الأرمن والغرب والإسلام
الأرمن و الغرب و الإسلام
بقلم : الدكتور محمد رفعت الإمام
آريف- العدد 131- نوفمبر2008
............
عن مركز الدراسات الأرمنية بكلية الآداب جامعة القاهرة ، صدر لي مؤخرا أحدث دراساتي تحت عنوان: ( الأرمن والغرب والإسلام : جناة وضحايا ومتهمون) في 164 صفحة من القطع المتوسط. ويركز الكتاب علي رؤية الغرب لموقع الدين( الإسلام) ودوره في مذابح الأرمن العثمانيين زمن عبد الحميد الثاني 1894- 1896 من خلال قراءة النصوص المعاصرة التي تناولتها . وتجدر الإشارة إلي أن هذه النصوص قد أخرجت المذابح الأرمنية من نسقها الصراعي بأبعاده الاجتماعية- الاقتصادية والسياسية وأدخلها في إطار ديني مؤداه : صراع الإسلام ضد المسيحية . وقد تمخضت الدراسة عن تركيب الصورة التي بمقتضاها اتسمت الأزمة الأرمنية مع النظام العثماني بالعنف والدموية واكتسبت ثوبا دينيا علي النحو الآتي:
في البدء، لم يكن القرن التاسع عشر قرنا للهزائم العثمانية العسكرية فقط، و لكنه كان قرن "تحجيم العثمانيين و جرح عزة نفوسهم و كرامتهم". إذ أن ثورات الأقليات المسيحية، وتدخل الغرب لصالحهم، قد أفضى إلى "انسلاخات" متتالية عن الجسد العثماني . ومن ثم ، أصبحت المسألة القومية للأقليات قضية محورية في السياسة العثمانية ، و صار كل مطالب خاص بهم يعني في المنظور العثماني "خطوة نحو الأمام لتقطيع أوصال الدولة".
وفي خط متواز مع الهزائم العسكرية و ضياع الأرض، لم يكن القرن التاسع عشر هو قرن "المذابح المسيحية" و حدها ، بل شهد أيضا "المذابح الكبيرة ضد الشعوب المسلمة". و قد استقر معظم الناجين من هذه المذابح في الأناضول و بالذات في المناطق المأهولة بالأرمن "و لم يزيحوا عن أنفاسهم بتاتا شعور الأخذ بالثأر بسبب ما لاقوه". ولذا، غدوا جلادين متطوعين لإفناء الأقليات الأخرى بشكل جماعي ، و على رأسهم الأرمن . و في خضم هذه التفاعلات و الانفعالات التي أحاطت بالنظام العثماني من رأسه حتى إخمص قدميه، تصاعد الشعور تجاه الأقليات المسيحية من مجرد "نفور" إلى "كراهية" سافرة.
ومما زاد في تصعيد الكراهية ضد الأقليات المسيحية أن النظام العثماني لم يستوعب مطالبها القومية و روج "إشاعات سلبية جدا" عن ثوراتها الشعبية و صرح فقط عن "القتلى المسلمين". أكثر من هذا ، صورها على أنهم امتداد للاستعمار الغربي و رأسماليته التي تقف خلف كل السكان غير المسلكين. وبذا ، نظر العثمانيون إلى المسحيين على أنهم دمار دولتهم و القوى التي تريد اغتصاب قوتهم. وفي لحظة يشعر فيها النظام العثماني بأفول نجمه، ما برح يلجأ إلى العنف تشبثا ببقائه.
وفي الاتجاه المعاكس، يجب الإقرار بأن الغرب قد بالغ في بياناته عن مذابح الأقليات المسيحية و تعاطاها من منظور أحادي متجاهلا مذابح المسلمين. و بذا، انشغل الرأي العام الغربي بما جرى للمسيحيين دون النظر إلى ما يجرى للمسلمين. هنا ، هيأت الأقليات المسيحية الظروف القوية لتدخل الغرب في الشأن العثماني الداخلي. وفي هذا المجرى ، استخدم الغرب حجة "الإصدارات" مرة و حجة "الإنسانية" مرات وحجة "الدين" مرات و مرات كوسائل لبلوغ مآربه. ولذا، كان تبرير النظام العثماني لسلوكه العنيف رسميا و شعبيا ضد الأقليات المسيحية من منطلق رد فعل حتمي و طبيعي لأفعالهم "الخطيرة".
على أي حال، تشكل المشهد العثماني إبان العقد الأخير من القرن التاسع عشر و تحديدا في منتصفه-زمن المذابح الأرمنية- من المفردات التالية: الهلع من زوال الدولة والسيادة، تقطيع أوصال الدولة على أيدي القوى الخارجية، الشعور بمس الكرامة و التحقير، القهر المستمر و النظرة إلى النظام العثماني بمثابة ابن غير شرعي للتاريخ، تجاهل المسلمين و التركيز على المسيحيين.
ولذا، أصبح منع تفكيك الدولة و تقطيع أوصالها على قمة المسائل الجوهرية التي شغلت بال النظام العثماني حكومة و رعية، و تمخض عن كل ما سبق تجذير فكرة التوحيد من أجل الحيلولة دون النهاية المأسوية للدولة العثمانية. وهنا، كانت "الجامعة الإسلامية" حلا مثاليا إنقاذ الدولة من مصيرها المرتقب . و من ثم ، نظر النظام العثماني إلى كطالب الأقليات المسيحية ، لاسيما الأرمن في شرق الأناضول ، على أنها تمثل تهديدا حقيقيا على كيانه. وبذا، وضعت الإدارة العثمانية تنفيذ "الإصلاحات الأرمنية" في خانة "إما البقاء و إما الفناء" و هيمنت عليها فكرة أن الشعب من رعاياها يتوق إلى الاستقلال الذاتي ثم الانفصال التام.
و في هذا المنحى، لجأت إلى تأجيج النعرات الدينية في فترة شهدت تأصيل الاعتقادات بأن النظام العثماني مستهدف من "العالم المسيحي". و في عين اللحظة ، ساد الاعتقاد بأن الأرمن هم الامتداد الداخلي للأعداء و يسعون للاستيلاء على قلب الدولة العثمانية ، أي الأناضول.
وهكذا ، أقحم المتصارعون الدين ، إسلاما كان أم مسيحية، في اللعبة السياسية بدءا من الأقليات المسيحية و مرورا بالنظام العثماني و انتهاء بالغرب. و العكس كذلك . و مع هذا ، أسهم وبوعي- قطبا الصراع الكبيرين و هما الغرب و النظام العثماني في تعقيد القضية الأرمنية عندما أخرجاها من إطارها الإداري البسيط و أدخلاها في معترك معقد قوامه صراع الإسلام ضد المسيحية ما لبث أن تمخض عنه خاسر واحد و وحيد هو الشعب الأرمني ذاته بعد عقدين من الزمان عندما اقترف النظام التحادي الحاكم بالدولة العثمانية أول "إبادة جنس" جماعية في القرن العشرين.
بقلم : الدكتور محمد رفعت الإمام
آريف- العدد 131- نوفمبر2008
............
عن مركز الدراسات الأرمنية بكلية الآداب جامعة القاهرة ، صدر لي مؤخرا أحدث دراساتي تحت عنوان: ( الأرمن والغرب والإسلام : جناة وضحايا ومتهمون) في 164 صفحة من القطع المتوسط. ويركز الكتاب علي رؤية الغرب لموقع الدين( الإسلام) ودوره في مذابح الأرمن العثمانيين زمن عبد الحميد الثاني 1894- 1896 من خلال قراءة النصوص المعاصرة التي تناولتها . وتجدر الإشارة إلي أن هذه النصوص قد أخرجت المذابح الأرمنية من نسقها الصراعي بأبعاده الاجتماعية- الاقتصادية والسياسية وأدخلها في إطار ديني مؤداه : صراع الإسلام ضد المسيحية . وقد تمخضت الدراسة عن تركيب الصورة التي بمقتضاها اتسمت الأزمة الأرمنية مع النظام العثماني بالعنف والدموية واكتسبت ثوبا دينيا علي النحو الآتي:
في البدء، لم يكن القرن التاسع عشر قرنا للهزائم العثمانية العسكرية فقط، و لكنه كان قرن "تحجيم العثمانيين و جرح عزة نفوسهم و كرامتهم". إذ أن ثورات الأقليات المسيحية، وتدخل الغرب لصالحهم، قد أفضى إلى "انسلاخات" متتالية عن الجسد العثماني . ومن ثم ، أصبحت المسألة القومية للأقليات قضية محورية في السياسة العثمانية ، و صار كل مطالب خاص بهم يعني في المنظور العثماني "خطوة نحو الأمام لتقطيع أوصال الدولة".
وفي خط متواز مع الهزائم العسكرية و ضياع الأرض، لم يكن القرن التاسع عشر هو قرن "المذابح المسيحية" و حدها ، بل شهد أيضا "المذابح الكبيرة ضد الشعوب المسلمة". و قد استقر معظم الناجين من هذه المذابح في الأناضول و بالذات في المناطق المأهولة بالأرمن "و لم يزيحوا عن أنفاسهم بتاتا شعور الأخذ بالثأر بسبب ما لاقوه". ولذا، غدوا جلادين متطوعين لإفناء الأقليات الأخرى بشكل جماعي ، و على رأسهم الأرمن . و في خضم هذه التفاعلات و الانفعالات التي أحاطت بالنظام العثماني من رأسه حتى إخمص قدميه، تصاعد الشعور تجاه الأقليات المسيحية من مجرد "نفور" إلى "كراهية" سافرة.
ومما زاد في تصعيد الكراهية ضد الأقليات المسيحية أن النظام العثماني لم يستوعب مطالبها القومية و روج "إشاعات سلبية جدا" عن ثوراتها الشعبية و صرح فقط عن "القتلى المسلمين". أكثر من هذا ، صورها على أنهم امتداد للاستعمار الغربي و رأسماليته التي تقف خلف كل السكان غير المسلكين. وبذا ، نظر العثمانيون إلى المسحيين على أنهم دمار دولتهم و القوى التي تريد اغتصاب قوتهم. وفي لحظة يشعر فيها النظام العثماني بأفول نجمه، ما برح يلجأ إلى العنف تشبثا ببقائه.
وفي الاتجاه المعاكس، يجب الإقرار بأن الغرب قد بالغ في بياناته عن مذابح الأقليات المسيحية و تعاطاها من منظور أحادي متجاهلا مذابح المسلمين. و بذا، انشغل الرأي العام الغربي بما جرى للمسيحيين دون النظر إلى ما يجرى للمسلمين. هنا ، هيأت الأقليات المسيحية الظروف القوية لتدخل الغرب في الشأن العثماني الداخلي. وفي هذا المجرى ، استخدم الغرب حجة "الإصدارات" مرة و حجة "الإنسانية" مرات وحجة "الدين" مرات و مرات كوسائل لبلوغ مآربه. ولذا، كان تبرير النظام العثماني لسلوكه العنيف رسميا و شعبيا ضد الأقليات المسيحية من منطلق رد فعل حتمي و طبيعي لأفعالهم "الخطيرة".
على أي حال، تشكل المشهد العثماني إبان العقد الأخير من القرن التاسع عشر و تحديدا في منتصفه-زمن المذابح الأرمنية- من المفردات التالية: الهلع من زوال الدولة والسيادة، تقطيع أوصال الدولة على أيدي القوى الخارجية، الشعور بمس الكرامة و التحقير، القهر المستمر و النظرة إلى النظام العثماني بمثابة ابن غير شرعي للتاريخ، تجاهل المسلمين و التركيز على المسيحيين.
ولذا، أصبح منع تفكيك الدولة و تقطيع أوصالها على قمة المسائل الجوهرية التي شغلت بال النظام العثماني حكومة و رعية، و تمخض عن كل ما سبق تجذير فكرة التوحيد من أجل الحيلولة دون النهاية المأسوية للدولة العثمانية. وهنا، كانت "الجامعة الإسلامية" حلا مثاليا إنقاذ الدولة من مصيرها المرتقب . و من ثم ، نظر النظام العثماني إلى كطالب الأقليات المسيحية ، لاسيما الأرمن في شرق الأناضول ، على أنها تمثل تهديدا حقيقيا على كيانه. وبذا، وضعت الإدارة العثمانية تنفيذ "الإصلاحات الأرمنية" في خانة "إما البقاء و إما الفناء" و هيمنت عليها فكرة أن الشعب من رعاياها يتوق إلى الاستقلال الذاتي ثم الانفصال التام.
و في هذا المنحى، لجأت إلى تأجيج النعرات الدينية في فترة شهدت تأصيل الاعتقادات بأن النظام العثماني مستهدف من "العالم المسيحي". و في عين اللحظة ، ساد الاعتقاد بأن الأرمن هم الامتداد الداخلي للأعداء و يسعون للاستيلاء على قلب الدولة العثمانية ، أي الأناضول.
وهكذا ، أقحم المتصارعون الدين ، إسلاما كان أم مسيحية، في اللعبة السياسية بدءا من الأقليات المسيحية و مرورا بالنظام العثماني و انتهاء بالغرب. و العكس كذلك . و مع هذا ، أسهم وبوعي- قطبا الصراع الكبيرين و هما الغرب و النظام العثماني في تعقيد القضية الأرمنية عندما أخرجاها من إطارها الإداري البسيط و أدخلاها في معترك معقد قوامه صراع الإسلام ضد المسيحية ما لبث أن تمخض عنه خاسر واحد و وحيد هو الشعب الأرمني ذاته بعد عقدين من الزمان عندما اقترف النظام التحادي الحاكم بالدولة العثمانية أول "إبادة جنس" جماعية في القرن العشرين.