العاصفة الذكرية
العاصفة الذكرية
بقلم: الدكتور محمد رفعت الإمام
آريف العدد 72 ديسمبر 2003
..........
تمثل إبادة النوع تمثل خطرا أشد ضراوة علي كينونة الجنس البشري بأكمله .ولعل ذلك تمثيل الذكور مما يؤدي إلي خلل نوعي بائن في المنظومة البشرية، ،ولم ينعكس بجلاء في استمرارية اتساع الهوة في الميزان العالمي النوعي بشدة إزاء تتبلور بعد مفاهيمه ومناهجه ونظرياته.
وتتمثل إبادة النوع-وفقا لاصطلاحات النوع البيولوجية-في القتل النظامي الجماعي-أو واسع النطاق-الانتقائي النوعي،وهي ظاهرة تتسم بالتكرارية وتشكل ملمحا للصراع الإنساني بكافة أشكاله منذ وعي البشرية بذاتها.وجدير بالذكر أن اصطلاح (الإبادة النوعية)يعد حديث الميلاد جدا.إذ صاغته الباحثة ماري آن وارين منذ ما يناهز العقدين في كتابها المثير للجدل (الإبادة النوعية :توريطات الانتقاء الجنسي) الصادر عام 1985.وفي هذا الكتاب ،عرفت الإبادة النوعية بأنها (الإفناء العمدي لأشخاص من نوع محدد).بيد أنها حصرت تطبيقات مفهوم الإبادة النوعية في الإبادة ضد الأنثى فقط رغم أنه اصطلاح عام قد يكون فيه الضحايا إناثا وذكورا.وثمة مأزق يعترض هذا المفهوم عندما يكون الضحايا ذكورا مما حدا بفريق من الباحثين الإباديين إلي استخدام اصطلاح (الإبادة الذكرية)عند تعاطي هذه الظاهرة.
ويشير اصطلاح (إبادة النوع)إلي حقيقة أن (متغير النوع) ذو عواقب وخيمة لا تقل ضراوة عن العواقب الناجمة عن الانحيازات العنصرية والدينية والطبقية .وفي هذا الإطار،جدير بالذكر أن(الذكور غير المحاربين)كانوا ولازالوا أكثر الأهداف المتكررة للقتل واسع النطاق ومذابح الإبادة الجماعية وكافة الصراعات والفظاعات وحتي المعاملات السيئة.ولا ريب أن القتل الذكري واسع النطاق-لاسيما لمن هم قادرين علي حمل السلاح-يضرب بجذوره في عمق التاريخ الإنساني.
كما أن أدبيات الصراع الحديث والمعاصر تكشف عن حقيقة جد خطيرة مؤداها اختلال الميزان الديموجرافي الذكري-الأنثوي الذي يميل غالبا-بشدة لانحدار تمثيل الذكور البالغين.ونستطيع اختبار مصداقية هذه الحقيقة في ضوء تداعيات عدة تجارب صراعية شهدها القرن العشرون مثل تطهيرات ستالين في الإتحاد السوفيتي التي تعد أوثق وأضخم وأسوأ إبادة نوعية(ذكرية) شهدها القرن العشرون.
ورغم ان هذه لتطهيرات كانت النموذج الأشهر والأكثر تدميرا للقطاع الذكري السوفيتي ،فإننا نلاحظ مثل هذا الخلل في الميزان الديموجرافي الإندونيسي1965-1966 عندما وصل الأرامل إلي 70% من إجمالي السكان عقب المذابح الإندونيسية .وتمثلت أسوأ نتيجة ديموجرافية تراكمية لإبادة بول بوت(1975-1879)في السيطرة الاستئثارية النسوية علي التركيب الديموجرافي الكمبودي الحديث،ومن المفارقات أن نسبة الكمبيوديات (60-80%-ومعظمهن أرامل داخل بلادهن تعادل نسبة الكمبوديين في المنفي خارج بلادهم.
وبجانب هذه المعضلة الديموجرافية،تكشف مختلف الصراعات إبان العقدين السابقين عن حقيقة جد مهمة مؤداها أن القتل الجماعي،أو علي الأقل واسع النطاق،الانتقائي النوعي الذكري-خاصة من هم قادرين علي القتال-يعد ملمحا ثابتا في كافة هذه الصراعات .
ونستطيع تأكيد هذه الحقيقة من خلال عدد ليس بقليل من الأمثلة :أكراد العراق(1983)،الضحايا السيخ عقب اغتيال أنديرا غاندي(1984)،ممارسات القوات المسلحة في بيرو(1990)وسري لانكا(1991)والبوسنة والهرسك(1992)ورواندا(1997)وكولومبيا(1998)وجامو وكشمير(1999).بيد أن الحالة الكوسوفية تعد الأبرز في إطار الصراع النوعي،فمنذ الساعات الأولي للحرب في كوسوفو(1999)بدأ تكتيك واضح هيمن علي الإستراتيجية العسكرية الصربية :الاعتقال الانتقائي النوعي والقتل الجماعي الذكوري ذوي الإثنية الألبانية لاسيما من هم في سن القتال رغم أن الهجوم الإبادي لنظام ميلسوفيتش قد أصاب قطاعات السكان الا خري قاتلا العديد منهم طاردا مئات الآلاف إلي الدول المجاورة،بيد أن أكثرا لأعمال الوحشية عنفا قد مورست ضد الذكور غير المحاربين سواء بشكل عمدي منظم أم عشوائيا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا،لماذا هذه السيطرة الاستئثارية الذكرية علي ضحايا الصراعات والقتل واسع النطاق؟لاريب ثمة منطق عسكري إزاء تحطيم الذكور القادرين علي القتال في أية جماعة مستهدفة إما كإجراء كاف في حد ذاته أو كمقدمة لاستئصال جذر الجماعة المستهدفة وفروعها.إن الاحتمالية الأرجحية لأن يكون الذكور مقاتلين ربما تعد كافية كي تجلب إليهم الموت.وفي هذا الصدد،جدير بالذكر أن ثمة إبادات تستهدف النخبة تحديدا ..إذ أن النخبة شأنها في شأن (الذكور في سن القتال)يمكن أن تكون مستهدفة في خد ذاتها أو كمرحلة مبكرة من هجوم إبادي مخطط ضد جماعة بأكملها.
إذن يتضح مما سبق ان أغلبية الذكور غير المحاربين لاسيما من هم في سن القتال يشكلون العمود الفقري الذي يستهدفه الخصوم بانتظام في الجماعات البشرية المضادة ويمكنهم نيله بيسر.إذ تمثل هذه الجماعات الذكرية التهديد الأخطر للقوات الغازية وهي ذات الجماعات الأكثر احتمالية لأن تشكل الأداة الكابحة للقوي التي تعمل ضدهم،وفي الحقيقة يعد استهداف (الذكور غير المحاربين)تكتيكا إباديا فاعلا،فعلي العكس من أقرانهم المسلحين،لا يمتلكون وسائل لحماية أنفسهم،ومن ثم يسهل اصطيادهم وإبادتهم بالآلاف إن لم يكن بالملايين.
ولكن ثمة ملاحظة جديرة بالتسجيل هنا مؤداها أن الحرب الحديثة بشموليتها وجرائميتها وسعت دائرة " النوعية الذكرية " بتخطيها حدود المعدل العمري لمن هم قادرين علي القتال. إذ أن الذكور كبار السن- علي عكس النسا ء كبيرات السن- يتميزون باحتمالية اللحاق بالحرب. وينطبق ذات المنطق علي الأطفال- جنود المستقبل. وهكذا فغن تكرارية واستمرارية ونظامية الضحوية النوعية الذكرية في الأيديولوجيات الصراعية تنبثق من معادلة مهمة مفادها أن الذكورة تعني القتال ولكنها ليست بأي حال من الأحوال ظاهرة ل" كره الرجال".
بقلم: الدكتور محمد رفعت الإمام
آريف العدد 72 ديسمبر 2003
..........
تمثل إبادة النوع تمثل خطرا أشد ضراوة علي كينونة الجنس البشري بأكمله .ولعل ذلك تمثيل الذكور مما يؤدي إلي خلل نوعي بائن في المنظومة البشرية، ،ولم ينعكس بجلاء في استمرارية اتساع الهوة في الميزان العالمي النوعي بشدة إزاء تتبلور بعد مفاهيمه ومناهجه ونظرياته.
وتتمثل إبادة النوع-وفقا لاصطلاحات النوع البيولوجية-في القتل النظامي الجماعي-أو واسع النطاق-الانتقائي النوعي،وهي ظاهرة تتسم بالتكرارية وتشكل ملمحا للصراع الإنساني بكافة أشكاله منذ وعي البشرية بذاتها.وجدير بالذكر أن اصطلاح (الإبادة النوعية)يعد حديث الميلاد جدا.إذ صاغته الباحثة ماري آن وارين منذ ما يناهز العقدين في كتابها المثير للجدل (الإبادة النوعية :توريطات الانتقاء الجنسي) الصادر عام 1985.وفي هذا الكتاب ،عرفت الإبادة النوعية بأنها (الإفناء العمدي لأشخاص من نوع محدد).بيد أنها حصرت تطبيقات مفهوم الإبادة النوعية في الإبادة ضد الأنثى فقط رغم أنه اصطلاح عام قد يكون فيه الضحايا إناثا وذكورا.وثمة مأزق يعترض هذا المفهوم عندما يكون الضحايا ذكورا مما حدا بفريق من الباحثين الإباديين إلي استخدام اصطلاح (الإبادة الذكرية)عند تعاطي هذه الظاهرة.
ويشير اصطلاح (إبادة النوع)إلي حقيقة أن (متغير النوع) ذو عواقب وخيمة لا تقل ضراوة عن العواقب الناجمة عن الانحيازات العنصرية والدينية والطبقية .وفي هذا الإطار،جدير بالذكر أن(الذكور غير المحاربين)كانوا ولازالوا أكثر الأهداف المتكررة للقتل واسع النطاق ومذابح الإبادة الجماعية وكافة الصراعات والفظاعات وحتي المعاملات السيئة.ولا ريب أن القتل الذكري واسع النطاق-لاسيما لمن هم قادرين علي حمل السلاح-يضرب بجذوره في عمق التاريخ الإنساني.
كما أن أدبيات الصراع الحديث والمعاصر تكشف عن حقيقة جد خطيرة مؤداها اختلال الميزان الديموجرافي الذكري-الأنثوي الذي يميل غالبا-بشدة لانحدار تمثيل الذكور البالغين.ونستطيع اختبار مصداقية هذه الحقيقة في ضوء تداعيات عدة تجارب صراعية شهدها القرن العشرون مثل تطهيرات ستالين في الإتحاد السوفيتي التي تعد أوثق وأضخم وأسوأ إبادة نوعية(ذكرية) شهدها القرن العشرون.
ورغم ان هذه لتطهيرات كانت النموذج الأشهر والأكثر تدميرا للقطاع الذكري السوفيتي ،فإننا نلاحظ مثل هذا الخلل في الميزان الديموجرافي الإندونيسي1965-1966 عندما وصل الأرامل إلي 70% من إجمالي السكان عقب المذابح الإندونيسية .وتمثلت أسوأ نتيجة ديموجرافية تراكمية لإبادة بول بوت(1975-1879)في السيطرة الاستئثارية النسوية علي التركيب الديموجرافي الكمبودي الحديث،ومن المفارقات أن نسبة الكمبيوديات (60-80%-ومعظمهن أرامل داخل بلادهن تعادل نسبة الكمبوديين في المنفي خارج بلادهم.
وبجانب هذه المعضلة الديموجرافية،تكشف مختلف الصراعات إبان العقدين السابقين عن حقيقة جد مهمة مؤداها أن القتل الجماعي،أو علي الأقل واسع النطاق،الانتقائي النوعي الذكري-خاصة من هم قادرين علي القتال-يعد ملمحا ثابتا في كافة هذه الصراعات .
ونستطيع تأكيد هذه الحقيقة من خلال عدد ليس بقليل من الأمثلة :أكراد العراق(1983)،الضحايا السيخ عقب اغتيال أنديرا غاندي(1984)،ممارسات القوات المسلحة في بيرو(1990)وسري لانكا(1991)والبوسنة والهرسك(1992)ورواندا(1997)وكولومبيا(1998)وجامو وكشمير(1999).بيد أن الحالة الكوسوفية تعد الأبرز في إطار الصراع النوعي،فمنذ الساعات الأولي للحرب في كوسوفو(1999)بدأ تكتيك واضح هيمن علي الإستراتيجية العسكرية الصربية :الاعتقال الانتقائي النوعي والقتل الجماعي الذكوري ذوي الإثنية الألبانية لاسيما من هم في سن القتال رغم أن الهجوم الإبادي لنظام ميلسوفيتش قد أصاب قطاعات السكان الا خري قاتلا العديد منهم طاردا مئات الآلاف إلي الدول المجاورة،بيد أن أكثرا لأعمال الوحشية عنفا قد مورست ضد الذكور غير المحاربين سواء بشكل عمدي منظم أم عشوائيا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا،لماذا هذه السيطرة الاستئثارية الذكرية علي ضحايا الصراعات والقتل واسع النطاق؟لاريب ثمة منطق عسكري إزاء تحطيم الذكور القادرين علي القتال في أية جماعة مستهدفة إما كإجراء كاف في حد ذاته أو كمقدمة لاستئصال جذر الجماعة المستهدفة وفروعها.إن الاحتمالية الأرجحية لأن يكون الذكور مقاتلين ربما تعد كافية كي تجلب إليهم الموت.وفي هذا الصدد،جدير بالذكر أن ثمة إبادات تستهدف النخبة تحديدا ..إذ أن النخبة شأنها في شأن (الذكور في سن القتال)يمكن أن تكون مستهدفة في خد ذاتها أو كمرحلة مبكرة من هجوم إبادي مخطط ضد جماعة بأكملها.
إذن يتضح مما سبق ان أغلبية الذكور غير المحاربين لاسيما من هم في سن القتال يشكلون العمود الفقري الذي يستهدفه الخصوم بانتظام في الجماعات البشرية المضادة ويمكنهم نيله بيسر.إذ تمثل هذه الجماعات الذكرية التهديد الأخطر للقوات الغازية وهي ذات الجماعات الأكثر احتمالية لأن تشكل الأداة الكابحة للقوي التي تعمل ضدهم،وفي الحقيقة يعد استهداف (الذكور غير المحاربين)تكتيكا إباديا فاعلا،فعلي العكس من أقرانهم المسلحين،لا يمتلكون وسائل لحماية أنفسهم،ومن ثم يسهل اصطيادهم وإبادتهم بالآلاف إن لم يكن بالملايين.
ولكن ثمة ملاحظة جديرة بالتسجيل هنا مؤداها أن الحرب الحديثة بشموليتها وجرائميتها وسعت دائرة " النوعية الذكرية " بتخطيها حدود المعدل العمري لمن هم قادرين علي القتال. إذ أن الذكور كبار السن- علي عكس النسا ء كبيرات السن- يتميزون باحتمالية اللحاق بالحرب. وينطبق ذات المنطق علي الأطفال- جنود المستقبل. وهكذا فغن تكرارية واستمرارية ونظامية الضحوية النوعية الذكرية في الأيديولوجيات الصراعية تنبثق من معادلة مهمة مفادها أن الذكورة تعني القتال ولكنها ليست بأي حال من الأحوال ظاهرة ل" كره الرجال".