إسرائيليون ضد الحصار
ليس غريباً أن تسمع أن بعض الإسرائيليين يعارضون الحصار المفروض على قطاع غزة، ويطالبون بفتح المعابر، والسماح لحركة الشاحنات بالعودة إلى ما كانت عليه قبل العام 2000، فلا حصار ولا إغلاق، ولا حواجز ولا موانع، وإنما معابر مفتوحة وبواباتٌ مشرعة، وحركةُ شاحناتٍ لا تتوقف، ولهذه الغاية رفعوا الشعارات المطالبة بإنهاء الحصار، وسخروا طاقاتهم وأقلامهم لدعوة حكومة بلادهم للاستجابة إلى طلباتهم، والنزول عند رغباتهم، والاقتناع بمبرراتهم ومسوغاتهم، التي يرون أنها تخدم بلادهم، ولا تضر بأمن وسلامة مواطنيهم.
لا تظن أن قلوب المطالبين برفع الحصار رحيمة، أو أن ضمائرهم قد استيقظت، أو أنهم قد شعروا بتأنيب الضمير، أو أنهم استجابوا للنداءات الدولية والصرخات الإنسانية، أو أنهم شعروا بمعاناة الفلسطينيين وحزنوا لحالهم، وهالهم صور المرضى، ومعاناة الجرحى، وصدمهم صور وفاة بعض الأمهات الحوامل على الحواجز، أو وفاة بعض المرضى بسبب الحرمان من العلاج أو نقص الدواء، فانتفضوا من أجلهم، وثاروا لإنقاذهم، وطالبوا بالانتصار لهم والوقوف معهم.
ربما يوجد في المجتمع الإسرائيلي بعض الأصوات التي تطالب صادقةً برفع الحصار عن قطاع غزة، انطلاقاً من هذا الجانب الإنساني، خاصةً بعض الشخصيات والأحزاب اليسارية، لكنها تبقى أقلية في المجتمع الإسرائيلي، لا يشكلون قوة، ولا يعتبرون قوى ضاغطة ومؤثرة، ولا صوت لهم في السياسة، ولا دور لهم في الحكم والقرار، ولكنهم يرفعون أصواتهم معارضين، ويطالبون الحكومة بأن تستجيب لطلباتهم، وأن تصغي لملاحظاتهم، وقد يقومون ببعض الفعاليات العامة، والاعتصامات الشاملة دعماً لمطالبهم، وتأييداً لسياستهم، ويقدر الفلسطينيون هذه الأصوات، ويرحبون بروادها، ويؤيدون من ينادي بها.
لكن المنادين بقوةٍ لرفع الحصار، والداعين إلى فتح البوابات والمعابر، وتنشيط الحركة التجارية مع قطاع غزة، لكن وفق ضوابطَ أمنية، وإجراءاتٍ احترازية عالية، هم التجار والمزارعون، وكبار الصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال، الذين يرون أن استمرار الحصار يضر بالكيان الصهيوني، ويلحق به وبهم أضراراً جسيمة على كل المستويات، أقلها الأضرار الإقتصادية، التي سببت جموداً في الأسواق الإسرائيلية، وكبدت التجار ورجال الأعمال الإسرائيليين خسائر كبيرة، فقد تلفت محاصيلهم، وتعطلت مصانعهم، وتوقفت معاملهم.
وقد كان الكثير من انتاجهم يذهب إلى قطاع غزة، وهو السوق الأقرب إليهم، والأكثر امتصاصاً لمنتجاتهم الصناعية والزراعية، ولكن الحصار المفروض على قطاع غزة قد أضر كثيراً بقطاعي الزراعة والصناعة الإسرائيلية، وتسبب في خلقِ منافسٍ قوي لهما، أقل سعراً وإن كان أقل جودة، إلا أنه مناسبٌ لسوق قطاع غزة الاستهلاكي، فهو يلبي الطلب ويفي بالحاجة والغرض، ويحقق ما يريده الفلسطينيون، حيث تمكن الحصار الإسرائيلي من تنشيط تجارة الأنفاق المصرية، التي شكلت بديلاً قوياً ومنافساً لتجارة المعابر الإسرائيلية، وقد شكلت السلع المصرية الأقل سعراً والأقل جودة منافساً قوياً لمختلف السلع الإسرائيلية، وسببت كساداً حقيقياً في مرافقهم الاقتصادية المختلفة التي كانت تأمل بقرب رفع الحصار، لتعيد تسويق منتجاتها وبيع مزروعاتها، التي تنعكس انتعاشاً على كل القطاعات العامة، المباشرة وغير المباشرة.
ومما يزيد من عمق الأزمة الاقتصادية الإسرائيلية نتيجة الحصار وجمود الحركة الاقتصادية، أن الحكومة لا تعوض التجار، ولا تدعم المزارعين، ولا تشتري منهم المنتجات أو المحاصيل، في الوقت الذي تعجز فيه عن فتح أسواقٍ جديدة لهم، إما بسبب بُعدِ الأسواق، أو التكلفة العالية التي تترتب على التصدير، كما أن الحكومة الإسرائيلية عاجزة عن خلق سياسة اقتصادية ناجحة تساعد المزارعين، وترضي التجار، وتشجع الصناعيين، وتقود إلى تحريك رأس المال العام، وتشغيل العاملين، وتفعيل عجلة الاقتصاد، في الوقت الذي ترى أن التجار يكدسون منتجاتهم، والمزارعين يتلفون محاصيلهم، مما يزيد في أسعار السلع، فتفقد قدرتها على المنافسة في ظل وجود بدائل أقل كلفة، وربما أعلى جودة، خاصةً أن الأسواق القريبة في أغلبها عربية مقاطعة، وإن تعاملت مع المنتجات الإسرائيلية فإنها تتعامل بصمتٍ وخفاء، وفي أضيق الحدود، وأقل السلع، مما لا يجعلها أسواقاً اقتصادية بديلة ومنافسة، فضلاً عن أنها تأكل من أرباح التاجر والمنتج على السواء.
كما شكلت دعوات دول الإتحاد الأوروبي، بمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية المختلفة، ضربةً موجعةً لاقتصادهم، وإن كانت محدودة وعلى استحياءٍ شديد، إلا أنها تساهم ولو بقدرٍ ضئيل في تعميق أزمة التاجر والمزارع الإسرائيلي، الذي أعياه البحث عن أسواق، وأجهده التنافس وإيجاد أماكن مناسبة لمنتجاته، وقد كان سعيداً بالأسواق الأوروبية المفتوحة، التي تدفع وتستهلك أكثر، ما يعوضها عن فقدانها لأسواق قطاع غزة والضفة الغربية، ولكنها اليوم باتت تشكو من إغلاقها، وتعامي من نتائج الحصار الذي ارتد عليها، والبديل الذي حل مكانها من منتجات الضفة الغربية، وإن كانت بدائل محدودة وقليلة، إلا أنها تبقى منافسة ومضرة بهم وباقتصادهم.
فهل تمضي الدول العربية التي تستورد من الكيان الإسرائيلي، أو تقوم بتبييض منتجاته وإعادة تصديرها إلى دولٍ عربية أخرى، فتحذو حذو الدول الأوروبية، وتتوقف عن استيراد بضائعهم، وإنقاذ محاصيلهم، وتمنتع عن دعم تجارهم ومزارعيهم، إذ في خطوتها هذه اتباعٌ للحق، وعودةٌ إلى الأصول، ودعمٌ حقيقي للشعب الفلسطيني، ومساندةٌ لهم في نضالهم وصمودهم، وإلا فإنها تساهم في رخاء الإسرائيليين، وتشارك في حصار وخنق الفلسطينيين، فتكون هي والعدو سواء، حلفاء وأصدقاء، ولكنهم لأمتنا أعداء.
ربما أن الكيان الصهيوني محاصرٌ أيضاً، ويعاني كما يعاني سكان قطاع غزة، وإن بدا مدججاً مسلحاً، فمزارعوه يصرخون، وتجاره يبكون، ومستوطنوه يسكنون الملاجئ، وكلهم محبٌ للمال وعاشقٌ للحياة، يخافون على مستقبلهم، ويقلقون على أموالهم، "فإن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ويرجون من الله مالا ترجون"، فهو لا يقوى على التراجع عن قراراته العسكرية، ولا يستطيع رفع الحصار المفروض على القطاع، ولا يقوى على بيع منتجاته في الأسواق القريبة، كما لا يستطيع أن يجد أسوقاً جديدة، قريبة ومنافسة، تكون بديلاً إقتصادياً حقيقياً، وشعبنا قد نجح مع مصر في إحالة الحصار إلى فتح، والضيق إلى سعة، والحاجة إلى خيرٍ وافر، واليأس إلى أمل، والعسر إلى يسر، فلنصبر في معركتنا، ولنعض على جراحنا، ولنعلم أن لصبرنا فرج، ولعذاباتنا نهاية، ولصمودنا ثمرة، ولمقاومتنا نتيجة.
المصدر: مراسلة د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 21/4/2013