أرمينية قلعة طبيعية
أرمينية قلعة طبيعية
بقلم الدكتور محمد رفعت الإمام
العدد الأول من آريف يناير 1998
.................
غطت المنطقة التي عرفت تاريخيا ب((أرمينية القديمة)) مساحة شاسعة تحدها آسيا الصغري من الغرب ، وسلسلة جبال القوقاز من الشمال ، والبحر الأسود من الشمال الغربي، وبحر كاسبيان ( الخزر أو قزوين ) من الشمال الشرقي ، وأرض فارس من الجنوب الشرقي ، وترتفع أرمينية " 5000" قدم فوق مستوي سطح البحر، وتمتد بين خطي طول "38" و"48" شرقا وبين دائرتي عرض "5,37,41" شمالا وتقدر مساحتها بحوالي "125000" ميل مربع تقريبا .
ثمة حدود طبيعية تفصل أرمينية عن جيرانها .إذ يفصلها نهر الجور شرقا عن الأراضي المنخفضة المتاخمة لبحر قزوين، وتفصلها سلسة جبال بونط شمالا عن البحر الأسود وجورجيا ، وتفصلها سلسلة جبال طوروس جنوبا عن سوريا وكردستان وإيران.
وتشكل أرمينية وحدة جغرافية توصف بأنها " جزيرة جبلية " لأن المرتفعات تشغل أكثر من نصف مساحتها ، ويمثل جبل أراراد أبرز معالمها الجغرافية ، وعليه رست سفينة نوح عليه السلام بعد رحلتها من بلاد النهرين طبقا لما ورد في سفر التكوين، ويعد هذا الجبل أقدم قداس للأرمن ورمز جنسهم الذي يوصف بأنه ينشرخ ويتصدع لكنه راسخ لا ينهار، ويقع أراراد حاليا داخل الجمهورية التركية، ويتكون من ( أراراد الكبير16.946 قدم ) وأراردا الصغير ( 12, 839 قدم ) وتعني كلمة أراراد " جبل النار" لما كان يلفظه من مواد بركانية مشتعلة، وقد أطلق عليه الأرمن " ماسيس" وأطلق عليه العرب" الحارث" ، ولا يزال الإيرانيون يسمونه " جبل نوح" أما الأتراك فيلقبونه" أغري داغ" . ويقال أنه جبل " الجودي " الذي جاء ذكره في القرآن الكريم، وغير آراراد ، ثمة جبال أخري بأرمينية مثل جبل سيبان ( 14.400قدم ) وجبل بينجول ( 10.7000 قدم ) . ومن سفوح هذه الجبال تتبع عدة أنهار حفرت دروبها عبر السهول المتباينة ونجم عنها مضايق وأودية ضيقة وشلالات، بيد أنها ليست صالحة برمتها للملاحة . ويعد نهر آراكس أطول أنهار أرمينية قاطبة . يبدأ النهر من جبال الأناضول الشرقية ويصب في بحر كاسبيان ويتدفق عبر سهل آراراد وولدي آراكس ويخصبهما ، ويطلق الأرمن علي نهر آراكس لقب " آراكس الأم " ويوصف بأنه أرض اللبن والعسل حتي قيل أنه " جنات عدن " وقد أسماه العرب" الرس، إرس، الترس". وكيف تنبع من سفوح أرمينية أنهار يبراد( الفرات) وديكريس ( دجلة ) والجور وغيرهم .
وبجانب الأنهار ، ثمة بحيرات بأرمينية القديمة مثل فان التي تعد أهم البحيرات وأوسعها وأعمقها ( يبلغ طولعها2900 قدم )وترتفع 1690 متر فوق مستوي سطح البحر) وتقع فان حاليا داخل الحدود التركية ، وقد أسماها العرب بحيرة " خلاط" أو " أرجيش" وتحتوي هذه البحيرة علي مادة البورق الثمينة التي تستخدم في صناعة الزجاج وفي المنظفات ، أما بحيرة سيفان فهي أعلي البحيرات ( أكثر من 6300 قدم فوق مستوي سطح البحر) . وتقع سيفان حاليا ضمن حدود الجمهورية الأرمينية ، وتعد بحيرة أورمية أضحل بحيرات أرمينية وأملحها ، وتقع حاليا داخل الحدود الإيرانية.
ويسود أرمينية مناخ قاري، ففي القمم العالية يكون الشتاء قارسا مع سقوط ثلوج كثيفة ، ويكون الصيف في الأراضي المنخفضة جافا حارا ويستمر الشتاء لمدة سبعة أشهر ، في حين لا يزيد الصيف عن ثلاثة أشهر.
وهكذا يلاحظ أن أرمينية قد اتصفت جغرافيا بالتناقضات بين الجمال والخراب ، ينابيع المياه المتدفقة والأراضي القاحلة ، الحرارة المحرقة في الصيف والبرودة القاسية في الشتاء، السهول الدافئة والجبال المغطاة بالجليد ، الهضاب المجدبة والأودية المزدهرة.
والحق أن جغرافية أرمينية قد أثرت إيجابيا وسلبيا في تشكيل مجري تاريخها، أما إيجابيا فقد أدت جغرافية أرمينية المعقدة إلي تحمل قاطنيها المصاعب التي أضحت شيئا طبيعيا، كما طبعت قاطنيها علي أصول الدفاع عن عزتهم القومية وعلي محبة الحرية. وفوق هذا فغن موقع أرمينية جغرافيا قد جعلها حلقة وصل بين الإمبراطوريات المجاورة، وبذا غدت أرمينية معبرا تجاريا وثقافيا بين آسيا وأوروبا ، مما أتاح للأرمن أن يطوروا أنفسهم ماديا وثقافيا باطلاعهم علي معظم معارف العالم المتحضر. في المقابل صار الأرمن الواسطة التي ساعدت أوروبا أن تتعلم من آسيا إبان العصور القديمة والوسطي ، وان تتعلم آسيا من أوروبا خلال العصور الحديثة، وتعد جغرافية أرمينية مسئولة جزئيا عن بقاء الشعب الأرمني وثقافته. سلبيا تعد أرمينية بيئة طاردة جغرافيا للسكان وعائقة في الأغلب عن إقامة دولة مركزية، إذ توجد بأرمينية مساحات شاسعة ليست مناسبة للاستيطان البشري ، فبالإضافة إلي البحيرتين الكبريين الداخليتين فان وسيفان توجد بها جبال شاهقة مغطاة بالجليد ، وتخللت أوديتها العميقة والضيقة معظم أراضي المنطقة وجعلت الاتصال صعبا بينها ، ناهيك عن تعرضها دوما للزلازل والبراكين التي تزيد من مخاطر الحياة. كذا افتقرت أرمينية إلي طريق مناسب ونقل نهري مأمون إلي البحار. فرغم أنها تقع علي مفرق الطرق الرئيسية الممتدة من آسيا الصغري إلي فارس ومن البرزخ القوقازي حتي بلاد مابين النهرين، إلا أن المنطقة ذاتها تفتقر إلي طرق رئيسية ، ورغم أن ثلاثة أنهار كبيرة هي آراكس ويبراد( الفرات) وديكريس ( دجلة) تنبع جميعا من أرمينية ، إلا أن أحدا منها لايصلح للملاحة حتي للمراكب الصغيرة.
هذا ولئن كانت السلاسل الجبلية قد قسمت أرمينية داخليا إلي أقاليم جغرافية متباينة ما انفكت ان تحولت إلي تقسيمات سياسية متناحرة جعلت أرمينية لا تتمتع في معظم فترات تاريخها بإقامة دولة مركزية موحدة يديرها حاكم قوي، فخارجيا شكلت السلاسل الجبلية من أرمينية " قلعة طبيعية حصينة" أغرت الغزاة مرارا طوال تاريخها وجعلتها منطقة صراع بين الإمبراطوريات المتنافسة بسبب موقعها الجغرافي والاستراتيجي علي مفرق الطرق التجارية والعسكرية بين أوروبا وآسيا، وتجدر الإشارة أن أرمينية تتشابه مع مصر في موقعها الجغرافي بين قارات العالم القديم مما أدي إي تعرضها للعديد من الغزوات علي مدار تاريخها.
بقلم الدكتور محمد رفعت الإمام
العدد الأول من آريف يناير 1998
.................
غطت المنطقة التي عرفت تاريخيا ب((أرمينية القديمة)) مساحة شاسعة تحدها آسيا الصغري من الغرب ، وسلسلة جبال القوقاز من الشمال ، والبحر الأسود من الشمال الغربي، وبحر كاسبيان ( الخزر أو قزوين ) من الشمال الشرقي ، وأرض فارس من الجنوب الشرقي ، وترتفع أرمينية " 5000" قدم فوق مستوي سطح البحر، وتمتد بين خطي طول "38" و"48" شرقا وبين دائرتي عرض "5,37,41" شمالا وتقدر مساحتها بحوالي "125000" ميل مربع تقريبا .
ثمة حدود طبيعية تفصل أرمينية عن جيرانها .إذ يفصلها نهر الجور شرقا عن الأراضي المنخفضة المتاخمة لبحر قزوين، وتفصلها سلسة جبال بونط شمالا عن البحر الأسود وجورجيا ، وتفصلها سلسلة جبال طوروس جنوبا عن سوريا وكردستان وإيران.
وتشكل أرمينية وحدة جغرافية توصف بأنها " جزيرة جبلية " لأن المرتفعات تشغل أكثر من نصف مساحتها ، ويمثل جبل أراراد أبرز معالمها الجغرافية ، وعليه رست سفينة نوح عليه السلام بعد رحلتها من بلاد النهرين طبقا لما ورد في سفر التكوين، ويعد هذا الجبل أقدم قداس للأرمن ورمز جنسهم الذي يوصف بأنه ينشرخ ويتصدع لكنه راسخ لا ينهار، ويقع أراراد حاليا داخل الجمهورية التركية، ويتكون من ( أراراد الكبير16.946 قدم ) وأراردا الصغير ( 12, 839 قدم ) وتعني كلمة أراراد " جبل النار" لما كان يلفظه من مواد بركانية مشتعلة، وقد أطلق عليه الأرمن " ماسيس" وأطلق عليه العرب" الحارث" ، ولا يزال الإيرانيون يسمونه " جبل نوح" أما الأتراك فيلقبونه" أغري داغ" . ويقال أنه جبل " الجودي " الذي جاء ذكره في القرآن الكريم، وغير آراراد ، ثمة جبال أخري بأرمينية مثل جبل سيبان ( 14.400قدم ) وجبل بينجول ( 10.7000 قدم ) . ومن سفوح هذه الجبال تتبع عدة أنهار حفرت دروبها عبر السهول المتباينة ونجم عنها مضايق وأودية ضيقة وشلالات، بيد أنها ليست صالحة برمتها للملاحة . ويعد نهر آراكس أطول أنهار أرمينية قاطبة . يبدأ النهر من جبال الأناضول الشرقية ويصب في بحر كاسبيان ويتدفق عبر سهل آراراد وولدي آراكس ويخصبهما ، ويطلق الأرمن علي نهر آراكس لقب " آراكس الأم " ويوصف بأنه أرض اللبن والعسل حتي قيل أنه " جنات عدن " وقد أسماه العرب" الرس، إرس، الترس". وكيف تنبع من سفوح أرمينية أنهار يبراد( الفرات) وديكريس ( دجلة ) والجور وغيرهم .
وبجانب الأنهار ، ثمة بحيرات بأرمينية القديمة مثل فان التي تعد أهم البحيرات وأوسعها وأعمقها ( يبلغ طولعها2900 قدم )وترتفع 1690 متر فوق مستوي سطح البحر) وتقع فان حاليا داخل الحدود التركية ، وقد أسماها العرب بحيرة " خلاط" أو " أرجيش" وتحتوي هذه البحيرة علي مادة البورق الثمينة التي تستخدم في صناعة الزجاج وفي المنظفات ، أما بحيرة سيفان فهي أعلي البحيرات ( أكثر من 6300 قدم فوق مستوي سطح البحر) . وتقع سيفان حاليا ضمن حدود الجمهورية الأرمينية ، وتعد بحيرة أورمية أضحل بحيرات أرمينية وأملحها ، وتقع حاليا داخل الحدود الإيرانية.
ويسود أرمينية مناخ قاري، ففي القمم العالية يكون الشتاء قارسا مع سقوط ثلوج كثيفة ، ويكون الصيف في الأراضي المنخفضة جافا حارا ويستمر الشتاء لمدة سبعة أشهر ، في حين لا يزيد الصيف عن ثلاثة أشهر.
وهكذا يلاحظ أن أرمينية قد اتصفت جغرافيا بالتناقضات بين الجمال والخراب ، ينابيع المياه المتدفقة والأراضي القاحلة ، الحرارة المحرقة في الصيف والبرودة القاسية في الشتاء، السهول الدافئة والجبال المغطاة بالجليد ، الهضاب المجدبة والأودية المزدهرة.
والحق أن جغرافية أرمينية قد أثرت إيجابيا وسلبيا في تشكيل مجري تاريخها، أما إيجابيا فقد أدت جغرافية أرمينية المعقدة إلي تحمل قاطنيها المصاعب التي أضحت شيئا طبيعيا، كما طبعت قاطنيها علي أصول الدفاع عن عزتهم القومية وعلي محبة الحرية. وفوق هذا فغن موقع أرمينية جغرافيا قد جعلها حلقة وصل بين الإمبراطوريات المجاورة، وبذا غدت أرمينية معبرا تجاريا وثقافيا بين آسيا وأوروبا ، مما أتاح للأرمن أن يطوروا أنفسهم ماديا وثقافيا باطلاعهم علي معظم معارف العالم المتحضر. في المقابل صار الأرمن الواسطة التي ساعدت أوروبا أن تتعلم من آسيا إبان العصور القديمة والوسطي ، وان تتعلم آسيا من أوروبا خلال العصور الحديثة، وتعد جغرافية أرمينية مسئولة جزئيا عن بقاء الشعب الأرمني وثقافته. سلبيا تعد أرمينية بيئة طاردة جغرافيا للسكان وعائقة في الأغلب عن إقامة دولة مركزية، إذ توجد بأرمينية مساحات شاسعة ليست مناسبة للاستيطان البشري ، فبالإضافة إلي البحيرتين الكبريين الداخليتين فان وسيفان توجد بها جبال شاهقة مغطاة بالجليد ، وتخللت أوديتها العميقة والضيقة معظم أراضي المنطقة وجعلت الاتصال صعبا بينها ، ناهيك عن تعرضها دوما للزلازل والبراكين التي تزيد من مخاطر الحياة. كذا افتقرت أرمينية إلي طريق مناسب ونقل نهري مأمون إلي البحار. فرغم أنها تقع علي مفرق الطرق الرئيسية الممتدة من آسيا الصغري إلي فارس ومن البرزخ القوقازي حتي بلاد مابين النهرين، إلا أن المنطقة ذاتها تفتقر إلي طرق رئيسية ، ورغم أن ثلاثة أنهار كبيرة هي آراكس ويبراد( الفرات) وديكريس ( دجلة) تنبع جميعا من أرمينية ، إلا أن أحدا منها لايصلح للملاحة حتي للمراكب الصغيرة.
هذا ولئن كانت السلاسل الجبلية قد قسمت أرمينية داخليا إلي أقاليم جغرافية متباينة ما انفكت ان تحولت إلي تقسيمات سياسية متناحرة جعلت أرمينية لا تتمتع في معظم فترات تاريخها بإقامة دولة مركزية موحدة يديرها حاكم قوي، فخارجيا شكلت السلاسل الجبلية من أرمينية " قلعة طبيعية حصينة" أغرت الغزاة مرارا طوال تاريخها وجعلتها منطقة صراع بين الإمبراطوريات المتنافسة بسبب موقعها الجغرافي والاستراتيجي علي مفرق الطرق التجارية والعسكرية بين أوروبا وآسيا، وتجدر الإشارة أن أرمينية تتشابه مع مصر في موقعها الجغرافي بين قارات العالم القديم مما أدي إي تعرضها للعديد من الغزوات علي مدار تاريخها.