المولدُ النَّبويُّ بين الاتّباع والابْتداع
المولدُ النَّبويُّ بين الاتّباع والابْتداع
الشيخ د. كمال قالمي
ربيع الأول 1429?ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا. من يهدِه الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبدُه ورسوله، صلّى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
أمَّا بعد، فقد ابْتُلِيت الأمَّة الإسلامية منذ دهر طويل بأنواع كثيرة من البدع والمحدثات في الاعتقادات، والأعمال، والأقوال، والمناهج، كانت سببًا في تفرُّقها وضعفها وتشتُّتها أحزابًا وشيعًا، قال الله تعالى: ?فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ? [المؤمنون: 53].
وقد تضافرتْ نصوصُ الكتاب والسنَّة وآثار سلف الأمَّة في النَّهي عن البدع والتَّحذير منها، من ذلك قوله تعالى: ?وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? [الأنعام: 153] فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خطَّ رسول الله رسول خطًّا بيده، ثمَّ قال: «هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا»، قال: ثم خطَّ عن يمينه وشماله، ثم قال: «هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إلاَّ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثم قرأ هذه الآية ?وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ?(1).
قال الإمام ابنُ الماجشون رحمه الله: سمعت مالكًا يقول: «من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنةً، فقد زعم أنَّ محمَّدًا خان الرِّسالة؛ لأن الله يقول: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ? [المائدة:3] فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا»(2).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»(3).
وفي رواية لمسلم: «مَنْ عَملَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وهذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أنَّ حديث «الأعمال بالنّيّات» ميزانٌ للأعمال في باطنها، فكما أنّ كلَّ عمل لا يُراد به وجه الله تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كلّ عمل لا يكون عليه أمرُ الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكلّ من أحدث في الدِّين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدِّين في شيء»(4).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقول: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»(5).
قال الحافظ ابن حجر العسقلانيُّ رحمه الله: «قوله: «كلَّ بدعة ضلالة» قاعدة شرعيَّة كليَّة بمنطوقها ومفهومها، أمَّا منطوقها فكأن يقال: حكم كذا بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، فلا تكن من الشَّرع؛ لأنّ الشَّرعَ كلَّه هدى، فإن ثبت أنَّ الحكم المذكور بدعة صحَّت المقدِّمتان، وأنتجتا المطلوب» اه(6).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ، وَكُلُّ بدعة ضلالة»(7).
والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة، يطول المقام بذكرها.
واعلم ـ أخي القارئ ـ أنَّ من جملة المحدثات التي افْتُتِنَ بها المسلمون ـ قديمًا وحديثًا ـ الاحتفال بالمولد النبويِّ واتخاذه عيدًا يعود عليهم كلَّ سنة ليلة الثَّاني عشر من شهر ربيع الأوّل.
والأدلة على بدعيَّة هذا العمل كثيرة نُجمل بعضها فيما يلي:
1 ـ أنَّه لم يرد في الكتاب ولا في السُّنَّة.
قال العلَّامة تاج الدِّين الفاكهانيّ المالكيُّ (ت 734هـ) رحمه الله: «فقد تكرَّر سؤالُ جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعضُ النَّاس في شهر ربيع الأوَّل، ويسمُّونه المولد، هل له أصل في الشَّرع، أو بدعة وحَدَثٌ في الدِّين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مُبيَّنًا، والإيضاح عنه معيَّنًا.
فقلتُ وبالله التَّوفيق: لا أعلمُ لهذا المولدِ أصلاً في كتابٍ ولا سنَّةٍ، ولا يُنقلُ عملُه عن أحدٍ من علماءِ الأمَّة الَّذين همُ القدوةُ في الدِّين المتمسِّكون بآثار المتقدِّمين، بل هو بدعةٌ أحدثها البطَّالونَ، وشهوةُ نفسٍ اعتنى بها الأكَّالون»(8).
ولا شكَّ أنَّ مولد سيِّد الأنبياء والمرسلين نعمةٌ كبرى ومنَّةٌ عظمى، تفضَّل اللهُ تعالى به على الإنس والجنِّ، ومع ذلك لم ترد الإشارةُ إليه في كتاب الله، وإنَّمَا جاء الامتنان ببعثته صلى الله عليه وسلم لا بمولده كقوله تعالى: ?لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ? [آل عمران: 164]، وقوله: ?هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ? [الجمعة:2]، ومنه قوله تعالى: ?كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ? [الرعد: 30]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأمَّا ما ورد في السُّنَّة في شأنِ يومِ الاثنين ـ وهو يوم ولادته صلى الله عليه وسلم ـ، فإنَّما شُرع فيه الصِّيامُ لا غير، فعن أبي قتادة الأنصاريِّ رضي الله عنه سُئل عن صوم الاثنين؟ فقال: «فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَليَّ» وفي رواية: «وَيَوْمٌ بُعثتُ فِيهِ»(9).
فوافقَ يومُ الاثنين يومَ مبعثِه أيضًا، وهو يوم وفاته، كما سبق.
وهنا إشكالٌ يَرِدُ على أصحاب المولد في حالةِ ما إذا وافق يومُ المولدِ يومَ الاثنين، فقد جاء في «مواهب الجليل»: «قال الشَّيخ زرُّوق: في شرح القرطبيَّة: صيامُ يومِ المولدِ كَرِهه بعضُ مَنْ قَرُب عصرُه مِمَّن صحَّ علمُه وورعُه، وقال: إنَّه من أعيادِ المسلمين فينبغي أن لا يُصامَ فيه»(10).
فخالفوا الهديَ النَّبويّ الكريم من وجهين:
الأوّل: أنَّهم شرعوا عيدًا لم يأذن به اللهُ ولا رسولُه، إذْ لا يُعرفُ في الإسلامِ من الأعيادِ السَّنويّةِ إلاَّ عيدَيْن: عيد الأضحى وعيد الفطر، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المدِينةَ ولهمْ يَومَانِ يَلعَبُونَ فيهما، فقال: «مَا هَذَانِ اليَوْمَانِ؟»، قالوا: كنَّا نلعبُ فيهما في الجاهليَّة، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْم الأَضْحَى وَيَوْم الفِطْرِ»(11).
والوجه الثَّاني: أنَّهم كَرهُوا صِيامَ يومِ الاثنين، وقد صامَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ورغَّب في صومِه.
فأينَ صِدقُ محبَّتهم لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم الَّذي ثمرتُه الاتباع والاقتداء؟!
2 ـ وأنَّه لم يعملْ به أحدٌ من الخلفاء الرَّاشدين والصَّحابةِ والتَّابعين لهم بإحسان، المشهودِ لهم بالخيريَّة، على لسانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولِه: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(12).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إنَّ هذا ـ أي اتخاذ المولد عيدًا ـ لم يفعلْه السَّلفُ مع قيامِ المقتَضِي له، وعَدمِ المانعِ منه»، قال: «ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السَّلفُ رضي الله عنهم أحقَّ به منَّا، فإنَّهم كانوا أشدَّ محبَّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منَّا، وهم على الخير أحرصُ»(13).
ولما أراد الفاروق عمر رضي الله عنه أن يضع للمسلمين تاريخًا استشارَ في ذلك الصَّحابة رضي الله عنهم ، فاتَّفقتْ كلمتُهم على جعلِه من يومِ هجرتِه صلى الله عليه وسلم من مكَّة إلى المدينة.
فعن سَهلِ بن سَعْدٍ رضي الله عنه قال: «ما عَدُّوا من مبعثِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عَدُّوا إلاَّ من مَقْدَمِه المدينةَ»(14).
وعن سَعيدِ بنِ المسيِّبِ قال: «جمع عُمَرُ النَّاسَ فسألهم من أيِّ يوم يُكتبُ التَّاريخُ؟ فقال عليٌّ: مِنْ يومِ هاجرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتركَ أرضَ الشِّرك، ففعلَه عمرُ رضي الله عنه »(15).
قال الحافظُ ابن حَجر: «وقد أبدى بعضُهم للبَدَاءة بالهجرةِ مناسبةً، فقال: كانتْ القضايا التي اتَّفقتْ له ويُمكنُ أن يؤرَّخ بها أربعةٌ: مولدُه، ومبعثُه، وهجرتُه، ووفاتُه؛ فرجَحَ عندهُم جعلُها مِنَ الهجرةِ؛ لأنَّ المولدَ والمبعثَ لا يخلُو واحدٌ منهما من النِّزاع في تعيين السَّنةِ، وأمَّا وقتُ الوفاةِ فأعرضُوا عَنه لِمَا تُوُقِّعَ بذكرِه من الأسفِ عَليه، فانحصرَ في الهجرةِ»(16).
فأنت ترى ـ أخي القارئ ـ أنَّ الصَّحابة الكرام ـ رضوانُ الله عليهم ـ اتَّفقوا على وضْعِ التَّاريخ الإسلامي ابتداءً من تاريخِ الهجرة ، ومع ذلك لم يُنقل عنهم ولا عمَّن بعدَهم من أهل القُرون المفضَّلة أنَّهم اتَّخذوا ذلك الحَدَث الجَلَل عيدًا يحتفلُون به على رأسِ كلِّ سنةٍ، وإنَّما ابتدع الاحتفالَ به الرَّوافضُ من الخُلفاءِ الفاطميِّين في أواخرِ القرنِ الرَّابع الهجريِّ ـ بعد انقراضِ القرون الخيريَّة ـ قال العلَّامة المقريزيُّ رحمه الله: «وكان للخلفَاء الفاطميِّين في طول السَّنة أعيادٌ ومواسم، وهي: موسمُ رأس السَّنة، وموسم أوَّل العام، ويومُ عاشوراء، ومولدُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومولدُ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولدُ الحسن، ومولدُ الحسين، ومولدُ فاطمة الزَّهراء، ومولدُ الخليفة الحاضر...» إلخ أعيادهم البدعيَّة(17).
فأحدث الرَّافضة ـ قبَّحهم الله ـ هذه الأعيادَ التي منها: الاحتفال برأس السَّنة اقتداءً باليهود، والاحتفال بالمولد النَّبويِّ اقتداءً بالنَّصارى، وقد كانت عادتُهم عند الاحتفال بالمولد «أن يُعمل في دار الفطرة عشرون قنطارًا من السُّكر الفائقِ حلوى من طرائفِ الأصنافِ وتُعبَّى في ثلاثمائة صِينِيَّة نُحاس، فإذا كانَ ليلةُ ذلك المولد تُفرَّق في أربابِ الرُّسوم كقاضي القضاة وداعي الدُّعاة وقُرَّاء الحضرة والخطباء والمتصدِّرين بالجوامع بالقاهرة ومصر وقَوَمَةِ المشاهد وغيرهم ممَّن له اسمٌ ثابت بالدِّيوان»(18).
وعنهم تلقَّفها أبو حفص عمر بن محمَّد بن خضر الإِرْبِليّ الموصليّ نزيل دمشق المعروف بالملاّء أحد الصُّوفيَّة (ت570)(19) وبه اقتدى صاحب إِرْبِل (وهي مدينة كبيرة في الموصل بالعراق) الأمير المظفَّر أبو سعيد كُوكُبُريّ بن زين الدِّين علي بن بُكْتِكين التُّركمانيّ (ت630هـ)(20).
وقد كان صاحبُ إرْبِلَ هذا مُسرفًا مبالغًا غاليًا في عمل المولد، حُكي عنه أنَّه كانَ يعملُ المولدَ في خمسة أيَّام من اليومِ الثَّامن إلى اليوم الثَّاني عشرَ من شهر ربيع الأوَّل؛ لأجل الخلافِ في مولدِه صلى الله عليه وسلم!! وقال الحافظ ابن كثير: «قد صنَّف الشَّيخُ أبو الخطَّاب بنُ دِحْية له مجلَّدًا في المولد النَّبويِّ سمَّاه «التَّنْوير في مولد السِّراج المنير»، فأجازه على ذلك بألف دينار»(21).
ويقول سبط ابن الجوزيِّ في «مرآة الزَّمان»: «حكى بعضُ من حضَر سِماط المظَفَّر الموالدَ أنَّه مدَّ في ذلك السِّماط خمسة آلاف رأس شَوِيٍّ! وعشرة آلاف دجاجةٍ! ومائة ألفِ زَبَدِيَّة، وثلاثينَ ألفَ صحنِ حَلْوى، قال: وكان يحضُرُ عنده في المولد أعيانُ العلماء والصُّوفيَّة، فيخلعُ عليهم، ويُطلقُ لهم، ويعمل للصُّوفيَّة سماعًا من الظُّهر إلى الفجر، ويرقُصُ معهم بنفسه!!...»(22).
ولا يزال هذا الاحتفال قائمًا إلى يومنا هذا في كثير من المجتمعات الإسلاميَّة حتَّى آل الأمرُ إلى تعطيلِ الأعمالِ والمدارسِ والدَّوائرِ الحكوميَّةِ باعتبارِه عيدًا شرعيًّا، على اختلافٍ بينهُم في طريقةِ إحيائه، وتنوُّعِ أساليبهم في ذلك، والله المستعان.
3 ـ ومما يؤيِّدُ عدمَ شرعيَّة الاحتفال بيوم المولدِ هو اختلافُ أهلِ السِّيَر والتَّواريخ في تعيين شهرِ وليلةِ ولادتِه صلى الله عليه وسلم على أقوالٍ كثيرةٍ(23).
وعلى القول المشهور أنَّ ولادته صلى الله عليه وسلم كانت في شهر ربيع الأوّل ليلةَ ثِنتي عشرة، يقابلُه أنَّ وفاتَه صلى الله عليه وسلم كانت في ذلك الشَّهر وفي تلكَ اللَّيلة، ولا شكَّ أنَّ وفاتَه صلى الله عليه وسلم كانت أعظمَ المصائب على وجهِ الأرض، فعن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ـ أَوْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ـ أُصِيبَ بمُصيبَة فلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنْ المُصِيبَةِ الَّتي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي»(24).
قال الفاكهانيُّ: «هذا مع أنَّ الشَّهر الذي وُلد فيه صلى الله عليه وسلم ـ وهو ربيع الأوَّل ـ هو بعينِه الشَّهر الذي تُوفي فيه، فليس الفرحُ بأولى من الحزن فيه».
قال ابنُ الحاج: «العجبُ العجيبُ كيفَ يعملون المولدَ بالمغاني والفرح والسّرور ـ كما تقدَّم ـ لأجل مولدِهِ صلى الله عليه وسلم في هذا الشَّهر الكريم، وهو صلى الله عليه وسلم فيه انتقل إلى كرامة ربِّه عزَّ وجلَّ وفُجِعتْ الأمة وأُصيبتْ بمُصابٍ عظيمٍ لا يعدل ذلك غيرها من المصائب أبدًا، فعلى هذا كان يتعيَّن البكاءُ والحزنُ الكثيرُ، وانفراد كلّ إنسانٍ بنفسِه لما أصيب به، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليعزَّى المُسْلِمُونَ فِي مَصَائِبِهِمْ المُصِيبَة بِي» اه(25).
4 أنَّ أكثر ما يُقصد من الاحتفال بالمولد هو إحياءُ الذِّكرى ـ كما يقولُون ـ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في حقّه: ?وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك?، فلا يُذكَرُ اللهُ عزَّ وجلَّ إلاَّ ذُكر معه صلى الله عليه وسلم في التَّشهدِ، والأذانِ، والصَّلواتِ، والخطبِ وغيرِ ذلك، روى ابن جرير الطَّبريُّ عن قتادةَ في تفسير هذه الآية أنَّه قال: «رَفع اللهُ ذكرَه في الدّنيا والآخرة، فليس خطيبٌ ولا متشهِّدٌ، ولا صاحبُ صلاةٍ إلاَّ ينادي بها: أشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وأشهدُ أنَّ محمّدًا رسولُ الله»(26).
وما أجملَ شعرَ حسَّان بن ثابت رضي الله عنه مادحًا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
أغرُّ عليه للنّبوة خاتَم مِنَ الله من نُورٍ يلوحُ ويشهدُ
وضمَّ الإلهُ اسمَ النّبيِّ إلى اسْمِه إذا قال في الخَمْس المؤذِّنُ: أشهدُ
وشقَّ لهُ من اسمه ليُجلَّه فذُو العرْشِ محمودٌ وهذا محمَّدُ
فإذا كان صلى الله عليه وسلم يذكرُ في هذه المواطن الكثيرة على مدار الأيَّامِ والشُّهور، فما فائدةُ تخصيصِ ليلةٍ أو لياليَ معدودةٍ من ثلاثمائةٍ وستِّين يومٍ وليلةٍ بذكرهِ والاحتفالِ به، أليسَ في هذا جفاءٌ في حقِّه وبخلٌ في ذكرِه، فأين دعوى محبَّتِه صلى الله عليه وسلم وتعظيمِه؟!
5 ـ أنَّ في الاحتفالِ بالمولدِ مضاهاةً ومشابهةً لأهل الكتاب في أعيادِهم، كعيدِ ميلادِ المسيحِ عيسى ابن مريم ـ عليه السَّلام ـ عند النَّصارى.
وقد أُمِرْنا بمخالفتهم، ونُهِينا عن تقليدهم والتَّشبهِ بهم ، فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا: يَا رسولَ الله، اليهود والنَّصارى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟!»(27).
وعن ابن عمر رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»(28).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «فيه دلالةٌ على النَّهي الشَّديدِ والتَّهديدِ والوعيدِ على التَّشبه بالكفَّار في أقوالهم وأفعالهم ولباسِهم وأعيادِهم وعباداتِهم وغيرِ ذلك من أمورِهم الَّتي لم تُشْرع لنا ولا نُقَرُّ عليها»(29).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وهذا الحديثُ أقلُّ أحوالِه أن يقتضيَ تحريمَ التَّشبهِ بهم، وإن كان ظاهرُه يقتضِي كفرَ المتشبِّه بهم، كما في قوله: ?وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ? [المائدة: 51]» اه(30).
6 ـ إضافةً إلى ما تقدَّم، ما يحدثُ ليلةَ الاحتفال من المعاصي والمنكراتِ من جانبِ أهلِ اللَّهو والمجونِ، ومن البدعِ والشركيَّاتِ من جانب أهل الزُّرَدِ والصُّحُون.
كإنشادِ القصائدِ والمدائحِ النَّبويَّة، وقراءةِ المؤلَّفاتِ الموضُوعةِ في الموالدِ المشتمِلَة على الغُلوِّ والإطرَاء الَّذي نهى عنه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بقولِه: «لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَم، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه»(31).
بل بلغَ بهم الحدُّ إلى الاستغاثةِ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وادِّعاءِ معرفتِه للغيبِ، إلى غيرِ ذلك ممَّا اشتمَلت عليه قصائدُهم ومصنَّفاتُهم من البدعيَّات والشِّركيَّات، وإلى الله المشتكى.
فهذه ـ أخي القارئ ـ بعضُ الحُجج القاطعةِ والبراهينِ السَّاطعةِ على سبيلِ الإيجازِ والاختصارِ الَّتي تُدينُ أصحابَ الموالدِ بالقولِ ببدعيَّة احتفالهم بيوم المولدِ، وقد عرفتَ منشأَ هذه البدعةِ المنكرةِ، وأنَّها منْ وضْعِ الرَّوافضِ الَّذين أحدثوها مشابهةً لليهودِ ـ ولا عجبَ في ذلك؛ فإنَّ مؤسِّسَ دينِ الرَّافضة هو عبدُ الله بنُ سَبَأ اليَهوديّ ـ ثم أخذها عنهم الصُّوفيَّةُ الَّذين اتَّخذوها عبادةً، واجتهد علماؤهُم في تأييدِها، وبيانِ مشروعيتها، والتماسِ الأدلةِ ـ بل الشُّبه ـ لها، والتَّأليفِ فيها؛ حتَّى صارت عندهُم وكأنَّها شريعةٌ منزَّلة من عندِ الله ربِّ العالمين، وشعيرةٌ شابَ عليها الصَّغيرُ وهَرُم عليها الكبيرُ، ولسانُ حالِهم ـ أو قالهِم ـ يقول كما قال الله تعالى: ?وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا? [الأعراف: 28].
واعلمْ ـ وفَّقكَ الله لهداه ـ أنَّ محبَّةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وتوقيرِه وتعظيمِه تتمثَّلُ في طاعته، وامتثالِ أوامرِه واجتنابِ نواهيه، والتَّسليمِ لأحكامِه، واقتفاءِ أثرِه، والسَّيرِ على طريقتِه، واتِّباعِ هديِه، والتَّأسِّي به ظاهرًا وباطنًا.
قال تعالى: ?قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [آل عمران: 31].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «هذه الآيةُ الكريمةُ حاكمةٌ على كُلِّ من ادَّعى محبَّةَ الله، وليس هو على الطَّريقةِ المحمَّديَّةِ؛ فإنَّه كاذبٌ في دعواه في نفسِ الأمرِ، حتَّى يتبَّع الشَّرع المحمَّديَّ والدِّينَ النَّبويَّ في جميعِ أقوالِه وأفعالِه وأحوالِه... وقال الحسنُ البصريُّ وغيرُه من السَّلف: «زعَمَ قومٌ أنَّهم يحبُّون اللهَ فابتلاهم اللهُ بهذه الآيةِ فقال: ?قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ?(32).
وقال العلاَّمة ابن قيِّم الجوزيّة: «فجعل سبحانه متابعةَ رسولِه سببًا لمحبَّتهم له، وكونُ العبدِ محبوبًا لله أعلى من كونِه مُحِبًّا لله؛ فليس الشَّأنُ أن تُحِبَّ اللهَ، ولكنَّ الشَّأن أنْ يُحِبَّك اللهُ، فالطَّاعةُ للمحبوب عنوانُ مَحَبَّتِه، كما قيل:
تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تَزعُم حُبَّهُ هَذا مُـحالٌ في القِيـاسِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لَأَطَعتَهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُـحِبُّ مُطيعُ»(33).
فـ «الحبُّ الصَّحيحُ لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هو الَّذي يَدَعُ صاحبَه عن البدع، ويحملُه على الاقتداءِ الصَّحيحِ، كما كان السَّلف يحبُّونه، فيُحيُون سُنَنَه، ويَذُودون عن شريعتِه ودينِه، مِنْ غَير أن يُقيموا لهُ الموالدَ وينفقُوا فيها الأموالَ الطَّائلةَ الَّتي تَفتَقِر المصالحُ العامَّةُ إلى القليلِ منها فلا تجدُه»(34).
فالزَمْ ـ رحمني اللهُ وإيّاك ـ ما كانَ عليه الصَّحابةُ والتَّابعونَ منَ السَّلفِ الصَّالحينَ من المحبَّةِ واتِّباعِ سنَّةِ سيِّدِ المُرسَلين، وإيَّاك أن تغترَّ بكثرة الهالكين، فليسوا على شيءٍ حتى يتَّبعوا ما أُنزل إليهم من ربِّ العالمين.
وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) رواه أحمد (1/465)، وابن أبي عاصم في «السنَّة» (17)، والحاكم (2/239) وصحّح إسناده، وحسّن إسناده الألبانيّ في «ظلال الجنَّة في تخريج السُّنَّة».
(2) نقله الشَّاطبي في «الاعتصام» (1/49).
(3) البخاري (2697)، ومسلم (1718).
(4) «جامع العلوم والحكم» (1/176).
(5) مسلم (867).
(6) «فتح الباري» (13/254).
(7) رواه الدَّارمي (205)، والمروزيّ في «السُّنَّة» (78)، والطبرانيُّ (9/154 (8770))، قال الحافظ الهيثميُّ في «مجمع الزوائد» (1/181): «ورجاله رجال الصّحيح».
(8) «المورد في عمل المولد» (ص4) تأليفه.
(9) «صحيح مسلم» (1162).
(10) «مواهب الجليل في شح مختصر خليل» للحطّاب (2/405)، وينظر أيضًا: «حاشية الخُرشيّ على مختصر خليل» (3/18).
(11) رواه أبو داود (1134)، والنَّسائيُّ (1556)، والحاكم (1/294) وصحَّحه على شرط مسلم.
(12) رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533).
(13) «اقتضاءُ الصِّراط المستقيم مخالفةَ أصحابِ الجحيم» (2/619).
(14) رواه البخاريُّ (3934).
(15) رواه الحاكم في «المستدرك» (3/14) وصحَّحه.
(16) «فتح الباري» (7/269)، وللمزيد يراجع «البداية والنهاية» (4/510 ـ 513).
(17) «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» (1/490).
(18) «صبح الأعشى» للقلقشنديّ (3/576).
(19) له ترجمة في «هدية العارفين» (1/784)، و«الأعلام» للزّركلي (5/60).
(20) كما في «الباعث على إنكار البدع والحوادث» لأبي شامة المقدسيّ (ص95 ـ 96).
(21) «البداية والنهاية» (17/205 ـ ط/ التركيّ).
(22) المرجع السَّابق.
(23) انظرها في «لطائف المعارف» لابن رجب (ص 109 111).
(24) رواه ابن ماجه (1599)، وفي سنده موسى بن عُبيدة الرَّبَذِيّ وهو ضعيف، ورواه الدَّارميُّ (84) بإسناد صحيح؛ لكنَّه مرسل، وله شواهد أخرى؛ ولذلك صحَّحه العلَّامة المحدِّث الشَّيخ محمَّد ناصر الدِّين الألباني ـ رحمه الله ـ في «السّلسلة الصّحيحة» برقم (1106).
(25) «المدخل» (2/16 ـ 17).
(26) «تفسير الطبري»: (24/494 ـ ط/التركي).
(27) رواه البخاري (3456)، ومسلم (2669).
(28) رواه أبو داود (4031)، وأحمد (2/50) وغيرهما، وإسناده حسن، كما في «الإرواء» (5/109).
(29) «تفسيره» (1/129).
(30) «اقتضاءُ الصِّراط المستقيم» (1/241).
(31) رواه البخاري (3445)، والإطراء: مجاوزة الحدِّ في المدح والكذب فيه «النهاية في غريب الحديث» (3/123).
(32) «تفسير ابن كثير» (3/46).
(33) «روضة ا لمحبّين» (ص266).
(34) من كلام العلاَّمة محمَّد البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ في «آثاره» (2/341).
منقول من موقع راية الإصلاح http://www.rayatalislah.com
الشيخ د. كمال قالمي
ربيع الأول 1429?ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا. من يهدِه الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبدُه ورسوله، صلّى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
أمَّا بعد، فقد ابْتُلِيت الأمَّة الإسلامية منذ دهر طويل بأنواع كثيرة من البدع والمحدثات في الاعتقادات، والأعمال، والأقوال، والمناهج، كانت سببًا في تفرُّقها وضعفها وتشتُّتها أحزابًا وشيعًا، قال الله تعالى: ?فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ? [المؤمنون: 53].
وقد تضافرتْ نصوصُ الكتاب والسنَّة وآثار سلف الأمَّة في النَّهي عن البدع والتَّحذير منها، من ذلك قوله تعالى: ?وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? [الأنعام: 153] فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خطَّ رسول الله رسول خطًّا بيده، ثمَّ قال: «هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا»، قال: ثم خطَّ عن يمينه وشماله، ثم قال: «هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إلاَّ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثم قرأ هذه الآية ?وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ?(1).
قال الإمام ابنُ الماجشون رحمه الله: سمعت مالكًا يقول: «من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنةً، فقد زعم أنَّ محمَّدًا خان الرِّسالة؛ لأن الله يقول: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ? [المائدة:3] فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا»(2).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»(3).
وفي رواية لمسلم: «مَنْ عَملَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وهذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أنَّ حديث «الأعمال بالنّيّات» ميزانٌ للأعمال في باطنها، فكما أنّ كلَّ عمل لا يُراد به وجه الله تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كلّ عمل لا يكون عليه أمرُ الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكلّ من أحدث في الدِّين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدِّين في شيء»(4).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقول: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»(5).
قال الحافظ ابن حجر العسقلانيُّ رحمه الله: «قوله: «كلَّ بدعة ضلالة» قاعدة شرعيَّة كليَّة بمنطوقها ومفهومها، أمَّا منطوقها فكأن يقال: حكم كذا بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، فلا تكن من الشَّرع؛ لأنّ الشَّرعَ كلَّه هدى، فإن ثبت أنَّ الحكم المذكور بدعة صحَّت المقدِّمتان، وأنتجتا المطلوب» اه(6).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ، وَكُلُّ بدعة ضلالة»(7).
والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة، يطول المقام بذكرها.
واعلم ـ أخي القارئ ـ أنَّ من جملة المحدثات التي افْتُتِنَ بها المسلمون ـ قديمًا وحديثًا ـ الاحتفال بالمولد النبويِّ واتخاذه عيدًا يعود عليهم كلَّ سنة ليلة الثَّاني عشر من شهر ربيع الأوّل.
والأدلة على بدعيَّة هذا العمل كثيرة نُجمل بعضها فيما يلي:
1 ـ أنَّه لم يرد في الكتاب ولا في السُّنَّة.
قال العلَّامة تاج الدِّين الفاكهانيّ المالكيُّ (ت 734هـ) رحمه الله: «فقد تكرَّر سؤالُ جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعضُ النَّاس في شهر ربيع الأوَّل، ويسمُّونه المولد، هل له أصل في الشَّرع، أو بدعة وحَدَثٌ في الدِّين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مُبيَّنًا، والإيضاح عنه معيَّنًا.
فقلتُ وبالله التَّوفيق: لا أعلمُ لهذا المولدِ أصلاً في كتابٍ ولا سنَّةٍ، ولا يُنقلُ عملُه عن أحدٍ من علماءِ الأمَّة الَّذين همُ القدوةُ في الدِّين المتمسِّكون بآثار المتقدِّمين، بل هو بدعةٌ أحدثها البطَّالونَ، وشهوةُ نفسٍ اعتنى بها الأكَّالون»(8).
ولا شكَّ أنَّ مولد سيِّد الأنبياء والمرسلين نعمةٌ كبرى ومنَّةٌ عظمى، تفضَّل اللهُ تعالى به على الإنس والجنِّ، ومع ذلك لم ترد الإشارةُ إليه في كتاب الله، وإنَّمَا جاء الامتنان ببعثته صلى الله عليه وسلم لا بمولده كقوله تعالى: ?لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ? [آل عمران: 164]، وقوله: ?هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ? [الجمعة:2]، ومنه قوله تعالى: ?كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ? [الرعد: 30]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأمَّا ما ورد في السُّنَّة في شأنِ يومِ الاثنين ـ وهو يوم ولادته صلى الله عليه وسلم ـ، فإنَّما شُرع فيه الصِّيامُ لا غير، فعن أبي قتادة الأنصاريِّ رضي الله عنه سُئل عن صوم الاثنين؟ فقال: «فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَليَّ» وفي رواية: «وَيَوْمٌ بُعثتُ فِيهِ»(9).
فوافقَ يومُ الاثنين يومَ مبعثِه أيضًا، وهو يوم وفاته، كما سبق.
وهنا إشكالٌ يَرِدُ على أصحاب المولد في حالةِ ما إذا وافق يومُ المولدِ يومَ الاثنين، فقد جاء في «مواهب الجليل»: «قال الشَّيخ زرُّوق: في شرح القرطبيَّة: صيامُ يومِ المولدِ كَرِهه بعضُ مَنْ قَرُب عصرُه مِمَّن صحَّ علمُه وورعُه، وقال: إنَّه من أعيادِ المسلمين فينبغي أن لا يُصامَ فيه»(10).
فخالفوا الهديَ النَّبويّ الكريم من وجهين:
الأوّل: أنَّهم شرعوا عيدًا لم يأذن به اللهُ ولا رسولُه، إذْ لا يُعرفُ في الإسلامِ من الأعيادِ السَّنويّةِ إلاَّ عيدَيْن: عيد الأضحى وعيد الفطر، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المدِينةَ ولهمْ يَومَانِ يَلعَبُونَ فيهما، فقال: «مَا هَذَانِ اليَوْمَانِ؟»، قالوا: كنَّا نلعبُ فيهما في الجاهليَّة، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْم الأَضْحَى وَيَوْم الفِطْرِ»(11).
والوجه الثَّاني: أنَّهم كَرهُوا صِيامَ يومِ الاثنين، وقد صامَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ورغَّب في صومِه.
فأينَ صِدقُ محبَّتهم لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم الَّذي ثمرتُه الاتباع والاقتداء؟!
2 ـ وأنَّه لم يعملْ به أحدٌ من الخلفاء الرَّاشدين والصَّحابةِ والتَّابعين لهم بإحسان، المشهودِ لهم بالخيريَّة، على لسانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولِه: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(12).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إنَّ هذا ـ أي اتخاذ المولد عيدًا ـ لم يفعلْه السَّلفُ مع قيامِ المقتَضِي له، وعَدمِ المانعِ منه»، قال: «ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السَّلفُ رضي الله عنهم أحقَّ به منَّا، فإنَّهم كانوا أشدَّ محبَّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منَّا، وهم على الخير أحرصُ»(13).
ولما أراد الفاروق عمر رضي الله عنه أن يضع للمسلمين تاريخًا استشارَ في ذلك الصَّحابة رضي الله عنهم ، فاتَّفقتْ كلمتُهم على جعلِه من يومِ هجرتِه صلى الله عليه وسلم من مكَّة إلى المدينة.
فعن سَهلِ بن سَعْدٍ رضي الله عنه قال: «ما عَدُّوا من مبعثِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عَدُّوا إلاَّ من مَقْدَمِه المدينةَ»(14).
وعن سَعيدِ بنِ المسيِّبِ قال: «جمع عُمَرُ النَّاسَ فسألهم من أيِّ يوم يُكتبُ التَّاريخُ؟ فقال عليٌّ: مِنْ يومِ هاجرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتركَ أرضَ الشِّرك، ففعلَه عمرُ رضي الله عنه »(15).
قال الحافظُ ابن حَجر: «وقد أبدى بعضُهم للبَدَاءة بالهجرةِ مناسبةً، فقال: كانتْ القضايا التي اتَّفقتْ له ويُمكنُ أن يؤرَّخ بها أربعةٌ: مولدُه، ومبعثُه، وهجرتُه، ووفاتُه؛ فرجَحَ عندهُم جعلُها مِنَ الهجرةِ؛ لأنَّ المولدَ والمبعثَ لا يخلُو واحدٌ منهما من النِّزاع في تعيين السَّنةِ، وأمَّا وقتُ الوفاةِ فأعرضُوا عَنه لِمَا تُوُقِّعَ بذكرِه من الأسفِ عَليه، فانحصرَ في الهجرةِ»(16).
فأنت ترى ـ أخي القارئ ـ أنَّ الصَّحابة الكرام ـ رضوانُ الله عليهم ـ اتَّفقوا على وضْعِ التَّاريخ الإسلامي ابتداءً من تاريخِ الهجرة ، ومع ذلك لم يُنقل عنهم ولا عمَّن بعدَهم من أهل القُرون المفضَّلة أنَّهم اتَّخذوا ذلك الحَدَث الجَلَل عيدًا يحتفلُون به على رأسِ كلِّ سنةٍ، وإنَّما ابتدع الاحتفالَ به الرَّوافضُ من الخُلفاءِ الفاطميِّين في أواخرِ القرنِ الرَّابع الهجريِّ ـ بعد انقراضِ القرون الخيريَّة ـ قال العلَّامة المقريزيُّ رحمه الله: «وكان للخلفَاء الفاطميِّين في طول السَّنة أعيادٌ ومواسم، وهي: موسمُ رأس السَّنة، وموسم أوَّل العام، ويومُ عاشوراء، ومولدُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومولدُ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولدُ الحسن، ومولدُ الحسين، ومولدُ فاطمة الزَّهراء، ومولدُ الخليفة الحاضر...» إلخ أعيادهم البدعيَّة(17).
فأحدث الرَّافضة ـ قبَّحهم الله ـ هذه الأعيادَ التي منها: الاحتفال برأس السَّنة اقتداءً باليهود، والاحتفال بالمولد النَّبويِّ اقتداءً بالنَّصارى، وقد كانت عادتُهم عند الاحتفال بالمولد «أن يُعمل في دار الفطرة عشرون قنطارًا من السُّكر الفائقِ حلوى من طرائفِ الأصنافِ وتُعبَّى في ثلاثمائة صِينِيَّة نُحاس، فإذا كانَ ليلةُ ذلك المولد تُفرَّق في أربابِ الرُّسوم كقاضي القضاة وداعي الدُّعاة وقُرَّاء الحضرة والخطباء والمتصدِّرين بالجوامع بالقاهرة ومصر وقَوَمَةِ المشاهد وغيرهم ممَّن له اسمٌ ثابت بالدِّيوان»(18).
وعنهم تلقَّفها أبو حفص عمر بن محمَّد بن خضر الإِرْبِليّ الموصليّ نزيل دمشق المعروف بالملاّء أحد الصُّوفيَّة (ت570)(19) وبه اقتدى صاحب إِرْبِل (وهي مدينة كبيرة في الموصل بالعراق) الأمير المظفَّر أبو سعيد كُوكُبُريّ بن زين الدِّين علي بن بُكْتِكين التُّركمانيّ (ت630هـ)(20).
وقد كان صاحبُ إرْبِلَ هذا مُسرفًا مبالغًا غاليًا في عمل المولد، حُكي عنه أنَّه كانَ يعملُ المولدَ في خمسة أيَّام من اليومِ الثَّامن إلى اليوم الثَّاني عشرَ من شهر ربيع الأوَّل؛ لأجل الخلافِ في مولدِه صلى الله عليه وسلم!! وقال الحافظ ابن كثير: «قد صنَّف الشَّيخُ أبو الخطَّاب بنُ دِحْية له مجلَّدًا في المولد النَّبويِّ سمَّاه «التَّنْوير في مولد السِّراج المنير»، فأجازه على ذلك بألف دينار»(21).
ويقول سبط ابن الجوزيِّ في «مرآة الزَّمان»: «حكى بعضُ من حضَر سِماط المظَفَّر الموالدَ أنَّه مدَّ في ذلك السِّماط خمسة آلاف رأس شَوِيٍّ! وعشرة آلاف دجاجةٍ! ومائة ألفِ زَبَدِيَّة، وثلاثينَ ألفَ صحنِ حَلْوى، قال: وكان يحضُرُ عنده في المولد أعيانُ العلماء والصُّوفيَّة، فيخلعُ عليهم، ويُطلقُ لهم، ويعمل للصُّوفيَّة سماعًا من الظُّهر إلى الفجر، ويرقُصُ معهم بنفسه!!...»(22).
ولا يزال هذا الاحتفال قائمًا إلى يومنا هذا في كثير من المجتمعات الإسلاميَّة حتَّى آل الأمرُ إلى تعطيلِ الأعمالِ والمدارسِ والدَّوائرِ الحكوميَّةِ باعتبارِه عيدًا شرعيًّا، على اختلافٍ بينهُم في طريقةِ إحيائه، وتنوُّعِ أساليبهم في ذلك، والله المستعان.
3 ـ ومما يؤيِّدُ عدمَ شرعيَّة الاحتفال بيوم المولدِ هو اختلافُ أهلِ السِّيَر والتَّواريخ في تعيين شهرِ وليلةِ ولادتِه صلى الله عليه وسلم على أقوالٍ كثيرةٍ(23).
وعلى القول المشهور أنَّ ولادته صلى الله عليه وسلم كانت في شهر ربيع الأوّل ليلةَ ثِنتي عشرة، يقابلُه أنَّ وفاتَه صلى الله عليه وسلم كانت في ذلك الشَّهر وفي تلكَ اللَّيلة، ولا شكَّ أنَّ وفاتَه صلى الله عليه وسلم كانت أعظمَ المصائب على وجهِ الأرض، فعن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ـ أَوْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ـ أُصِيبَ بمُصيبَة فلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنْ المُصِيبَةِ الَّتي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي»(24).
قال الفاكهانيُّ: «هذا مع أنَّ الشَّهر الذي وُلد فيه صلى الله عليه وسلم ـ وهو ربيع الأوَّل ـ هو بعينِه الشَّهر الذي تُوفي فيه، فليس الفرحُ بأولى من الحزن فيه».
قال ابنُ الحاج: «العجبُ العجيبُ كيفَ يعملون المولدَ بالمغاني والفرح والسّرور ـ كما تقدَّم ـ لأجل مولدِهِ صلى الله عليه وسلم في هذا الشَّهر الكريم، وهو صلى الله عليه وسلم فيه انتقل إلى كرامة ربِّه عزَّ وجلَّ وفُجِعتْ الأمة وأُصيبتْ بمُصابٍ عظيمٍ لا يعدل ذلك غيرها من المصائب أبدًا، فعلى هذا كان يتعيَّن البكاءُ والحزنُ الكثيرُ، وانفراد كلّ إنسانٍ بنفسِه لما أصيب به، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليعزَّى المُسْلِمُونَ فِي مَصَائِبِهِمْ المُصِيبَة بِي» اه(25).
4 أنَّ أكثر ما يُقصد من الاحتفال بالمولد هو إحياءُ الذِّكرى ـ كما يقولُون ـ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في حقّه: ?وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك?، فلا يُذكَرُ اللهُ عزَّ وجلَّ إلاَّ ذُكر معه صلى الله عليه وسلم في التَّشهدِ، والأذانِ، والصَّلواتِ، والخطبِ وغيرِ ذلك، روى ابن جرير الطَّبريُّ عن قتادةَ في تفسير هذه الآية أنَّه قال: «رَفع اللهُ ذكرَه في الدّنيا والآخرة، فليس خطيبٌ ولا متشهِّدٌ، ولا صاحبُ صلاةٍ إلاَّ ينادي بها: أشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وأشهدُ أنَّ محمّدًا رسولُ الله»(26).
وما أجملَ شعرَ حسَّان بن ثابت رضي الله عنه مادحًا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
أغرُّ عليه للنّبوة خاتَم مِنَ الله من نُورٍ يلوحُ ويشهدُ
وضمَّ الإلهُ اسمَ النّبيِّ إلى اسْمِه إذا قال في الخَمْس المؤذِّنُ: أشهدُ
وشقَّ لهُ من اسمه ليُجلَّه فذُو العرْشِ محمودٌ وهذا محمَّدُ
فإذا كان صلى الله عليه وسلم يذكرُ في هذه المواطن الكثيرة على مدار الأيَّامِ والشُّهور، فما فائدةُ تخصيصِ ليلةٍ أو لياليَ معدودةٍ من ثلاثمائةٍ وستِّين يومٍ وليلةٍ بذكرهِ والاحتفالِ به، أليسَ في هذا جفاءٌ في حقِّه وبخلٌ في ذكرِه، فأين دعوى محبَّتِه صلى الله عليه وسلم وتعظيمِه؟!
5 ـ أنَّ في الاحتفالِ بالمولدِ مضاهاةً ومشابهةً لأهل الكتاب في أعيادِهم، كعيدِ ميلادِ المسيحِ عيسى ابن مريم ـ عليه السَّلام ـ عند النَّصارى.
وقد أُمِرْنا بمخالفتهم، ونُهِينا عن تقليدهم والتَّشبهِ بهم ، فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا: يَا رسولَ الله، اليهود والنَّصارى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟!»(27).
وعن ابن عمر رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»(28).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «فيه دلالةٌ على النَّهي الشَّديدِ والتَّهديدِ والوعيدِ على التَّشبه بالكفَّار في أقوالهم وأفعالهم ولباسِهم وأعيادِهم وعباداتِهم وغيرِ ذلك من أمورِهم الَّتي لم تُشْرع لنا ولا نُقَرُّ عليها»(29).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وهذا الحديثُ أقلُّ أحوالِه أن يقتضيَ تحريمَ التَّشبهِ بهم، وإن كان ظاهرُه يقتضِي كفرَ المتشبِّه بهم، كما في قوله: ?وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ? [المائدة: 51]» اه(30).
6 ـ إضافةً إلى ما تقدَّم، ما يحدثُ ليلةَ الاحتفال من المعاصي والمنكراتِ من جانبِ أهلِ اللَّهو والمجونِ، ومن البدعِ والشركيَّاتِ من جانب أهل الزُّرَدِ والصُّحُون.
كإنشادِ القصائدِ والمدائحِ النَّبويَّة، وقراءةِ المؤلَّفاتِ الموضُوعةِ في الموالدِ المشتمِلَة على الغُلوِّ والإطرَاء الَّذي نهى عنه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بقولِه: «لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَم، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه»(31).
بل بلغَ بهم الحدُّ إلى الاستغاثةِ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وادِّعاءِ معرفتِه للغيبِ، إلى غيرِ ذلك ممَّا اشتمَلت عليه قصائدُهم ومصنَّفاتُهم من البدعيَّات والشِّركيَّات، وإلى الله المشتكى.
فهذه ـ أخي القارئ ـ بعضُ الحُجج القاطعةِ والبراهينِ السَّاطعةِ على سبيلِ الإيجازِ والاختصارِ الَّتي تُدينُ أصحابَ الموالدِ بالقولِ ببدعيَّة احتفالهم بيوم المولدِ، وقد عرفتَ منشأَ هذه البدعةِ المنكرةِ، وأنَّها منْ وضْعِ الرَّوافضِ الَّذين أحدثوها مشابهةً لليهودِ ـ ولا عجبَ في ذلك؛ فإنَّ مؤسِّسَ دينِ الرَّافضة هو عبدُ الله بنُ سَبَأ اليَهوديّ ـ ثم أخذها عنهم الصُّوفيَّةُ الَّذين اتَّخذوها عبادةً، واجتهد علماؤهُم في تأييدِها، وبيانِ مشروعيتها، والتماسِ الأدلةِ ـ بل الشُّبه ـ لها، والتَّأليفِ فيها؛ حتَّى صارت عندهُم وكأنَّها شريعةٌ منزَّلة من عندِ الله ربِّ العالمين، وشعيرةٌ شابَ عليها الصَّغيرُ وهَرُم عليها الكبيرُ، ولسانُ حالِهم ـ أو قالهِم ـ يقول كما قال الله تعالى: ?وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا? [الأعراف: 28].
واعلمْ ـ وفَّقكَ الله لهداه ـ أنَّ محبَّةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وتوقيرِه وتعظيمِه تتمثَّلُ في طاعته، وامتثالِ أوامرِه واجتنابِ نواهيه، والتَّسليمِ لأحكامِه، واقتفاءِ أثرِه، والسَّيرِ على طريقتِه، واتِّباعِ هديِه، والتَّأسِّي به ظاهرًا وباطنًا.
قال تعالى: ?قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [آل عمران: 31].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «هذه الآيةُ الكريمةُ حاكمةٌ على كُلِّ من ادَّعى محبَّةَ الله، وليس هو على الطَّريقةِ المحمَّديَّةِ؛ فإنَّه كاذبٌ في دعواه في نفسِ الأمرِ، حتَّى يتبَّع الشَّرع المحمَّديَّ والدِّينَ النَّبويَّ في جميعِ أقوالِه وأفعالِه وأحوالِه... وقال الحسنُ البصريُّ وغيرُه من السَّلف: «زعَمَ قومٌ أنَّهم يحبُّون اللهَ فابتلاهم اللهُ بهذه الآيةِ فقال: ?قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ?(32).
وقال العلاَّمة ابن قيِّم الجوزيّة: «فجعل سبحانه متابعةَ رسولِه سببًا لمحبَّتهم له، وكونُ العبدِ محبوبًا لله أعلى من كونِه مُحِبًّا لله؛ فليس الشَّأنُ أن تُحِبَّ اللهَ، ولكنَّ الشَّأن أنْ يُحِبَّك اللهُ، فالطَّاعةُ للمحبوب عنوانُ مَحَبَّتِه، كما قيل:
تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تَزعُم حُبَّهُ هَذا مُـحالٌ في القِيـاسِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لَأَطَعتَهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُـحِبُّ مُطيعُ»(33).
فـ «الحبُّ الصَّحيحُ لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هو الَّذي يَدَعُ صاحبَه عن البدع، ويحملُه على الاقتداءِ الصَّحيحِ، كما كان السَّلف يحبُّونه، فيُحيُون سُنَنَه، ويَذُودون عن شريعتِه ودينِه، مِنْ غَير أن يُقيموا لهُ الموالدَ وينفقُوا فيها الأموالَ الطَّائلةَ الَّتي تَفتَقِر المصالحُ العامَّةُ إلى القليلِ منها فلا تجدُه»(34).
فالزَمْ ـ رحمني اللهُ وإيّاك ـ ما كانَ عليه الصَّحابةُ والتَّابعونَ منَ السَّلفِ الصَّالحينَ من المحبَّةِ واتِّباعِ سنَّةِ سيِّدِ المُرسَلين، وإيَّاك أن تغترَّ بكثرة الهالكين، فليسوا على شيءٍ حتى يتَّبعوا ما أُنزل إليهم من ربِّ العالمين.
وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) رواه أحمد (1/465)، وابن أبي عاصم في «السنَّة» (17)، والحاكم (2/239) وصحّح إسناده، وحسّن إسناده الألبانيّ في «ظلال الجنَّة في تخريج السُّنَّة».
(2) نقله الشَّاطبي في «الاعتصام» (1/49).
(3) البخاري (2697)، ومسلم (1718).
(4) «جامع العلوم والحكم» (1/176).
(5) مسلم (867).
(6) «فتح الباري» (13/254).
(7) رواه الدَّارمي (205)، والمروزيّ في «السُّنَّة» (78)، والطبرانيُّ (9/154 (8770))، قال الحافظ الهيثميُّ في «مجمع الزوائد» (1/181): «ورجاله رجال الصّحيح».
(8) «المورد في عمل المولد» (ص4) تأليفه.
(9) «صحيح مسلم» (1162).
(10) «مواهب الجليل في شح مختصر خليل» للحطّاب (2/405)، وينظر أيضًا: «حاشية الخُرشيّ على مختصر خليل» (3/18).
(11) رواه أبو داود (1134)، والنَّسائيُّ (1556)، والحاكم (1/294) وصحَّحه على شرط مسلم.
(12) رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533).
(13) «اقتضاءُ الصِّراط المستقيم مخالفةَ أصحابِ الجحيم» (2/619).
(14) رواه البخاريُّ (3934).
(15) رواه الحاكم في «المستدرك» (3/14) وصحَّحه.
(16) «فتح الباري» (7/269)، وللمزيد يراجع «البداية والنهاية» (4/510 ـ 513).
(17) «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» (1/490).
(18) «صبح الأعشى» للقلقشنديّ (3/576).
(19) له ترجمة في «هدية العارفين» (1/784)، و«الأعلام» للزّركلي (5/60).
(20) كما في «الباعث على إنكار البدع والحوادث» لأبي شامة المقدسيّ (ص95 ـ 96).
(21) «البداية والنهاية» (17/205 ـ ط/ التركيّ).
(22) المرجع السَّابق.
(23) انظرها في «لطائف المعارف» لابن رجب (ص 109 111).
(24) رواه ابن ماجه (1599)، وفي سنده موسى بن عُبيدة الرَّبَذِيّ وهو ضعيف، ورواه الدَّارميُّ (84) بإسناد صحيح؛ لكنَّه مرسل، وله شواهد أخرى؛ ولذلك صحَّحه العلَّامة المحدِّث الشَّيخ محمَّد ناصر الدِّين الألباني ـ رحمه الله ـ في «السّلسلة الصّحيحة» برقم (1106).
(25) «المدخل» (2/16 ـ 17).
(26) «تفسير الطبري»: (24/494 ـ ط/التركي).
(27) رواه البخاري (3456)، ومسلم (2669).
(28) رواه أبو داود (4031)، وأحمد (2/50) وغيرهما، وإسناده حسن، كما في «الإرواء» (5/109).
(29) «تفسيره» (1/129).
(30) «اقتضاءُ الصِّراط المستقيم» (1/241).
(31) رواه البخاري (3445)، والإطراء: مجاوزة الحدِّ في المدح والكذب فيه «النهاية في غريب الحديث» (3/123).
(32) «تفسير ابن كثير» (3/46).
(33) «روضة ا لمحبّين» (ص266).
(34) من كلام العلاَّمة محمَّد البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ في «آثاره» (2/341).
منقول من موقع راية الإصلاح http://www.rayatalislah.com