بين الأرمن واليهود
بين الأرمن واليهود
بقلم الدكتور محمد رفعت الإمام
آريف العدد62 فبراير 2003
.....
يرى الهولوكوستيون أن أمكر أشكال إنكار الهولوكوست هي (المقارنات الأخلاقية ) الرامية ضمنياً إلى إنكار فرادتها .ولم يرفض اليهود تأطير الهولوكوست في سياق الفظاعات النازية فحسب،بل انتقدوا بضراوة وضعها في إطار الجرائم ضد الإنسانية وجرائم القتل الجماعى التي وسمت ،أو بالأحرى وصمت ،القرن العشرين .دع عنك أن الهولوكستين إذا عقدوا أية مقارنات-على مضض-لا يهدفون من ورائها إلا (الإبقاء)على الهولوكوست متفرداً أكثرمن الإدماج في الظاهرة الأوسع للقرن العشرين من الإبادات الجماعية عامة والإثنية منها خاصة .وصارت إستراتيجية المقارنة دوما في طريق واحد لا رجعة منه:تأكيد فرادة الهولوكست وثمة (تابو) لدى الهولوكستين مؤداه أن دراسة الإبادات الاجتماعية اللاهولوكوكستية لن تسهم بشيء تجاه فهم أغوار التجربة اليهودية على أيدي النازية .ولكن ،في المقابل ،فإن دراسة التجربة الهولوكوستية ذات (المدى الكامل)من القضايا الفلسفية والمنهجية،سوف تلقى أضواء على الإبادات الجماعية الأخرى.
ومهما كانت التشبث بفرادة الهولوكوست فإن أبعاد "حل هتلر النهائي"أضحت معروفة في كثير من الأوساط الأكاديمية والإعلامية وهو ما يحتم إعادة تقييم الهولوكوست النازية باعتبارها موضوعا قابلا للنقاش بل وقابلا للتأطير والمقارنة هنا يعقد فريق من الباحثين-غير اليهود والأمريكيين غالبا مقارنات بين إبادة الهنود الحمر في الأمريكتين والهولوكوست (اليهودي)أو بين الأخيرة وممارسات العنف الدموية والتطهيرات الصربية في كوسوفو.
بيد أن الحالة الأرمنية في الدولة العثمانية تعد نموذجا مثاليا في منظور المقارنين مع الهولوكست أثناء الحرب العالمية الثانية ،و تكمن أهمية هذا التوقيت في منع أية مبادرات خارجية فعالة لإنقاذ الجماعات المستهدفة. أما علي مستوي التخطيط كانت عملية تدمير الجماعات المستهدفة مهمة بيروقراطيه مخططه اضطلع بها جهاز حزب الإتحاد و الترقي "الاتحاديون" في النموذج الأرمني، و تكفل بها جهاز الحزب النازي في النموذج الهولوكوستي و علي مستوي آليات التنفيذ ثمة شبكه بيروقراطيه مؤدلجة جيده و منظمة عاليه الكفاءة لإحراز الأهداف المنوط بها في وقت محدد و سريع مع الضخامة في القضاء علي المستهدفين.تمثلت هذه الشبكة في" التشكيلات المخصوصة" لدي الاتحاديين بقوات الحرس الخاصة و فرق القتال المتحركة ووحدات قمة الموت لدي النازيين .
و ثمة أبعاد أيديولوجيه مشتركه اعتلت بسياسة القتل الإبادي الجماعي علي قمة الأولويات النافذة في الأجندتين الاتحادية و النازية .ففي مرحلة ما قبل اقتراف الإبادة تعرض المجتمعان أو بالأحرى النظامان العثماني و الألماني لأزمات مجتمعيه و سياسيه و اقتصاديه حادة، تمخضت عن أزمة "هوية شاملة" بين الأتراك و الألمان إذا تعرض كلا النظامان لتفكك إمبراطوريتها العظمي، و تراجع نفوذهما الإقليمي سلسة من الهزائم العسكرية علي جبهات القتال دمرت البنية البشرية، و جرحت الطموحات القومية و أهانت الكرامة القومية لدي الشعبين و فد ثارت هذه الأزمات في خط متواز مع الاستغراق في استدعاء تاريخ عظيم ، أحلام حول إعادة إحياء الماضي ، الانفجار النهائي لهذه الأحلام، عدم القدرة علي امتصاص وإدماج هذا الزخم من التناقضات.
و هنا تمثلت دعامة النجاة الرئيسية في إعادة أيديولوجيه رسمية نخبوية قوامها "الطورانية التركية" في النموذج العثماني و "الإشتراكيه القومية" في النموذج الألماني ،و كلاهما ارتكز علي التفوق الإثني ممزوجا بجرعات ثقيلة من الاستبدادية و العنصرية.
و هكذا شغلت هذه الأيديولوجيات فراغ الهوية و بررت في العقل الجامعي سياسات النخبة الإبادية و في كلمة اختزلت حلول أزمة الهوية عن الناظمين الاتحادي و النازي نظريا في تبني أيديولوجيه رسميه و علميه في ارتكاب إبادة جماعية.
ومهما كانت وجاهة أوجه الشبه آنفة الذكر بين النموذجين الإباديين الأرمني و الهولوكوستي، فثمة أوجه تباين جد فارقه بينهما . فمن منظور الكفاءة التكنولوجية تفوق النازيون علي نظائرهم الاتحاديين في إنجاز أهدافهم الإبادية ورغم استخدام جزء من الخط الحديدي برلين - بغداد لنقل بعض الأرمن من الأناضول إلي منفاهم في ولاية حلب العربية، إلا أن الاتحاديين كانوا بصفة عامه بدائيين في التخطيط و التنظيم.
و رغم ذلك نجحوا في تنفيذ الجزء الأكبر من أهدافهم الإبادية ضد الإثنية الأرمنية. في المقابل وظف النازيون قمة المنجزات التكنولوجية(طرق المواصلات و غرف الغاز .. إلخ) في تنفيذ برنامجهم الهولوكوستي .
و علي مستوي الضحايا انحصر ضحايا الاتحاديين فقط في الدائرة الإثنية الأرمنية بينما شمل ضحايا الهولوكوست النازي : يهود وسوفيت وغجر أوروبيين وشواذ ومعاقين ..إلخ ، و إن كانت أكثرها من اليهود البولنديين تحديدا . ويرتبط بهذا الفارق ملاحظة جد مهمة مفادها أن الأرمن الذين اقتلعهم الاتحاديون من الفضاء الأناضولي كانوا السكان الأصليين في وطنهم الأم علي عكس اليهود الذين كانوا مشتتين عبر أنحاء العالم ،وبينما شكل اليهود في الكيان الآري شيئا " من دون البشر" ذا تهدي اقتصادي شكل الأرمن العقبة الإثنية و الدينية و القومية و السياسية والاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية في وجه الحلم الطوراني الرامي إلي تأسيس دولة تركية نقية . و رغم الفوارق بين التجربتين الأرمنية الهولوكوستية إلي أن الأولي ذات أسبقية تاريخية علي الأخيرة، و من ثم عدم فرادتها في القرن العشرين !! .
بقلم الدكتور محمد رفعت الإمام
آريف العدد62 فبراير 2003
.....
يرى الهولوكوستيون أن أمكر أشكال إنكار الهولوكوست هي (المقارنات الأخلاقية ) الرامية ضمنياً إلى إنكار فرادتها .ولم يرفض اليهود تأطير الهولوكوست في سياق الفظاعات النازية فحسب،بل انتقدوا بضراوة وضعها في إطار الجرائم ضد الإنسانية وجرائم القتل الجماعى التي وسمت ،أو بالأحرى وصمت ،القرن العشرين .دع عنك أن الهولوكستين إذا عقدوا أية مقارنات-على مضض-لا يهدفون من ورائها إلا (الإبقاء)على الهولوكوست متفرداً أكثرمن الإدماج في الظاهرة الأوسع للقرن العشرين من الإبادات الجماعية عامة والإثنية منها خاصة .وصارت إستراتيجية المقارنة دوما في طريق واحد لا رجعة منه:تأكيد فرادة الهولوكست وثمة (تابو) لدى الهولوكستين مؤداه أن دراسة الإبادات الاجتماعية اللاهولوكوكستية لن تسهم بشيء تجاه فهم أغوار التجربة اليهودية على أيدي النازية .ولكن ،في المقابل ،فإن دراسة التجربة الهولوكوستية ذات (المدى الكامل)من القضايا الفلسفية والمنهجية،سوف تلقى أضواء على الإبادات الجماعية الأخرى.
ومهما كانت التشبث بفرادة الهولوكوست فإن أبعاد "حل هتلر النهائي"أضحت معروفة في كثير من الأوساط الأكاديمية والإعلامية وهو ما يحتم إعادة تقييم الهولوكوست النازية باعتبارها موضوعا قابلا للنقاش بل وقابلا للتأطير والمقارنة هنا يعقد فريق من الباحثين-غير اليهود والأمريكيين غالبا مقارنات بين إبادة الهنود الحمر في الأمريكتين والهولوكوست (اليهودي)أو بين الأخيرة وممارسات العنف الدموية والتطهيرات الصربية في كوسوفو.
بيد أن الحالة الأرمنية في الدولة العثمانية تعد نموذجا مثاليا في منظور المقارنين مع الهولوكست أثناء الحرب العالمية الثانية ،و تكمن أهمية هذا التوقيت في منع أية مبادرات خارجية فعالة لإنقاذ الجماعات المستهدفة. أما علي مستوي التخطيط كانت عملية تدمير الجماعات المستهدفة مهمة بيروقراطيه مخططه اضطلع بها جهاز حزب الإتحاد و الترقي "الاتحاديون" في النموذج الأرمني، و تكفل بها جهاز الحزب النازي في النموذج الهولوكوستي و علي مستوي آليات التنفيذ ثمة شبكه بيروقراطيه مؤدلجة جيده و منظمة عاليه الكفاءة لإحراز الأهداف المنوط بها في وقت محدد و سريع مع الضخامة في القضاء علي المستهدفين.تمثلت هذه الشبكة في" التشكيلات المخصوصة" لدي الاتحاديين بقوات الحرس الخاصة و فرق القتال المتحركة ووحدات قمة الموت لدي النازيين .
و ثمة أبعاد أيديولوجيه مشتركه اعتلت بسياسة القتل الإبادي الجماعي علي قمة الأولويات النافذة في الأجندتين الاتحادية و النازية .ففي مرحلة ما قبل اقتراف الإبادة تعرض المجتمعان أو بالأحرى النظامان العثماني و الألماني لأزمات مجتمعيه و سياسيه و اقتصاديه حادة، تمخضت عن أزمة "هوية شاملة" بين الأتراك و الألمان إذا تعرض كلا النظامان لتفكك إمبراطوريتها العظمي، و تراجع نفوذهما الإقليمي سلسة من الهزائم العسكرية علي جبهات القتال دمرت البنية البشرية، و جرحت الطموحات القومية و أهانت الكرامة القومية لدي الشعبين و فد ثارت هذه الأزمات في خط متواز مع الاستغراق في استدعاء تاريخ عظيم ، أحلام حول إعادة إحياء الماضي ، الانفجار النهائي لهذه الأحلام، عدم القدرة علي امتصاص وإدماج هذا الزخم من التناقضات.
و هنا تمثلت دعامة النجاة الرئيسية في إعادة أيديولوجيه رسمية نخبوية قوامها "الطورانية التركية" في النموذج العثماني و "الإشتراكيه القومية" في النموذج الألماني ،و كلاهما ارتكز علي التفوق الإثني ممزوجا بجرعات ثقيلة من الاستبدادية و العنصرية.
و هكذا شغلت هذه الأيديولوجيات فراغ الهوية و بررت في العقل الجامعي سياسات النخبة الإبادية و في كلمة اختزلت حلول أزمة الهوية عن الناظمين الاتحادي و النازي نظريا في تبني أيديولوجيه رسميه و علميه في ارتكاب إبادة جماعية.
ومهما كانت وجاهة أوجه الشبه آنفة الذكر بين النموذجين الإباديين الأرمني و الهولوكوستي، فثمة أوجه تباين جد فارقه بينهما . فمن منظور الكفاءة التكنولوجية تفوق النازيون علي نظائرهم الاتحاديين في إنجاز أهدافهم الإبادية ورغم استخدام جزء من الخط الحديدي برلين - بغداد لنقل بعض الأرمن من الأناضول إلي منفاهم في ولاية حلب العربية، إلا أن الاتحاديين كانوا بصفة عامه بدائيين في التخطيط و التنظيم.
و رغم ذلك نجحوا في تنفيذ الجزء الأكبر من أهدافهم الإبادية ضد الإثنية الأرمنية. في المقابل وظف النازيون قمة المنجزات التكنولوجية(طرق المواصلات و غرف الغاز .. إلخ) في تنفيذ برنامجهم الهولوكوستي .
و علي مستوي الضحايا انحصر ضحايا الاتحاديين فقط في الدائرة الإثنية الأرمنية بينما شمل ضحايا الهولوكوست النازي : يهود وسوفيت وغجر أوروبيين وشواذ ومعاقين ..إلخ ، و إن كانت أكثرها من اليهود البولنديين تحديدا . ويرتبط بهذا الفارق ملاحظة جد مهمة مفادها أن الأرمن الذين اقتلعهم الاتحاديون من الفضاء الأناضولي كانوا السكان الأصليين في وطنهم الأم علي عكس اليهود الذين كانوا مشتتين عبر أنحاء العالم ،وبينما شكل اليهود في الكيان الآري شيئا " من دون البشر" ذا تهدي اقتصادي شكل الأرمن العقبة الإثنية و الدينية و القومية و السياسية والاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية في وجه الحلم الطوراني الرامي إلي تأسيس دولة تركية نقية . و رغم الفوارق بين التجربتين الأرمنية الهولوكوستية إلي أن الأولي ذات أسبقية تاريخية علي الأخيرة، و من ثم عدم فرادتها في القرن العشرين !! .