [النحل]، وختَمَهُم بالرَّسُول الأكْرَمِ، والنَّبيِّ الأعْظَمِ: محمَّدِ ابنِ عبْد الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، فاقْتَدَى بهُداهُم، وسلَكَ سبيلَهُم في الدَّعْوَة إلى عِبَادَة الله وحْدَهُ لا شريك له.
وإنَّ مِنْ مُقْتَضَى هذه العِبَادةِ الَّتي خلقَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - من أجْلِهَا الخلْقَ: معْرِفَةَ حقُوقِ هذا المُرْسِلِ - الَّذي هو اللهُ - عزَّ وجلَّ - - وحُقوقِ رسُولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ والقيامَ بهذه الحُقُوقِ، قِيَامًا لا وَكْسَ فيه ولا شَطَطَ.
ذلك بأنَّ للهِ تعالى حُقُوقًا مُخْتَصَّةً به، لا يجوزُ أنْ يُشْرِكَهُ فيها غيْرُه، ولرَسُولِهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - - أيضًا - حُقُوقًا ثابتَةً، لا يجوزُ أنْ يُبْخَسَها، كَمَا أنَّ هناك حُقُوقًا مُشتَرَكَةً بَيْنَ الله - عزَّ وجلَّ -، وعَبْدِهِ ورسُولِه مُحمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم -.
مِنْ أجْلِ ذلك؛ فإنَّ اللهَ - جلَّ وعَلاَ - كَثيرًا ما يُمَيِّزُ في كتابِه الكريمِ بين هذه الحُقُوقِ، ويفَرِّقُ بَيْنَ مَا فِيهِ حَقٌّ لِلرَّسُولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وَبَيْنَ مَا هُوَ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ - وَحْدَهُ؛ وذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ سبحانه: ?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)? [الفتح]؛ فَالتَّعْزِيرُ لِلرَّسُولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وَالتَّوْقِيرُ - أيضًا - لِلرَّسُولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وَالتَّسْبِيحُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً لِلَّهِ - سبحانه وتعالى -[1].
وقد ذكَر ذلك الإمام البغوي - رحمه الله - في «تفسيره» (7/ 299) فقال:
«?وَتُعَزِّرُوهُ?؛ أيْ: تُعِينُوهُ، وتَنْصُرُوه.
?وَتُوَقِّرُوهُ?: تُعَظِّمُوهُ، وتُفَخِّمُوهُ.
هذه الكِنَايَاتُ راجِعَةٌ إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وها هنا وَقْفٌ.
?وَتُسَبِّحُوهُ?؛ أيْ: تُسَبِّحُوا الله - عزَّ وجلَّ -؛ يُرِيدُ: تُصَلُّوا له.
?بُكْرَةً وَأَصِيلاً?: بالغَدَاةِ، والعَشِيِّ» اهـ.
وَكذلك جاء هذا التَّمْييزُ والتَّفْريقُ بين حقِّ الله - عزَّ وجلَّ -، وحقِّ رسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قَوْلِهِ - عزَّ وجلَّ -: ?وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)? [النور]؛ فَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَالخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ لأنَّ اللهَ - عزَّ وجلَّ - جعَلَ هاتَيْنِ العبادتَيْن القَلْبيَّتَيْن مُخْتَصََّتَيْن به فقال - عزَّ وجلَّ -: ?فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ? [المائدة: 44]، وقال أيضًا: ?فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)? [النحل]، وَقَاَل سبحانه: ?وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)? [البقرة].
وفي هذا جاء قوْلُ نبيِّ الله نوحٍ - عليه السَّلام - لقَوْمِه: ?اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)? [نوح]؛ حيْثُ جَعَلَ - عليه السَّلام - الطَّاعَةَ له، بيْنَما جَعَلَ العِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّه - عزَّ وجلَّ - وَحْدَهُ[2].
ومن بَابَتِهِ أيضًا قوْلُ الله - عزَّ وجلَّ -: ?وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)? [التوبة]؛ فجَعَلَ الإِيتَاءَ لله - عزَّ وجلَّ - والرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ وسببُ ذِكْرِ الرَّسُولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الإِيتَاء هو أنَّه لا يُبَاحُ إلاَّ ما أبَاحَهُ الرَّسُولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ فليْسَ لأحَدٍ أنْ يأخُذَ كُلَّ ما تَيَسَّرَ له، إنْ لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا في الشَّريعة.
فالمُرَادُ بالإيتَاءِ هُنَا هو الإيتاءُ الشَّرْعِيُّ - لا الكونِيُّ -، وهو ما أبَاحَهُ الله سبحانه على لسان رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، كما قال - جلَّ وعلا -: ?وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا? [الحشر]؛ فالحَلالُ ما حلَّلَه الرَّسُولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، والحَرَام ما حرَّمَه الرَّسُولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، والدِّينُ ما شَرَعَهُ الرَّسُول - صلَّى الله عليه وسلَّم -.
وجعل التَّحسُّب بالله - عزَّ وجلَّ - وحْدَهُ، فقال: ?وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ?؛ ولَمْ يَقُلْ: ورسُولُه؛ لأنَّ اللهَ وحدَه كافٍ عَبْدَه، كما قال الله تعالى: ?أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ? [الزمر]، وقال - عزَّ وجلَّ -: ?الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)? [آل عمران]، وقال تعالى: ?يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)? [الأنفال]؛ أيْ: حَسْبُكَ، وحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ: اللهُ - عزَّ وجلَّ -؛ فهو وحْدَهُ كَافِيكُم جميعًا.
ثُمَّ دَعَاهُم إلى أنْ يَقُولُوا: ?سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ? فَذَكَرَ أنَّ الرَّسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُؤْتِيهِم، وأنَّ ذلك مِنْ فَضْلِ اللهِ وحْدَهُ، ولَمْ يَقُلْ: من فَضْلِهِ، وفَضْلِ رَسُولِه.
ثمَُّ ذَكَرَ قوْلَهُم: ?إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ? - ولم يقُلْ: ورسُولُه -؛ فَجَعل الرَّغْبَةَ إلى الله وَحْدَهُ دُونَ ما سِوَاهُ، كَمَا أمَر بذلك سبحانه في قوله: ?فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)? [الشرح][3].
إذا تقرَّرَ هذا؛ فإنَّ أصْلَ الحُقُوقِ الَّتِي لا تنْبَغِي إلاَّ لله - عزَّ وجلَّ -، أنْ يُعْبَدَ ولا يُشْرَكَ به شيءٌ، كما جاء بيانُ ذلك في حديث «الصَّحيحيْن» عنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ؟»، قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ».
وهذا هو دِينُ الله - عزَّ وجلَّ - الَّذي أنْزَلَ به الكُتُب، وأرْسَل به الرُّسُل، إذْ قال سبحانه: ?وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)? [الزخرف]، وهذه هي حقيقةُ الكلمَةِ الطيِّبَة «لا إلَهَ إِلاَّ اللهُ»[4].
وعَلَيْهِ؛ فَإنَّ العِبَادَاتِ بأسْرِهَا - ما تَعَلَّقَ مِنْهَا بالجَوَارِحِ أو بالقَلْبِ - هي مِنْ حُقُوقِ اللهِ - جلَّ وعلا - الَّتي لا تصْلُحُ إلاَّ له سبحانه.
وَمن هذه العِبَادَاتِ: الصَّلاةُ بأَجْزَائِهَا مُجْتَمِعَةً ومتفرِّقَةً - فرْضًا كانتْ أو نَفْلاً -، إذْ هي عِبَادَةٌ لا تصْلُحُ إلاَّ للهِ - عزَّ وجلَّ - وَحْدَهُ؛ فالسُّجُودُ، وَالرُّكُوعُ، وَالتَّسْبيحُ، والدُّعاءُ، وَالقِرَاءَةُ، وَالقِيَامُ، كلُّها حقٌّ لله تعالى وحده، لا يُشَارِكُه فيها أحدٌ.
وبخُصُوصِ السُّجود جاء حديثُ عَبْدِ اللَّهِ ابنِ أَبي أَوْفَى - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ - رضي الله عنه - مِنْ الشَّامِ، سَجَدَ لِلنَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقَالَ: «مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟»، قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ، فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لأَسَاقِفَتِهِمْ، وَبَطَارِقَتِهِمْ، فَوَدِدْتُ في نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «فَلاَ تَفْعَلُوا؛ فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ، لأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ...» الحديث[5].
أمَّا الدُّعاءُ - سَوَاءٌ كَانَ دُعَاءَ العِبَادَةِ، أَوْ دُعَاءَ المَسْأَلَةِ وَالاِسْتِعَانَةِ - فهو حقُّ أكِيدٌ لله - عزَّ وجلَّ - لا يجوزُ صرْفُه لغيْرِه البتَّة، مهْمَا عَلَتْ دَرَجَتُه، وسَمَتْ منْزِلَتُهُ، سواءً كان نبيًّا مُرْسَلاً، أو مَلَكًا مُقَرَّبًا؛ لأنَّ الله تعالى يقول: ?قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)? [الجن]، وَيقُولُ: ?فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)? [غافر]، وَيقولُ أيضًا: ?فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)? [الشعراء]، والآياتُ في هذا لا تُحْصَى كَثْرَةً.
ومن هذه العبادَاتِ أيضًا: الذَّبْحُ - وهو أجَلُّ العبادات الماليَّةِ -؛ فقَدْ قَرَن اللهُ - عزَّ وجلَّ - بيْنَه وبيْنَ الصَّلاة - وهي أجَلُّ العباداتِ البدنيَّة -، وجعَلَ هاتَيْن الشَّعِيَرَتَيْن العَظيمَتَيْن لا تنْبَغِيَان إلاَّ له - جلَّ وعلا -، فقال: ?قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ? [الأنعام]، وقال أيضًا: ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)? [الكوثر]؛ أي: فصلٍّ لربِكَ، وانْحَرْ لربِّكَ وحْدَهُ لا لغَيْرِه.
وفي هذا جاء الحديث الَّذي يرويه الإمامُ مسلم في «صحيحه» (3753) عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبى طَالِبٍ - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ ...» الحديث.
ومن الحقوق الَّتي لا تنبغي إلاَّ لله - عزَّ وجلَّ -: الحَجُّ؛ فقد قال الله سبحانه: ?وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ? [البقرة]؛ وعلى هذا فلا يجوز الحجُّ لقَبْرِ نبيٍّ، ولا رجُلٍ صالِحٍ، ولا لمَشْهَدٍ من المَشَاهِدِ، وكذلك أجْزَاءُ الحجِّ مثل الطَّوَافِ؛ لا يجوزُ الطَّوافُ إلاَّ بالكَعْبَة كَمَا أمَرَ اللهُ - عز وجل - في قوْلِهِ: ?وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)? [الحج]، ولا يُقَبَّلٌُ على وجْهِ الأرْضِ شيءٌ عِبَادةً للهِ إلاَّ الحَجَرَ الأسْوَدَ، ولا يُتَمَسَّحُ إلاَّ بهِ، وبالرُّكْنِ اليَمَانِيِّ، ولا يُسْتَلَمُ الرُّكْنَان الشَّاميَّان - وهُمَا مِنَ البَيْتِ - فَكيْفَ غَيْرُهُما؟![6].
ومن الحُقَوقِ الخَاصَّة بالله - عزَّ وجلَّ -: الحَلِفُ؛ فإنَّه تعْظيمٌ للمَحْلُوفِ به تَعْظِيمًا لا يَلِيقُ إلاَّ بالله جلَّ وعلا؛ لهذا ثَبَتَ من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «مَنْ حَلَفَ بغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ»[7]، وفي رواية أخرى عنه - رضي الله عنه -: «كُلُّ يَمِينٍ يُحْلَفُ بِهَا دُونَ اللهِ: شِرْكٌ»[8].
مِنْ أجْلِ ذلك، قَالَ ابْنُ مسعود - رضي الله عنه -: «لأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ وَأَنَا صَادِقٌ»[9].
ومِنَ الحُقُوقِ الخَاصَّة بالله تعالى: التَّوَكُّلُ، وهي عِبَادَةٌ قلبيَّةٌ عظيمَةٌ لا تَنْبَغِي إلاَّ لله - عزَّ وجلَّ -، كَمَا أمَرَ بذلك سبحانه، فقال - حكاية عن الرُّسل الكرام - عليهم السَّلام - -: ?وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)? [إبراهيم]، وقال أيضًا: ?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)? [المائدة].
• أمَّا الحقُّ الَّذي يختصُّ به الرَّسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، فهو التَّعْزِيرُ والتَّوْقيرُ، كما أمَرَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - بذلك في قوْلِه: ?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ? [الفتح]،وفي قوله سبحانه: ?الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)? [الأعراف].
و«التَّعْزِيرُ اسْمٌ جَامِعٌ لنَصْرِه، وتَأْييدِهِ، ومَنْعِهِ مِنْ كُلِّ ما يُؤْذِيهِ.
والتَّوْقِيرُ اسْمٌ جامِعٌ لِكُلِّ ما فيه سكِينَةٌ، وطُمَأْنِينَةٌ من الإجْلال، والإكْرَام، وأنْ يُعَامَلَ مِنَ التَّشْريفِ، والتَّكْريمِ، والتَّعْظِيم بِمَا يَصُونُهُ عَنْ كُلِّ ما يُخْرِجُه عَنْ حَدِّ الوَقَارِ»[10].
والتَّعْزِيرُ - أيْضًا - مِنْ حُقُوقِ الأَنْبِيَاءِ عامَّةً؛ فقد قَالَ الله - عزَّ وجلَّ - في خِطَابهِ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: ?وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)? [المائدة].
• أمَّا الحُقُوقُ المُشْتَرَكَةُ بَيْنَ اللهِ تعالى، وعبْدِهِ ورسُولِه مُحمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، فهي: الإِيمَانُ، والتَّصْدِيقُ، والمحَبَّةُ، والطَّاعَةُ، والإرْضَاءُ[11].
• أمَّا الإيمَانُ؛ فَلِقَوْلِه - عزَّ وجلَّ -: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا (136)? [النساء]، وقوله أيضًا: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ? [النور]، وقوْلِهِ: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)? [الحجرات]، وقوْلِهِ: ?آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)? [الحديد].
• أمَّا التَّصْدِيقُ؛ فلقَوْلِهِ - عزَّ وجلَّ -: ?وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)? [الأحزاب].
• أمَّا المَحَبَّة؛ فلِقَوْلِهِ - عزَّ وجلَّ -: ?قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)? [التوبة]، ولِمَا جاء في حديثِ «الصَّحيِحَيْن» عَنْ أَنَسِ بن مالك - رضي الله عنه - عَنْ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قَالَ: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا َيُحِبُّهُ إِلاَّ لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».
• أمَّا الطَّاعَةُ فلِقَوْلِهِ - عزَّ وجلَّ -: ?تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)? [النساء]، ولقوله: ?وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)? [النساء]، وقوْلِهِ: ?وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)? [الأحزاب]، ولِقَوْلِه سبحانه: ?وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)? [الفتح].
• أمَّا الإرضاءُ: فلِقَوْله - عزَّ وجلَّ -: ?يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)? [التوبة].
فهذه هي تَفَاصِيلُ الحُقُوقِ الثابتَة لله - عزَّ وجلَّ -، ولِرَسُولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: حَقَّان مُخْتَصَّان، وحقٌّ مُشْتَرَكٌ، فلا ينْبغي لِمُسْلِمٍ أنْ يَجْهَلَهَا، ولا أنْ تَلْتَبِسَ عليه؛ فَيَخْلِطَ بعْضَهَا بِبَعْضٍ، ويجْعَلَ المُخْتَصَّ منها مُشتَرَكًا؛ فيَقَعَ في الغُلُوِّ والإفْراطِ، أو في الإجْحَافِ والتَّقْصِير، وكِلاَ طَرَفَيْ القَصْدِ ذميمٌ، وخيْرُ الأُمُورِ أوْسَاطُها.
وقد لَخَّصَ الإمَامُ الربَّاني، وشَيْخُ الإسلام الثَّاني ابنُ قيِّم الجوزيَّة - رحمه الله - هذه المسألةَ تلْخيصًا شافِيًا، وذلك في قصيدتِه النَّونية في السُّنَّة، والمَوْسومَةِ بـ «الكافية الشَّافية في الاِنْتصَارِ للفِرْقَةِ النَّاجية»؛ فقال:
الرَّبُّ رَبٌّ والرَّسُولُ فَعَبْدُهُ ••• حَقًّا وليْسَ لَنَا إلهٌ ثَاني
فَلِذَاكَ لْم نَعْبُدْهُ مِثْلَ عِبَادَةِ الْـ ••• ـرَّحْمَن فِعْلَ المُشْرِكِ النَّصْرَانِي
كَلاَّ وَلَمْ نَغْلُ الغُلُوَّ كَمَا نَهَى ••• عَنْهُ الرَّسُولُ مَخَافَةَ الكُفْرَانِ
لِلَّهِ حَقٌّ لا يَكُونُ لِغَيْرِهِ ••• وَلِعَبْدِهِ حَقٌّ هُمَا حَقَّانِ
لا تَجْعَلُوا الحَقَّيْنِ حَقًّا وَاحِدًا ••• مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ ولا فُرْقَانِ
فَالْحَجُّ للرَّحْمَنِ دُونَ رَسُولِهِ ••• وَكَذَا الصَّلاَةُ وَذَبْحُ ذَا القُرْبَانِ
وَكَذَا السُّجُودُ ونَذْرُنَا ويَمِينُنَا ••• وكَذَا مَتَابُ العَبْدِ مِنْ عِصْيَانِ
وكَذَا التَّوَكُّلُ والإنَابَةُ والتُّقَى ••• وكَذَا الرَّجَاءُ وَخَشْيَةُ الرَّحْمَنِ
وكَذَا العِبَادَةُ واسْتِعَانَتُنَا بِهِ ••• إِيَّاكَ نَعْبُدُ ذَانِ تَوْحِيدَانِ
وعَلَيْهِمَا قَامَ الوُجُودُ بِأَسْرِه ••• دُنْيَا وأُخْرَى حَبَّذَا الرُّكْنَانِ
وكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ والتَّـ ••• هْلِيلُ حَقُّ إِلَهِنَا الدَّيَّانِ
لَكِنَّمَا التَّعْزِيرُ والتَّوْقِيرُ حَـ ••• ــــقٌّ للرَّسُولِ بِمُقْتَضَى القُرْآنِ
والحُبُّ والإيمَانُ والتَّصْدِيقُ لا ••• يَخْتَصُّ بَلْ حَقَّانِ مُشْتَرِكَانِ
هَذِي تَفَاصِيلُ الحُقُوقِ ثَلاَثَةٌ ••• لا تَجْهَلُوهَا يا أُولِي العُدْوَانِ
والله أعلم بالصَّواب، وإليه المَرْجِعُ والمآب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: «منهاج السُّنَّة النَّبويَّة لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 445 ـ 446، ط: جامعة الإمام).
[2] انظر: «فتاوى ابن تيمية» (1/ 67 - 68)، و (3/ 273).
[3] انظر: «منهاج السنَّة» (2/ 446 - 447)، و «اقتضاء الصِّراط المستقيم» (2/ 365 - 366، ط: العقل)، كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية.
[4] انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية (2/ 364 - 365).
[5] صحيح: رواه ابن ماجة، وابن حبان. انظر: «صحيح الترغيب» (1938).
[6] انظر «منهاج السنة» (2/ 448)، و «الاقتضاء» (2/ 370).
[7] صحيح: رواه الترمذي والحاكم، «الصحيحة» (5/ 69).
[8] صحيح: رواه الحاكم، «الصحيحة» (2042).
[9] صحيح موقوفا: رواه الطبراني وابن أبي شيبة. «صحيح الترغيب» (2953)، «الإرواء» (2562).
[10] قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في «الصَّارم المسلول على شاتم الرَّسول» (ص 427 - ط: المكتب الإسلامي).
[11] انظر: «منهاج السنة» (2/ 447).
من موقع راية الإصلاح.
(مجلة «الإصلاح» ـ العدد 14)
حسن آيت علجت
إنَّ اللهَ - تبارك وتعالى - خلَقَ الخلْقَ لحِكْمَةٍ سَامِيَةٍ، وغايَةٍ جليلَةٍ؛ ألاَ وهِيَ عِبَادَتُه وطاعَتُه، كما قال سبحانه: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)? [الذاريات]، ثُمَّ أرْسَلَ - جَلَّ في عُلاه - حُشُودًا من الأنبياء والرُّسُلِ إلى خَلْقِهِ، لِيُذَكِّرُوهُم ويأْمُروهُم بما خُلِقوا مِنْ أجْلِه؛ كما قال سبحانه: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)? [الأنبياء]، وقال أيضًا: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ? [النحل]، وختَمَهُم بالرَّسُول الأكْرَمِ، والنَّبيِّ الأعْظَمِ: محمَّدِ ابنِ عبْد الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، فاقْتَدَى بهُداهُم، وسلَكَ سبيلَهُم في الدَّعْوَة إلى عِبَادَة الله وحْدَهُ لا شريك له.
وإنَّ مِنْ مُقْتَضَى هذه العِبَادةِ الَّتي خلقَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - من أجْلِهَا الخلْقَ: معْرِفَةَ حقُوقِ هذا المُرْسِلِ - الَّذي هو اللهُ - عزَّ وجلَّ - - وحُقوقِ رسُولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ والقيامَ بهذه الحُقُوقِ، قِيَامًا لا وَكْسَ فيه ولا شَطَطَ.
ذلك بأنَّ للهِ تعالى حُقُوقًا مُخْتَصَّةً به، لا يجوزُ أنْ يُشْرِكَهُ فيها غيْرُه، ولرَسُولِهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - - أيضًا - حُقُوقًا ثابتَةً، لا يجوزُ أنْ يُبْخَسَها، كَمَا أنَّ هناك حُقُوقًا مُشتَرَكَةً بَيْنَ الله - عزَّ وجلَّ -، وعَبْدِهِ ورسُولِه مُحمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم -.
مِنْ أجْلِ ذلك؛ فإنَّ اللهَ - جلَّ وعَلاَ - كَثيرًا ما يُمَيِّزُ في كتابِه الكريمِ بين هذه الحُقُوقِ، ويفَرِّقُ بَيْنَ مَا فِيهِ حَقٌّ لِلرَّسُولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وَبَيْنَ مَا هُوَ لِلَّهِ - عزَّ وجلَّ - وَحْدَهُ؛ وذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ سبحانه: ?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)? [الفتح]؛ فَالتَّعْزِيرُ لِلرَّسُولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وَالتَّوْقِيرُ - أيضًا - لِلرَّسُولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وَالتَّسْبِيحُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً لِلَّهِ - سبحانه وتعالى -[1].
وقد ذكَر ذلك الإمام البغوي - رحمه الله - في «تفسيره» (7/ 299) فقال:
«?وَتُعَزِّرُوهُ?؛ أيْ: تُعِينُوهُ، وتَنْصُرُوه.
?وَتُوَقِّرُوهُ?: تُعَظِّمُوهُ، وتُفَخِّمُوهُ.
هذه الكِنَايَاتُ راجِعَةٌ إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وها هنا وَقْفٌ.
?وَتُسَبِّحُوهُ?؛ أيْ: تُسَبِّحُوا الله - عزَّ وجلَّ -؛ يُرِيدُ: تُصَلُّوا له.
?بُكْرَةً وَأَصِيلاً?: بالغَدَاةِ، والعَشِيِّ» اهـ.
وَكذلك جاء هذا التَّمْييزُ والتَّفْريقُ بين حقِّ الله - عزَّ وجلَّ -، وحقِّ رسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قَوْلِهِ - عزَّ وجلَّ -: ?وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)? [النور]؛ فَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَالخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ لأنَّ اللهَ - عزَّ وجلَّ - جعَلَ هاتَيْنِ العبادتَيْن القَلْبيَّتَيْن مُخْتَصََّتَيْن به فقال - عزَّ وجلَّ -: ?فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ? [المائدة: 44]، وقال أيضًا: ?فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)? [النحل]، وَقَاَل سبحانه: ?وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)? [البقرة].
وفي هذا جاء قوْلُ نبيِّ الله نوحٍ - عليه السَّلام - لقَوْمِه: ?اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)? [نوح]؛ حيْثُ جَعَلَ - عليه السَّلام - الطَّاعَةَ له، بيْنَما جَعَلَ العِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّه - عزَّ وجلَّ - وَحْدَهُ[2].
ومن بَابَتِهِ أيضًا قوْلُ الله - عزَّ وجلَّ -: ?وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)? [التوبة]؛ فجَعَلَ الإِيتَاءَ لله - عزَّ وجلَّ - والرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ وسببُ ذِكْرِ الرَّسُولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الإِيتَاء هو أنَّه لا يُبَاحُ إلاَّ ما أبَاحَهُ الرَّسُولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ فليْسَ لأحَدٍ أنْ يأخُذَ كُلَّ ما تَيَسَّرَ له، إنْ لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا في الشَّريعة.
فالمُرَادُ بالإيتَاءِ هُنَا هو الإيتاءُ الشَّرْعِيُّ - لا الكونِيُّ -، وهو ما أبَاحَهُ الله سبحانه على لسان رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، كما قال - جلَّ وعلا -: ?وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا? [الحشر]؛ فالحَلالُ ما حلَّلَه الرَّسُولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، والحَرَام ما حرَّمَه الرَّسُولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، والدِّينُ ما شَرَعَهُ الرَّسُول - صلَّى الله عليه وسلَّم -.
وجعل التَّحسُّب بالله - عزَّ وجلَّ - وحْدَهُ، فقال: ?وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ?؛ ولَمْ يَقُلْ: ورسُولُه؛ لأنَّ اللهَ وحدَه كافٍ عَبْدَه، كما قال الله تعالى: ?أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ? [الزمر]، وقال - عزَّ وجلَّ -: ?الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)? [آل عمران]، وقال تعالى: ?يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)? [الأنفال]؛ أيْ: حَسْبُكَ، وحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ: اللهُ - عزَّ وجلَّ -؛ فهو وحْدَهُ كَافِيكُم جميعًا.
ثُمَّ دَعَاهُم إلى أنْ يَقُولُوا: ?سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ? فَذَكَرَ أنَّ الرَّسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُؤْتِيهِم، وأنَّ ذلك مِنْ فَضْلِ اللهِ وحْدَهُ، ولَمْ يَقُلْ: من فَضْلِهِ، وفَضْلِ رَسُولِه.
ثمَُّ ذَكَرَ قوْلَهُم: ?إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ? - ولم يقُلْ: ورسُولُه -؛ فَجَعل الرَّغْبَةَ إلى الله وَحْدَهُ دُونَ ما سِوَاهُ، كَمَا أمَر بذلك سبحانه في قوله: ?فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)? [الشرح][3].
إذا تقرَّرَ هذا؛ فإنَّ أصْلَ الحُقُوقِ الَّتِي لا تنْبَغِي إلاَّ لله - عزَّ وجلَّ -، أنْ يُعْبَدَ ولا يُشْرَكَ به شيءٌ، كما جاء بيانُ ذلك في حديث «الصَّحيحيْن» عنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ؟»، قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ».
وهذا هو دِينُ الله - عزَّ وجلَّ - الَّذي أنْزَلَ به الكُتُب، وأرْسَل به الرُّسُل، إذْ قال سبحانه: ?وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)? [الزخرف]، وهذه هي حقيقةُ الكلمَةِ الطيِّبَة «لا إلَهَ إِلاَّ اللهُ»[4].
وعَلَيْهِ؛ فَإنَّ العِبَادَاتِ بأسْرِهَا - ما تَعَلَّقَ مِنْهَا بالجَوَارِحِ أو بالقَلْبِ - هي مِنْ حُقُوقِ اللهِ - جلَّ وعلا - الَّتي لا تصْلُحُ إلاَّ له سبحانه.
وَمن هذه العِبَادَاتِ: الصَّلاةُ بأَجْزَائِهَا مُجْتَمِعَةً ومتفرِّقَةً - فرْضًا كانتْ أو نَفْلاً -، إذْ هي عِبَادَةٌ لا تصْلُحُ إلاَّ للهِ - عزَّ وجلَّ - وَحْدَهُ؛ فالسُّجُودُ، وَالرُّكُوعُ، وَالتَّسْبيحُ، والدُّعاءُ، وَالقِرَاءَةُ، وَالقِيَامُ، كلُّها حقٌّ لله تعالى وحده، لا يُشَارِكُه فيها أحدٌ.
وبخُصُوصِ السُّجود جاء حديثُ عَبْدِ اللَّهِ ابنِ أَبي أَوْفَى - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ - رضي الله عنه - مِنْ الشَّامِ، سَجَدَ لِلنَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقَالَ: «مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟»، قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ، فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لأَسَاقِفَتِهِمْ، وَبَطَارِقَتِهِمْ، فَوَدِدْتُ في نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «فَلاَ تَفْعَلُوا؛ فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ، لأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ...» الحديث[5].
أمَّا الدُّعاءُ - سَوَاءٌ كَانَ دُعَاءَ العِبَادَةِ، أَوْ دُعَاءَ المَسْأَلَةِ وَالاِسْتِعَانَةِ - فهو حقُّ أكِيدٌ لله - عزَّ وجلَّ - لا يجوزُ صرْفُه لغيْرِه البتَّة، مهْمَا عَلَتْ دَرَجَتُه، وسَمَتْ منْزِلَتُهُ، سواءً كان نبيًّا مُرْسَلاً، أو مَلَكًا مُقَرَّبًا؛ لأنَّ الله تعالى يقول: ?قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)? [الجن]، وَيقُولُ: ?فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)? [غافر]، وَيقولُ أيضًا: ?فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)? [الشعراء]، والآياتُ في هذا لا تُحْصَى كَثْرَةً.
ومن هذه العبادَاتِ أيضًا: الذَّبْحُ - وهو أجَلُّ العبادات الماليَّةِ -؛ فقَدْ قَرَن اللهُ - عزَّ وجلَّ - بيْنَه وبيْنَ الصَّلاة - وهي أجَلُّ العباداتِ البدنيَّة -، وجعَلَ هاتَيْن الشَّعِيَرَتَيْن العَظيمَتَيْن لا تنْبَغِيَان إلاَّ له - جلَّ وعلا -، فقال: ?قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ? [الأنعام]، وقال أيضًا: ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)? [الكوثر]؛ أي: فصلٍّ لربِكَ، وانْحَرْ لربِّكَ وحْدَهُ لا لغَيْرِه.
وفي هذا جاء الحديث الَّذي يرويه الإمامُ مسلم في «صحيحه» (3753) عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبى طَالِبٍ - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ ...» الحديث.
ومن الحقوق الَّتي لا تنبغي إلاَّ لله - عزَّ وجلَّ -: الحَجُّ؛ فقد قال الله سبحانه: ?وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ? [البقرة]؛ وعلى هذا فلا يجوز الحجُّ لقَبْرِ نبيٍّ، ولا رجُلٍ صالِحٍ، ولا لمَشْهَدٍ من المَشَاهِدِ، وكذلك أجْزَاءُ الحجِّ مثل الطَّوَافِ؛ لا يجوزُ الطَّوافُ إلاَّ بالكَعْبَة كَمَا أمَرَ اللهُ - عز وجل - في قوْلِهِ: ?وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)? [الحج]، ولا يُقَبَّلٌُ على وجْهِ الأرْضِ شيءٌ عِبَادةً للهِ إلاَّ الحَجَرَ الأسْوَدَ، ولا يُتَمَسَّحُ إلاَّ بهِ، وبالرُّكْنِ اليَمَانِيِّ، ولا يُسْتَلَمُ الرُّكْنَان الشَّاميَّان - وهُمَا مِنَ البَيْتِ - فَكيْفَ غَيْرُهُما؟![6].
ومن الحُقَوقِ الخَاصَّة بالله - عزَّ وجلَّ -: الحَلِفُ؛ فإنَّه تعْظيمٌ للمَحْلُوفِ به تَعْظِيمًا لا يَلِيقُ إلاَّ بالله جلَّ وعلا؛ لهذا ثَبَتَ من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «مَنْ حَلَفَ بغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ»[7]، وفي رواية أخرى عنه - رضي الله عنه -: «كُلُّ يَمِينٍ يُحْلَفُ بِهَا دُونَ اللهِ: شِرْكٌ»[8].
مِنْ أجْلِ ذلك، قَالَ ابْنُ مسعود - رضي الله عنه -: «لأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ وَأَنَا صَادِقٌ»[9].
ومِنَ الحُقُوقِ الخَاصَّة بالله تعالى: التَّوَكُّلُ، وهي عِبَادَةٌ قلبيَّةٌ عظيمَةٌ لا تَنْبَغِي إلاَّ لله - عزَّ وجلَّ -، كَمَا أمَرَ بذلك سبحانه، فقال - حكاية عن الرُّسل الكرام - عليهم السَّلام - -: ?وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)? [إبراهيم]، وقال أيضًا: ?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)? [المائدة].
• أمَّا الحقُّ الَّذي يختصُّ به الرَّسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، فهو التَّعْزِيرُ والتَّوْقيرُ، كما أمَرَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - بذلك في قوْلِه: ?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ? [الفتح]،وفي قوله سبحانه: ?الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)? [الأعراف].
و«التَّعْزِيرُ اسْمٌ جَامِعٌ لنَصْرِه، وتَأْييدِهِ، ومَنْعِهِ مِنْ كُلِّ ما يُؤْذِيهِ.
والتَّوْقِيرُ اسْمٌ جامِعٌ لِكُلِّ ما فيه سكِينَةٌ، وطُمَأْنِينَةٌ من الإجْلال، والإكْرَام، وأنْ يُعَامَلَ مِنَ التَّشْريفِ، والتَّكْريمِ، والتَّعْظِيم بِمَا يَصُونُهُ عَنْ كُلِّ ما يُخْرِجُه عَنْ حَدِّ الوَقَارِ»[10].
والتَّعْزِيرُ - أيْضًا - مِنْ حُقُوقِ الأَنْبِيَاءِ عامَّةً؛ فقد قَالَ الله - عزَّ وجلَّ - في خِطَابهِ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: ?وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)? [المائدة].
• أمَّا الحُقُوقُ المُشْتَرَكَةُ بَيْنَ اللهِ تعالى، وعبْدِهِ ورسُولِه مُحمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، فهي: الإِيمَانُ، والتَّصْدِيقُ، والمحَبَّةُ، والطَّاعَةُ، والإرْضَاءُ[11].
• أمَّا الإيمَانُ؛ فَلِقَوْلِه - عزَّ وجلَّ -: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا (136)? [النساء]، وقوله أيضًا: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ? [النور]، وقوْلِهِ: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)? [الحجرات]، وقوْلِهِ: ?آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)? [الحديد].
• أمَّا التَّصْدِيقُ؛ فلقَوْلِهِ - عزَّ وجلَّ -: ?وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)? [الأحزاب].
• أمَّا المَحَبَّة؛ فلِقَوْلِهِ - عزَّ وجلَّ -: ?قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)? [التوبة]، ولِمَا جاء في حديثِ «الصَّحيِحَيْن» عَنْ أَنَسِ بن مالك - رضي الله عنه - عَنْ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قَالَ: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا َيُحِبُّهُ إِلاَّ لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».
• أمَّا الطَّاعَةُ فلِقَوْلِهِ - عزَّ وجلَّ -: ?تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)? [النساء]، ولقوله: ?وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)? [النساء]، وقوْلِهِ: ?وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)? [الأحزاب]، ولِقَوْلِه سبحانه: ?وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)? [الفتح].
• أمَّا الإرضاءُ: فلِقَوْله - عزَّ وجلَّ -: ?يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)? [التوبة].
فهذه هي تَفَاصِيلُ الحُقُوقِ الثابتَة لله - عزَّ وجلَّ -، ولِرَسُولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: حَقَّان مُخْتَصَّان، وحقٌّ مُشْتَرَكٌ، فلا ينْبغي لِمُسْلِمٍ أنْ يَجْهَلَهَا، ولا أنْ تَلْتَبِسَ عليه؛ فَيَخْلِطَ بعْضَهَا بِبَعْضٍ، ويجْعَلَ المُخْتَصَّ منها مُشتَرَكًا؛ فيَقَعَ في الغُلُوِّ والإفْراطِ، أو في الإجْحَافِ والتَّقْصِير، وكِلاَ طَرَفَيْ القَصْدِ ذميمٌ، وخيْرُ الأُمُورِ أوْسَاطُها.
وقد لَخَّصَ الإمَامُ الربَّاني، وشَيْخُ الإسلام الثَّاني ابنُ قيِّم الجوزيَّة - رحمه الله - هذه المسألةَ تلْخيصًا شافِيًا، وذلك في قصيدتِه النَّونية في السُّنَّة، والمَوْسومَةِ بـ «الكافية الشَّافية في الاِنْتصَارِ للفِرْقَةِ النَّاجية»؛ فقال:
الرَّبُّ رَبٌّ والرَّسُولُ فَعَبْدُهُ ••• حَقًّا وليْسَ لَنَا إلهٌ ثَاني
فَلِذَاكَ لْم نَعْبُدْهُ مِثْلَ عِبَادَةِ الْـ ••• ـرَّحْمَن فِعْلَ المُشْرِكِ النَّصْرَانِي
كَلاَّ وَلَمْ نَغْلُ الغُلُوَّ كَمَا نَهَى ••• عَنْهُ الرَّسُولُ مَخَافَةَ الكُفْرَانِ
لِلَّهِ حَقٌّ لا يَكُونُ لِغَيْرِهِ ••• وَلِعَبْدِهِ حَقٌّ هُمَا حَقَّانِ
لا تَجْعَلُوا الحَقَّيْنِ حَقًّا وَاحِدًا ••• مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ ولا فُرْقَانِ
فَالْحَجُّ للرَّحْمَنِ دُونَ رَسُولِهِ ••• وَكَذَا الصَّلاَةُ وَذَبْحُ ذَا القُرْبَانِ
وَكَذَا السُّجُودُ ونَذْرُنَا ويَمِينُنَا ••• وكَذَا مَتَابُ العَبْدِ مِنْ عِصْيَانِ
وكَذَا التَّوَكُّلُ والإنَابَةُ والتُّقَى ••• وكَذَا الرَّجَاءُ وَخَشْيَةُ الرَّحْمَنِ
وكَذَا العِبَادَةُ واسْتِعَانَتُنَا بِهِ ••• إِيَّاكَ نَعْبُدُ ذَانِ تَوْحِيدَانِ
وعَلَيْهِمَا قَامَ الوُجُودُ بِأَسْرِه ••• دُنْيَا وأُخْرَى حَبَّذَا الرُّكْنَانِ
وكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ والتَّـ ••• هْلِيلُ حَقُّ إِلَهِنَا الدَّيَّانِ
لَكِنَّمَا التَّعْزِيرُ والتَّوْقِيرُ حَـ ••• ــــقٌّ للرَّسُولِ بِمُقْتَضَى القُرْآنِ
والحُبُّ والإيمَانُ والتَّصْدِيقُ لا ••• يَخْتَصُّ بَلْ حَقَّانِ مُشْتَرِكَانِ
هَذِي تَفَاصِيلُ الحُقُوقِ ثَلاَثَةٌ ••• لا تَجْهَلُوهَا يا أُولِي العُدْوَانِ
والله أعلم بالصَّواب، وإليه المَرْجِعُ والمآب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: «منهاج السُّنَّة النَّبويَّة لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 445 ـ 446، ط: جامعة الإمام).
[2] انظر: «فتاوى ابن تيمية» (1/ 67 - 68)، و (3/ 273).
[3] انظر: «منهاج السنَّة» (2/ 446 - 447)، و «اقتضاء الصِّراط المستقيم» (2/ 365 - 366، ط: العقل)، كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية.
[4] انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية (2/ 364 - 365).
[5] صحيح: رواه ابن ماجة، وابن حبان. انظر: «صحيح الترغيب» (1938).
[6] انظر «منهاج السنة» (2/ 448)، و «الاقتضاء» (2/ 370).
[7] صحيح: رواه الترمذي والحاكم، «الصحيحة» (5/ 69).
[8] صحيح: رواه الحاكم، «الصحيحة» (2042).
[9] صحيح موقوفا: رواه الطبراني وابن أبي شيبة. «صحيح الترغيب» (2953)، «الإرواء» (2562).
[10] قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في «الصَّارم المسلول على شاتم الرَّسول» (ص 427 - ط: المكتب الإسلامي).
[11] انظر: «منهاج السنة» (2/ 447).
من موقع راية الإصلاح.