الفحم يا ريس
تابعت باندهاش خطاب الرئيس محمد مرسى للعمال فى عيدهم من مجمع الحديد والصلب بحلوان الأسبوع الماضى، خطب الرئيس من أمام ماكينة خضراء ناصعة وامتلأت القاعة بالعمال فى زيهم الأزرق يهتفون له بينما حاول بعضهم اقتطاع خطبته بالنداء «الفحم يا ريس، الفحم يا ريس» فرد عليهم الريس أنه على علم أن هناك بعض المشكلات الصغيرة فى مصنع الكوك التى تحتاج للتصليح لكن الدور عليهم هم أن يقوموا بذلك، وأضاف أنه يذكر الحديد والصلب فى كل رحلاته الخارجية محاولا جذب الاستثمارات لتطويرها، ولكنى أعتقد أن الموقف السياسى الحالى للمصنع وتعامل الدولة مع الصناعة بشكل عام أكثر تعقيدا من هذا الطرح والوعود بحماية القطاع العام.
تعجبت لأن حقيقة المصنع بعد سنين من الإهمال، والتى عايشتها من خلال بحث عن الشركة منذ عدة سنوات، مختلفة تماما عن الواقع الذى صوره لنا الرئيس بتذكيرنا بعبدالناصر والحديد والصلب كرمز للصناعة فى مصر، وكأننا مازلنا فى عهد قلعة الصناعة الوطنية والكفاية الإنتاجية ودولة العمال وما إلى ذلك من قيم اتخذتها لنفسها دولة يوليو، فلا يغيب عن أحد أن مجمع الحديد والصلب عانى على مدى السنين ولا يزال يعانى من إهمال شديد من الحكومة، حيث زاد من صعوبة موقفه تحرير التجارة والطاقة وسعر الصرف وتقليص الإنفاق على القطاع العام مع السياسات الليبرالية الجديدة التى انتهكها نظام مبارك، فكانت النتيجة أن معدات الإنتاج تعانى من عدم إحلال وتجديد وفيما عدا عدد قليل من العنابر التى تم تطويرها لتتماشى مع متطلبات الإنتاج، فالمصنع يعانى من الأعطال المستمرة ومشاكل إنتاجية متفاقمة. هذا بالإضافة إلى أن المصنع الذى كان يعمل فيه تقريبا 25 ألف عامل فى مطلع التسعينيات أصبح يعمل به 13 ألف عامل فى نهاية 2009. ووصل الحال اليوم أنه فى الوقت الذى كان يخطب فيه الرئيس من المصنع كانت عنابره شبه متوقفة، وانخفضت المبيعات فيها إلى النصف تقريبا فى السنة المالية الحالية نتيجة نقص فحم الكوك الذى بدوره توقف توريده مع تهالك معدات مصنع الكوك الذى بنى خصيصا كمصنع قطاع عام لخدمة مجمع الحديد والصلب.
لكن جزءا كبيرا من قدرة المصنع فى الحفاظ على جودة واستمرارية الإنتاج رغم تدهور الأحوال الإنتاجية يرجع إلى عماله، فمهارة العمال وإبداعهم فى إيجاد حلول لمشاكل «المكن» يشهد بها كل الخبراء وغير المختصين، وهى التى مع قدرات المهندسين والإداريين على التكيف مع هذه الظروف الإنتاجية الصعبة ساعدت على استمرار العمل بمعدات ترجع نصفها على الأقل للحرب العالمية الثانية. والعمال أيضا من أرهبوا نظام مبارك بإضراباتهم فى 1989 الذى انتهت بدخول أمن الدولة المصنع وقتل الشهيد العامل عبدالحى السيد حسن واعتقال المئات منهم فظل نظام مبارك بعد ذلك مشغولا بتهدئة عمال الحديد والصلب دوما واتقاء غضبهم، فرفع الرواتب إلى أعلى مستوى ممكن. وقام بالسيطرة الأمنية على المصنع، وظلت الدولة كما يقولون تخاف أنه إذا قامت الحديد والصلب حلوان كلها تقوم وإذا قامت حلوان قامت مصر.
•••
لكن وإن كان إهمال الحديد والصلب يلام على النظم القديمة فلماذا يلام الرئيس مرسى؟ تعجبت من اختيار الرئيس أن يخطب من المصنع و«المكن» شبه متوقف لعدم وفرة المادة الخام من فحم الكوك بسبب عدم إحلال وتجديد «المكن» فى مصنع الكوك مما أثر على إنتاج الحديد والصلب الذى لم ينجح فى استيراد فحم من الخارج بسبب عدم سماح ميزانيته بذلك، فتوريد الفحم من شركة القطاع العام كان يتم فى إطار العلاقات المرنة بين الشركتين مما يسهل التعامل مع إجمالى التكاليف على المدى الطويل، هذا على عكس الاستيراد من الخارج الذى يلتزم باقتصاديات السوق التى فى الحقيقة لا تلتزم بها حتى الدول المصنعة الكبرى حيث تدرك الحاجة لدعم الصناعة الوطنية عن طريق تقديم تسهيلات فى التعامل مع عملية الشراء والبيع. وإذا كانت أعباء الحديد والصلب ومصنع الكوك لم تكن مسئولية نظام مرسى وحده الذى توارثها من النظم السابقة فعلى الرئيس الحالى مسئولية البت بشكل فورى فى منع استمرار هذه السياسات وإنقاذ المصنع من كارثة محققة لا تحل بالوعود بحماية القطاع العام أو بإدخال بعض التطويرات هنا وهناك بمساعدة الشركات والحكومات الأجنبية.
وإن كانت حكومة الدكتور مرسى غير قادرة على اتخاذ قرار سريع بضخ الدولة الاستثمار فى المصنع بسبب عدم توافر الإرادة السياسية، فذلك سيطلب مثلا رفض قرض صندوق النقد الدولى الذى تنص مشروطاته على التقشف فى الانفاق الحكومى، ومنها الانفاق على إحلال وتجديد «المكن» فى القطاع العام واتباع سياسات اقتصادية أكثر عدالة ولكن أكثر إغضابا لأصحاب النفوذ كرفع الضرائب التصاعدية ورفع الضرائب على البورصة والمكاسب الرأسمالية، فالأفضل فى هذا الحال تمليك المصنع لعماله لإدارته بشكل ذاتى مستقل، فهم بعد كل هذه السنوات من إداراته فعليا بأنفسهم الأدرى بمشاكله، ولنا فى ذلك عظة من مصانع الحديد التى يديرها العمال بأنفسهم اليوم بعد تعثر الملاك مثل مصنعى قوطة والعربى ومصانع أخرى مشابهة على مستوى الجمهورية ونجاح التعاونيات العمالية على مستوى العالم من الأرجنتين للمكسيك فى هذا الشكل من الإدارة فى ظروف مشابهة.
•••
ولكن كما اطلعتنا الصحف مؤخرا، الرئيس لا يعتزم اللجوء لأى من هذين الخيارين، فحكومة هشام قنديل عزمت تحويل المصنع لبيت خبرة مستقل لتقييم حالة المصنع وكيفية تحديثه والتعامل معه، وتخوفى هو أن بيوت الخبرة عادة ما تتبع سياسات يمينية محافظة تقترح فيها الخصخصة وتقليص عدد العمال والتوفير فى المرتبات واستخدام آليات تصنيع لا تأخذ فى الاعتبار المهارات والعلاقات الاجتماعية المكونة للعمل والمسببة فى نجاحه، وهى نفس بيوت الخبرة التى كان يلجأ إليها وزراء الاقتصاد والمالية والصناعة فى حكومة مبارك والمسئولة عن تحقيق نظام الليبرالية الجديدة العالمى على أرض الواقع فى مصر. وإن كان الحديد والصلب صعب خصخصته بسبب مكانته السياسية للنظم المتتالية كرمز للدولة, كما ذكر مرسى بالفعل، فإن خطة الحكومة الحالية بإرجاع الأمر إلى بيت خبرة ليحدد مستقبل الحديد والصلب واتخاذ بعض الخطوات الجانبية كزيارات لدول مستعدة لمساندة المصنع معناه أن هناك خطرا بتصفية المصنع تدريجيا على المدى الطويل، كما الحال فى مصانع أخرى أقربها للحديد والصلب مصنع النصر السيارات فى حلوان الذى صفى تماما ثم تحول إلى إدارة الجيش تحت إمرة وزارة الدفاع الحربى مؤخرا ليدار عن طريق دولة داخل دولة.
وإذا كان النظام الحالى لا ينوى تعميم هذا السيناريو القاتم على الصناعة المصرية ككل، فمازالت لديه فرصة ذهبية لرفض قرض الصندوق واتباع سياسات اقتصادية مختلفة ينادى بها الكثير لكن لا مجال لذكرها هنا ولكن كلها تعزز عدم التقشف على الفقراء وتضمن اتباع الشفافية فى تحديد إيرادات الدولة مما يسمح لها بضخ أموال لإحلال وتجديد «المكن»، وإذا لم يكن لدى الدولة النية فى خوض هذه المعركة ضد أصحاب النفوذ والمصالح، فالأفضل على الأقل ترك المصنع للعاملين فيه ليديروه بأنفسهم مع دعم من الدولة فى المرحلة الأولى فى هذه العملية. فمازالت هناك فرصة لطمأنة العمال القلقين على مستقبلهم المنادين بأعلى أصواتهم «الفحم يا ريس» ومازالت هناك فرصة لتحقيق مطالب الثورة من عيش، حرية وعدالة اجتماعية.
دينا مكرم عبيد
تعجبت لأن حقيقة المصنع بعد سنين من الإهمال، والتى عايشتها من خلال بحث عن الشركة منذ عدة سنوات، مختلفة تماما عن الواقع الذى صوره لنا الرئيس بتذكيرنا بعبدالناصر والحديد والصلب كرمز للصناعة فى مصر، وكأننا مازلنا فى عهد قلعة الصناعة الوطنية والكفاية الإنتاجية ودولة العمال وما إلى ذلك من قيم اتخذتها لنفسها دولة يوليو، فلا يغيب عن أحد أن مجمع الحديد والصلب عانى على مدى السنين ولا يزال يعانى من إهمال شديد من الحكومة، حيث زاد من صعوبة موقفه تحرير التجارة والطاقة وسعر الصرف وتقليص الإنفاق على القطاع العام مع السياسات الليبرالية الجديدة التى انتهكها نظام مبارك، فكانت النتيجة أن معدات الإنتاج تعانى من عدم إحلال وتجديد وفيما عدا عدد قليل من العنابر التى تم تطويرها لتتماشى مع متطلبات الإنتاج، فالمصنع يعانى من الأعطال المستمرة ومشاكل إنتاجية متفاقمة. هذا بالإضافة إلى أن المصنع الذى كان يعمل فيه تقريبا 25 ألف عامل فى مطلع التسعينيات أصبح يعمل به 13 ألف عامل فى نهاية 2009. ووصل الحال اليوم أنه فى الوقت الذى كان يخطب فيه الرئيس من المصنع كانت عنابره شبه متوقفة، وانخفضت المبيعات فيها إلى النصف تقريبا فى السنة المالية الحالية نتيجة نقص فحم الكوك الذى بدوره توقف توريده مع تهالك معدات مصنع الكوك الذى بنى خصيصا كمصنع قطاع عام لخدمة مجمع الحديد والصلب.
لكن جزءا كبيرا من قدرة المصنع فى الحفاظ على جودة واستمرارية الإنتاج رغم تدهور الأحوال الإنتاجية يرجع إلى عماله، فمهارة العمال وإبداعهم فى إيجاد حلول لمشاكل «المكن» يشهد بها كل الخبراء وغير المختصين، وهى التى مع قدرات المهندسين والإداريين على التكيف مع هذه الظروف الإنتاجية الصعبة ساعدت على استمرار العمل بمعدات ترجع نصفها على الأقل للحرب العالمية الثانية. والعمال أيضا من أرهبوا نظام مبارك بإضراباتهم فى 1989 الذى انتهت بدخول أمن الدولة المصنع وقتل الشهيد العامل عبدالحى السيد حسن واعتقال المئات منهم فظل نظام مبارك بعد ذلك مشغولا بتهدئة عمال الحديد والصلب دوما واتقاء غضبهم، فرفع الرواتب إلى أعلى مستوى ممكن. وقام بالسيطرة الأمنية على المصنع، وظلت الدولة كما يقولون تخاف أنه إذا قامت الحديد والصلب حلوان كلها تقوم وإذا قامت حلوان قامت مصر.
•••
لكن وإن كان إهمال الحديد والصلب يلام على النظم القديمة فلماذا يلام الرئيس مرسى؟ تعجبت من اختيار الرئيس أن يخطب من المصنع و«المكن» شبه متوقف لعدم وفرة المادة الخام من فحم الكوك بسبب عدم إحلال وتجديد «المكن» فى مصنع الكوك مما أثر على إنتاج الحديد والصلب الذى لم ينجح فى استيراد فحم من الخارج بسبب عدم سماح ميزانيته بذلك، فتوريد الفحم من شركة القطاع العام كان يتم فى إطار العلاقات المرنة بين الشركتين مما يسهل التعامل مع إجمالى التكاليف على المدى الطويل، هذا على عكس الاستيراد من الخارج الذى يلتزم باقتصاديات السوق التى فى الحقيقة لا تلتزم بها حتى الدول المصنعة الكبرى حيث تدرك الحاجة لدعم الصناعة الوطنية عن طريق تقديم تسهيلات فى التعامل مع عملية الشراء والبيع. وإذا كانت أعباء الحديد والصلب ومصنع الكوك لم تكن مسئولية نظام مرسى وحده الذى توارثها من النظم السابقة فعلى الرئيس الحالى مسئولية البت بشكل فورى فى منع استمرار هذه السياسات وإنقاذ المصنع من كارثة محققة لا تحل بالوعود بحماية القطاع العام أو بإدخال بعض التطويرات هنا وهناك بمساعدة الشركات والحكومات الأجنبية.
وإن كانت حكومة الدكتور مرسى غير قادرة على اتخاذ قرار سريع بضخ الدولة الاستثمار فى المصنع بسبب عدم توافر الإرادة السياسية، فذلك سيطلب مثلا رفض قرض صندوق النقد الدولى الذى تنص مشروطاته على التقشف فى الانفاق الحكومى، ومنها الانفاق على إحلال وتجديد «المكن» فى القطاع العام واتباع سياسات اقتصادية أكثر عدالة ولكن أكثر إغضابا لأصحاب النفوذ كرفع الضرائب التصاعدية ورفع الضرائب على البورصة والمكاسب الرأسمالية، فالأفضل فى هذا الحال تمليك المصنع لعماله لإدارته بشكل ذاتى مستقل، فهم بعد كل هذه السنوات من إداراته فعليا بأنفسهم الأدرى بمشاكله، ولنا فى ذلك عظة من مصانع الحديد التى يديرها العمال بأنفسهم اليوم بعد تعثر الملاك مثل مصنعى قوطة والعربى ومصانع أخرى مشابهة على مستوى الجمهورية ونجاح التعاونيات العمالية على مستوى العالم من الأرجنتين للمكسيك فى هذا الشكل من الإدارة فى ظروف مشابهة.
•••
ولكن كما اطلعتنا الصحف مؤخرا، الرئيس لا يعتزم اللجوء لأى من هذين الخيارين، فحكومة هشام قنديل عزمت تحويل المصنع لبيت خبرة مستقل لتقييم حالة المصنع وكيفية تحديثه والتعامل معه، وتخوفى هو أن بيوت الخبرة عادة ما تتبع سياسات يمينية محافظة تقترح فيها الخصخصة وتقليص عدد العمال والتوفير فى المرتبات واستخدام آليات تصنيع لا تأخذ فى الاعتبار المهارات والعلاقات الاجتماعية المكونة للعمل والمسببة فى نجاحه، وهى نفس بيوت الخبرة التى كان يلجأ إليها وزراء الاقتصاد والمالية والصناعة فى حكومة مبارك والمسئولة عن تحقيق نظام الليبرالية الجديدة العالمى على أرض الواقع فى مصر. وإن كان الحديد والصلب صعب خصخصته بسبب مكانته السياسية للنظم المتتالية كرمز للدولة, كما ذكر مرسى بالفعل، فإن خطة الحكومة الحالية بإرجاع الأمر إلى بيت خبرة ليحدد مستقبل الحديد والصلب واتخاذ بعض الخطوات الجانبية كزيارات لدول مستعدة لمساندة المصنع معناه أن هناك خطرا بتصفية المصنع تدريجيا على المدى الطويل، كما الحال فى مصانع أخرى أقربها للحديد والصلب مصنع النصر السيارات فى حلوان الذى صفى تماما ثم تحول إلى إدارة الجيش تحت إمرة وزارة الدفاع الحربى مؤخرا ليدار عن طريق دولة داخل دولة.
وإذا كان النظام الحالى لا ينوى تعميم هذا السيناريو القاتم على الصناعة المصرية ككل، فمازالت لديه فرصة ذهبية لرفض قرض الصندوق واتباع سياسات اقتصادية مختلفة ينادى بها الكثير لكن لا مجال لذكرها هنا ولكن كلها تعزز عدم التقشف على الفقراء وتضمن اتباع الشفافية فى تحديد إيرادات الدولة مما يسمح لها بضخ أموال لإحلال وتجديد «المكن»، وإذا لم يكن لدى الدولة النية فى خوض هذه المعركة ضد أصحاب النفوذ والمصالح، فالأفضل على الأقل ترك المصنع للعاملين فيه ليديروه بأنفسهم مع دعم من الدولة فى المرحلة الأولى فى هذه العملية. فمازالت هناك فرصة لطمأنة العمال القلقين على مستقبلهم المنادين بأعلى أصواتهم «الفحم يا ريس» ومازالت هناك فرصة لتحقيق مطالب الثورة من عيش، حرية وعدالة اجتماعية.
دينا مكرم عبيد