القاضي والعجوز (أقصوصة من التراث)
القاضي والعجوز
(أقصوصة من التراث)
كتبها أبو الحسن
نوادر القضاة المرتشين كثيرة ومشهورة، والأقصوصة التي أسوقها هنا تمثل عينة من تلك النوادر التي وقعت بالفعل، وتندر بها الرواة في النوادي والمسامرات، وتفكه بحكايتها حتى القضاة أنفسهم في مجالسهم الخاصة، وعلى لسان بعضهم وصلت إلينا.
وقبل التطرق لتفاصيل النازلة لابد من استحضار ظروفها الزمانية والمكانية ، وما أحاط بها من أحوال، فالواقعة حصلت في الزمن الماضي البعيد نسبيا ، تدل القرائن على أنها كانت في أواخر القرن التاسع عشر، أو قبل ذلك بقليل، أما المكان فهو محكمة القاضي في إحدى المدن السوسية ، حيث كان يتصدر للقضاء فقهاء متضلعون في علوم الشريعة، ترشحهم الجماعة، ويعينهم السلطان ، ويخصص لهم رواتب تصرف لهم من ريع الأملاك الحبسية على شكل مسكوكات نقدية أو مواد عينية، وفي ذلك الزمن لم تكن العملة الورقية موجودة في البلاد ، وكان التعامل فقط بالعملة النقدية المضروبة من فضة أوذهب،وحتى هذه لم تكن موجودة بالقدر الكافي في الأسواق ،ولذلك يضطر المتعاملون لاستكمال معاملاتهم أحيانا بالمقايضة .
والقضاء كان فرديا، يتولاه قاض واحد، دون مستشارين، ودون نيابة عامة، ودون محامين، ولايكون بجانب القاضي حتى كاتب للضبط ، فالقضاء شفوي محض ، بدون محاضرمكتوبة للجلسات ،أوصكوك لتضمين نصوص الأحكام ، كما لم تكن هناك مدونة قانونية تلزم القاضي، ولا مساطر إجرائية ، وهذا جعل القاضي يتمتع بالحرية الكاملة ، والإستقلال التام، فهو يعتمد فقط على محفوظاته الفقهية من جهة ، وعلى اجتهاده من جهة أخرى ، وأحكامه كانت تنفذ فورا، غير قابلة للإستئناف ، لذلك يحرص المتقاضون على التأثير عليه بوسائل مختلفة، وفي مقدمتها الرشوة التي يألفها شيئا فشيئا حتى تنفتح لها شهيته، وتستهويه الحاجة للتوسع فيها ، لتحسين معيشته، وتنمية أملاكه، فهي مصدر الثروات الضخمة التي يِؤثلها ، من عقارات، ومواشي ، ودواب، وقصور، وزوجات، وخدم، إلى غير ذلك من مظاهر الثراء ، والفخفخة اللازمة لصاحب السلطة في ذلك الزمن.
وارتشاء القضاة ومنافستهم لكبار المتمولين من الأمراء، والولاة، وغيرهم في تكديس الثروات ، واحتواش الأموال، أمر جرت به العادة منذ قديم الزمان، فلنستطرد قول شاعر أندلسي يعرض بقضاة عصره، وهم جميعا حملة المذهب المالكي ، وحماته،قال:
أهل الرياء لبستم ناموسكم كالذئب أدلج في الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالك وقسمتم الأموال بابن القاسم
وأعود الآن إلى الموضوع، فقد رفعت عجوز نزاعها مع رجل إلى قاضي البلد، فقال لها الناس إنك ستخسرين القضية ، لأن خصمك لايتورع عن دفع الرشوة، فإذا لم يكن لك ماتقدمين بين يديك فلا تنتظري العدالة، فالقاضي مرتش بإجماع القوم. أخذت العجوز تفكر في الأمر، وطلبت النصح والإرشاد من كثيرين، فأكد لها الجميع ماسبق أن سمعته، وبينما هي حائرة في الأمر أشارت عليها زميلة لها بإعداد هدية تكون أضخم من هدية خصمها، فتساءلت العجوز: هل سيقبل القاضي هديتي إذا سبقني الخصم إلى ذلك؟قالت زميلتها: نعم ، أليس في علمك المثل الشهير(حطم الكبش الخابية)؟ قالت العجوز: فما معنى ذلك؟أجابت زميلتها شارحة ، فقالت: في قضية مثل قضيتك، سبق أحد الخصمين فقدم للقاضي خابية من الدهن، واستصدر منه وعدا بالحكم لفائدته ، لكن قبيل شروعه في تناول النازلة أوصل الخصم الثاني إلى بيته كبشا عظيما، فأسرع أحدهم إلى القاضي فوجده بصدد تناول القضية ، فهمس في أذنه قائلا: إن كبشا فحلا قد نطح الخابية وحطمها، ففهم ، وحكم لفائدة صاحب الكبش. استوعبت العجوز الدرس، وبدأت في إعداد العدة لمفاجأة الخصم، وهيأت صرة وازنة، وكما سبقت الإشارة فالعملة المتداولة لم تكن سوى قطع نقدية من الذهب أو الفضة، ولما حان موعد التقاضي حضرت قبيل مجيء القاضي، وتحدثت إلى شرطي المحكمة قائلة له:إني قد أحضرت هدية لسعادة القاضي، فقال لها: هاتها أوصلها له، فأخرجتها حتى رآها، ثم أخفتها، وقالت :إنني أريد أن أسلمها له يدا بيد بعد انتهاء جلسة التقاضي ، ثم دلفت إلى القاعة، وأخذت مكانها وسط المتقاضين، ولما برز القاضي سلم عليه الشرطي، وأسرإليه أن العجوز قد أحضرت له صرة هامة من المال، فقال : هلا تسلمتها منها؟ فأجاب :إنها تصر على أن تسلمها لك يدا بيد بعد انتهاء الجلسة، . دخل القاضي وأجال نظره في الحاضرين الذين وقفوا إجلالا له، فتحركت العجوز، وأبرزت الصرة حتى رآها القاضي ، ثم أخفتها،وظلت ترقب عينيه ، فكلما نظر نحوها دفعت بالصرة من داخل حضنها، مشيرة إليها بطرف إصبعها ، ليقدر حجمها،ووزها، والقاضي لم يشك لحظة في أن العجوز قد أتته بكنز ثمين، فنساء ذلك الزمن وخاصة العجائز كن يخزن ويدخرن مايصل إلى أيديهن من المال، تقشفا من جهة، وتحسبا لحدثان الدهر من جهة أخرى، ولسن كبعض نساء عصرنا اللائي يبددن كل شيء في اقتناء العطور، ومساحيق التجميل، وأزياء آخرصيحة (الموضة) . أخر القاضي نازلة العجوز لتكون خاتمة ما ينظر فيه ذلك اليوم ، ولما جاء دورها نادى عليها وتركها تتحدث كما شاءت، تبدي وتعيد، حتى بسطت قضيتها، وأبدت حججها، وتملقت للقاضي، وامتدحت عدالته التي سارت بها الركبان، واشتهر بها لدى القاصي والداني، ثم ختمت بالدعاء له بالتوفيق ، وطول العمر، فلم يسائلها في شيء، ولم يحقق معها في أقوالها ، ودعواها، ثم نادى على خصمها الذي سبق أن قدم له هدية معتبرة، لكنه قد استصغرها الآن أمام الصرة التي تلوح بها العجوز ، فأمره بالرد على المدعية عليه، فأنكر كل ما ادعته عليه خصيمته، ولم يثرثر كثيرا كما فعلت العجوز، بل اقتصد في الكلام ، ربحا للوقت، واقتناعا منه بأن الرشوة التي قدمها قد فعلت فعلها ، وأن الحكم سيصدر لصالحه، لامحالة، ولما انتهى من كلامه ألقى عليه القاضي جملة من الأسئلة الملغومة، استدرجه بها حتى أوقعه في بعض التناقض ،أومايشبه ذلك، فنطق بالحكم لفائدة العجوز، ورفع الجلسة، وأشار للشرطي أن يقود العجوز إلى مكتبه .
دخلت العجوز على القاضي، وهو يتوقع بشوق أن تضع الكنز أمامه، فإذابها تقف، وقد انتابتها نوبة من الذهول، لاتدري ماتفعل، فقال القاضي: هات ياأم كلتوم ماعندك، فقالت: نعم ياسيدي، هذه بركة صنعتها بيدي، ونوعت مكوناتها، وكلها شفاء، ورحمة إن شاء الله، ثم فتحت الصرة أمامه، فإذا بها دقيق السويق(طحين معطر=أكورن إيجان بترقيق الجيم) ، صدم القاضي من الخيبة، وحاول إخفاء خيبته، فتفتقت شفتاه عن ابتسامة صفراء، ثم كظم غيظه، وضبط أعصابه، واستعاد رشده،وبدا وكأنه قد أفاق من نوم عميق، عاش خلاله حلما لذيذا، زينه له الشيطان، فلعن المارد الغرار، وصبر نفسه، ثم لاطف العجوز، فقال : حسنا، حدثينا عن هذه البركة، فقالت: قبل أن أطحن الشعير ياسيدي سخنته جيدا، وعطرته بالزعتر، والكروية، وحب النافع وملحته، فهو في غاية الجودة، والشربة منع منعشة ، ومذهبة للجوع والعطش، وملطفة للخاطر، ومريحة للجوف، ومزيلة للأوجاع ....
قال القاضي: إذن ، على بركة الله، اصنعي لنا منه وجبه نتبرك بها، قالت : أحتاج ياسيدي لإناء مع الماء.أمر القاضي خادمه بإحضار إناء مناسب مع الماء. .... صبت العجوز في الإناء الماء ثم الدقيق، ولتته لتا ،حتى صار حساء ، فقدمته للقاضي ليشربه، فقال: لا ! أنا صائم اليوم، ولكن اقتربي مني ، وخضبي لي به لحيتي وشاربي.قالت: هذا لايليق ياسيدي ! قال: افعلي ماأمرتك به، فأنا أعرف ما يليق بتلك اللحية وذلك الشارب ! فصنعت السيدة ما أمرت به، وبعد أن لطخت وجه القاضي بحساء السويق ، قال لها: صبي مابقي منه على هامتي دفعة واحدة ! فاستجابت السيدة لأمر القاضي وعومت هامته، ولطختها كذلك! ثم صرفها بعد أن شكرها على درسها البليغ.ثم قام فدخل على أهله، فاستغربوا لحاله، وسألوه عن الأمر، فقال: إن هذا أقل مايليق بلحية وهامة قاض مغفل، أعمى الطمع بصيرته، حتى صار لايميز بين الحق والباطل ، وقص عليهم حكايته مع العجوز .....
(أقصوصة من التراث)
كتبها أبو الحسن
نوادر القضاة المرتشين كثيرة ومشهورة، والأقصوصة التي أسوقها هنا تمثل عينة من تلك النوادر التي وقعت بالفعل، وتندر بها الرواة في النوادي والمسامرات، وتفكه بحكايتها حتى القضاة أنفسهم في مجالسهم الخاصة، وعلى لسان بعضهم وصلت إلينا.
وقبل التطرق لتفاصيل النازلة لابد من استحضار ظروفها الزمانية والمكانية ، وما أحاط بها من أحوال، فالواقعة حصلت في الزمن الماضي البعيد نسبيا ، تدل القرائن على أنها كانت في أواخر القرن التاسع عشر، أو قبل ذلك بقليل، أما المكان فهو محكمة القاضي في إحدى المدن السوسية ، حيث كان يتصدر للقضاء فقهاء متضلعون في علوم الشريعة، ترشحهم الجماعة، ويعينهم السلطان ، ويخصص لهم رواتب تصرف لهم من ريع الأملاك الحبسية على شكل مسكوكات نقدية أو مواد عينية، وفي ذلك الزمن لم تكن العملة الورقية موجودة في البلاد ، وكان التعامل فقط بالعملة النقدية المضروبة من فضة أوذهب،وحتى هذه لم تكن موجودة بالقدر الكافي في الأسواق ،ولذلك يضطر المتعاملون لاستكمال معاملاتهم أحيانا بالمقايضة .
والقضاء كان فرديا، يتولاه قاض واحد، دون مستشارين، ودون نيابة عامة، ودون محامين، ولايكون بجانب القاضي حتى كاتب للضبط ، فالقضاء شفوي محض ، بدون محاضرمكتوبة للجلسات ،أوصكوك لتضمين نصوص الأحكام ، كما لم تكن هناك مدونة قانونية تلزم القاضي، ولا مساطر إجرائية ، وهذا جعل القاضي يتمتع بالحرية الكاملة ، والإستقلال التام، فهو يعتمد فقط على محفوظاته الفقهية من جهة ، وعلى اجتهاده من جهة أخرى ، وأحكامه كانت تنفذ فورا، غير قابلة للإستئناف ، لذلك يحرص المتقاضون على التأثير عليه بوسائل مختلفة، وفي مقدمتها الرشوة التي يألفها شيئا فشيئا حتى تنفتح لها شهيته، وتستهويه الحاجة للتوسع فيها ، لتحسين معيشته، وتنمية أملاكه، فهي مصدر الثروات الضخمة التي يِؤثلها ، من عقارات، ومواشي ، ودواب، وقصور، وزوجات، وخدم، إلى غير ذلك من مظاهر الثراء ، والفخفخة اللازمة لصاحب السلطة في ذلك الزمن.
وارتشاء القضاة ومنافستهم لكبار المتمولين من الأمراء، والولاة، وغيرهم في تكديس الثروات ، واحتواش الأموال، أمر جرت به العادة منذ قديم الزمان، فلنستطرد قول شاعر أندلسي يعرض بقضاة عصره، وهم جميعا حملة المذهب المالكي ، وحماته،قال:
أهل الرياء لبستم ناموسكم كالذئب أدلج في الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالك وقسمتم الأموال بابن القاسم
وأعود الآن إلى الموضوع، فقد رفعت عجوز نزاعها مع رجل إلى قاضي البلد، فقال لها الناس إنك ستخسرين القضية ، لأن خصمك لايتورع عن دفع الرشوة، فإذا لم يكن لك ماتقدمين بين يديك فلا تنتظري العدالة، فالقاضي مرتش بإجماع القوم. أخذت العجوز تفكر في الأمر، وطلبت النصح والإرشاد من كثيرين، فأكد لها الجميع ماسبق أن سمعته، وبينما هي حائرة في الأمر أشارت عليها زميلة لها بإعداد هدية تكون أضخم من هدية خصمها، فتساءلت العجوز: هل سيقبل القاضي هديتي إذا سبقني الخصم إلى ذلك؟قالت زميلتها: نعم ، أليس في علمك المثل الشهير(حطم الكبش الخابية)؟ قالت العجوز: فما معنى ذلك؟أجابت زميلتها شارحة ، فقالت: في قضية مثل قضيتك، سبق أحد الخصمين فقدم للقاضي خابية من الدهن، واستصدر منه وعدا بالحكم لفائدته ، لكن قبيل شروعه في تناول النازلة أوصل الخصم الثاني إلى بيته كبشا عظيما، فأسرع أحدهم إلى القاضي فوجده بصدد تناول القضية ، فهمس في أذنه قائلا: إن كبشا فحلا قد نطح الخابية وحطمها، ففهم ، وحكم لفائدة صاحب الكبش. استوعبت العجوز الدرس، وبدأت في إعداد العدة لمفاجأة الخصم، وهيأت صرة وازنة، وكما سبقت الإشارة فالعملة المتداولة لم تكن سوى قطع نقدية من الذهب أو الفضة، ولما حان موعد التقاضي حضرت قبيل مجيء القاضي، وتحدثت إلى شرطي المحكمة قائلة له:إني قد أحضرت هدية لسعادة القاضي، فقال لها: هاتها أوصلها له، فأخرجتها حتى رآها، ثم أخفتها، وقالت :إنني أريد أن أسلمها له يدا بيد بعد انتهاء جلسة التقاضي ، ثم دلفت إلى القاعة، وأخذت مكانها وسط المتقاضين، ولما برز القاضي سلم عليه الشرطي، وأسرإليه أن العجوز قد أحضرت له صرة هامة من المال، فقال : هلا تسلمتها منها؟ فأجاب :إنها تصر على أن تسلمها لك يدا بيد بعد انتهاء الجلسة، . دخل القاضي وأجال نظره في الحاضرين الذين وقفوا إجلالا له، فتحركت العجوز، وأبرزت الصرة حتى رآها القاضي ، ثم أخفتها،وظلت ترقب عينيه ، فكلما نظر نحوها دفعت بالصرة من داخل حضنها، مشيرة إليها بطرف إصبعها ، ليقدر حجمها،ووزها، والقاضي لم يشك لحظة في أن العجوز قد أتته بكنز ثمين، فنساء ذلك الزمن وخاصة العجائز كن يخزن ويدخرن مايصل إلى أيديهن من المال، تقشفا من جهة، وتحسبا لحدثان الدهر من جهة أخرى، ولسن كبعض نساء عصرنا اللائي يبددن كل شيء في اقتناء العطور، ومساحيق التجميل، وأزياء آخرصيحة (الموضة) . أخر القاضي نازلة العجوز لتكون خاتمة ما ينظر فيه ذلك اليوم ، ولما جاء دورها نادى عليها وتركها تتحدث كما شاءت، تبدي وتعيد، حتى بسطت قضيتها، وأبدت حججها، وتملقت للقاضي، وامتدحت عدالته التي سارت بها الركبان، واشتهر بها لدى القاصي والداني، ثم ختمت بالدعاء له بالتوفيق ، وطول العمر، فلم يسائلها في شيء، ولم يحقق معها في أقوالها ، ودعواها، ثم نادى على خصمها الذي سبق أن قدم له هدية معتبرة، لكنه قد استصغرها الآن أمام الصرة التي تلوح بها العجوز ، فأمره بالرد على المدعية عليه، فأنكر كل ما ادعته عليه خصيمته، ولم يثرثر كثيرا كما فعلت العجوز، بل اقتصد في الكلام ، ربحا للوقت، واقتناعا منه بأن الرشوة التي قدمها قد فعلت فعلها ، وأن الحكم سيصدر لصالحه، لامحالة، ولما انتهى من كلامه ألقى عليه القاضي جملة من الأسئلة الملغومة، استدرجه بها حتى أوقعه في بعض التناقض ،أومايشبه ذلك، فنطق بالحكم لفائدة العجوز، ورفع الجلسة، وأشار للشرطي أن يقود العجوز إلى مكتبه .
دخلت العجوز على القاضي، وهو يتوقع بشوق أن تضع الكنز أمامه، فإذابها تقف، وقد انتابتها نوبة من الذهول، لاتدري ماتفعل، فقال القاضي: هات ياأم كلتوم ماعندك، فقالت: نعم ياسيدي، هذه بركة صنعتها بيدي، ونوعت مكوناتها، وكلها شفاء، ورحمة إن شاء الله، ثم فتحت الصرة أمامه، فإذا بها دقيق السويق(طحين معطر=أكورن إيجان بترقيق الجيم) ، صدم القاضي من الخيبة، وحاول إخفاء خيبته، فتفتقت شفتاه عن ابتسامة صفراء، ثم كظم غيظه، وضبط أعصابه، واستعاد رشده،وبدا وكأنه قد أفاق من نوم عميق، عاش خلاله حلما لذيذا، زينه له الشيطان، فلعن المارد الغرار، وصبر نفسه، ثم لاطف العجوز، فقال : حسنا، حدثينا عن هذه البركة، فقالت: قبل أن أطحن الشعير ياسيدي سخنته جيدا، وعطرته بالزعتر، والكروية، وحب النافع وملحته، فهو في غاية الجودة، والشربة منع منعشة ، ومذهبة للجوع والعطش، وملطفة للخاطر، ومريحة للجوف، ومزيلة للأوجاع ....
قال القاضي: إذن ، على بركة الله، اصنعي لنا منه وجبه نتبرك بها، قالت : أحتاج ياسيدي لإناء مع الماء.أمر القاضي خادمه بإحضار إناء مناسب مع الماء. .... صبت العجوز في الإناء الماء ثم الدقيق، ولتته لتا ،حتى صار حساء ، فقدمته للقاضي ليشربه، فقال: لا ! أنا صائم اليوم، ولكن اقتربي مني ، وخضبي لي به لحيتي وشاربي.قالت: هذا لايليق ياسيدي ! قال: افعلي ماأمرتك به، فأنا أعرف ما يليق بتلك اللحية وذلك الشارب ! فصنعت السيدة ما أمرت به، وبعد أن لطخت وجه القاضي بحساء السويق ، قال لها: صبي مابقي منه على هامتي دفعة واحدة ! فاستجابت السيدة لأمر القاضي وعومت هامته، ولطختها كذلك! ثم صرفها بعد أن شكرها على درسها البليغ.ثم قام فدخل على أهله، فاستغربوا لحاله، وسألوه عن الأمر، فقال: إن هذا أقل مايليق بلحية وهامة قاض مغفل، أعمى الطمع بصيرته، حتى صار لايميز بين الحق والباطل ، وقص عليهم حكايته مع العجوز .....