تثوير القرآن
عندما يكون حال المتحدثين بإسم الإسلام في بلادنا كما ترى وتسمع في الفضائيات الدينية والمنابر السياسية، لا تتعجب إذن لو وجدت جموعا من المنتسبين إليه تسبك وتلعنك إذا ترحمت على المفكر الإسلامي جمال البنا وتتمنى لك وله أن تخلدا في جهنم، فقد صارت الشريعة الإسلامية بالنسبة لهؤلاء أشبه بفريق كرة قدم يتعصبون له دون أن يقتدوا بأخلاقياتها السمحة في التعامل مع المختلفين في الرأي بل وحتى بالكافرين بها، ولذلك لا يعتبر هؤلاء أن رجلا أفنى عمره في خدمة الفكر الإسلامي مثل جمال البنا يستحق الترحم عليه أو الحديث عنه بإحترام، لمجرد أنه أصدر فتاوى صادمة اتخذوها حجة لمصادرة عطاء فكري أنتج فوق المائة كتاب شكلت مشروعه للإحياء الإسلامي كما تمناه وناضل من أجله.
لن يجد هؤلاء شيوخا يذكرونهم بأن بعض كبار العلماء دفعوا ثمن بعض فتاويهم الصادمة غاليا، ثم أنصفهم الزمن فاستند الناس إلى تلك الفتاوى أحيانا، أو حتى تجاهلوها دون أن يجعلوها سببا في دفن عطاء أولئك العلماء كاملا. في كتاب (الفتاوى الشاذة) ـ دار الشروق ـ يتحدث الدكتور يوسف القرضاوي عن آراء إبن تيمية في قضايا الطلاق التي كانت سببا في إتهامه بإتباع غير سبيل المؤمنين فحاكمه علماء زمنه من أجلها، وتسببوا في دخوله السجن عدة مرات، حتى انتهى أمره بموته في السجن، لتصير تلك الفتاوى بعد مئات السنين طوق النجاة الذي يحمي كثيرا من الأسر من الإنهيار، ستجد في نفس الكتاب إشارات إلى عدد من الفتاوى الشاذة للإمام إبن حزم النابعة من إعتماده فقط على ظاهر النص مثل تحريمه الوضوء بالماء الراكد الذي تم البول فيه لكنه حلل شربه إذا بال الرجل خارج الماء ثم صبه فيه. يمكن أيضا أن ترجع إلى كتاب (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي ـ دار الكتب العلمية ـ الذي ينقل آراء عدد من كبار الأئمة مثل مالك وسفيان الثوري والأوزاعي في مهاجمة أبي حنيفة لحد وصفه بالدجال الذي لم يولد على الإسلام من هو أشر منه وذلك بسبب آراء فقهية صادمة له لازالت تثير الجدل حتى الآن كما حدث لأستاذ الفقه المقارن د.سعد الهلالي عندما استند إلى رأي أبي حنيفة في عدم تحريم البيرة إذا لم تسكر، وما أثير من جدل عنيف حول الإستناد للمذهب الحنفي في إباحة بيع المسلم للخمر والخنزير والميتة في دار الكفر، وما أكثر الفتاوى الصادمة الموجودة في كتب التراث والتي يبررها أنصار تيارات الشريعة الإسلامية لأنها تعتمد على أحاديث صحيحة، ويغضون الطرف عنها، لكنهم لا يتسامحون أبدا مع إجتهادات من يختلفون معهم في المنهج الفكري.
أقول كل ذلك لأذكر من يتطاولون على الأستاذ جمال البنا، بأن فتاويه الصادمة بإباحة التدخين للصائم والقبلات للشاب المضطر وإمامة المرأة للرجال يمكن رفضها دون إتخاذها ذريعة لدفن كامل عطاء الرجل معه، فهي ليست سوى جزء ضئيل من مشروع فكري متكامل تستطيع التعرف عليه إذا بدأت بقراءة كتابه الصغير (تثوير القرآن) الصادر عن دار الفكر الإسلامي التي تنشر كتبه (195 شارع الجيش بالقاهرة ت 25936494). في الفصل الأول من كتابه الذي يشرح فيه مفهومه لفكرة الثورة، يشير البنا إلى كتاب له عنوانه (ترشيد النهضة) تمت مصادرته في أغسطس 1952 بعد أن قدمه بكل الحب والعشم لضباط يوليو ليقول لهم أن ما قاموا به إنقلاب وليس ثورة، تلك المصادرة المبكرة لم تدفعه لأن يكون مفكرا مهادنا بل ظل حتى آخر نفس في حياته يدافع بكل نقاء عن أفكاره الثورية، مؤمنا أن «تحقيق مشروع الثورة الذي جاء الإسلام لتقديمه للبشرية لن يتحقق إلا بعد تحرير القرآن من إسار التفاسير والنظر إليه في ضوء قيم الحرية والعدالة التي جاءت في القرآن»، لكي يتحرر الإسلام من سطوة الذين حولوا أنفسهم إلى أوصياء عليه وحققوا من وراء ذلك مصالح وإمتيازات لاعلاقة لها بالإسلام.
لذلك كان لابد لهؤلاء المنتفعين من سبوبة الكهنوت أن يحاربوا أفكار جمال البنا فيتهموه مثلا بإنكار السنة، وهو ما ستكتشف أنه غير صحيح إذا قرأت كتابه (كلا ثم كلا لفقهاء التقليد ثم لأدعياء التنوير)، ويتهموه بالترويج للإباحية وهو ما ستكتشف كذبه لو قرأت كتابه (المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء)، ويتهموه بالدعوة للإلحاد وهو ماستكتشف كذبه لو قرأت كتابه البديع (الإسلام وحرية الفكر) الذي تبرأت دار نشر إخوانية منه بعد أن أصدرته في مصر سنة 1977، وهو مايذكرنا بموقفه من جماعة الإخوان التي أسسها شقيقه حسن البنا والذي ظل محبا له لكن ذلك لم يمنعه من نقد الجماعة نقدا لم تستفد منه شيئا، ولا أحسب أحدا فيها بعد وصولها إلى الحكم يشغل نفسه بقراءة كتيب جمال البنا (مسئولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث) الذي قال في نهايته «عندما تظهر الدولة التي تحقق العدل في الإقتصاد والحرية في الفكر والإيمان بالله كأصل للقيم العظمى التي تضبط السلوك، والعلم كوسيلة للتعرف على الحقيقة، وتكون علاقة الحاكم فيها بالأمة كعلاقة العامل بالمؤسسة التي يعمل بها وتنتفي منها كل صور الطغيان والإستغلال ويحس الشعب بالعزة والكرامة عندئذ نقول هاهي الدولة الإسلامية وإلا فلا».
لقد كان جمال البنا يقول دائما لمن يلومونه لأنه يصر على إعلان الأفكار الصادمة أنه يراهن على الأجيال الجديدة التي ستنفر من التصورات المتزمتة والمتطرفة التي يتم ترويجها بين الناس، وأن هذه الأجيال عندما تقرأ أفكاره من مصادرها ستدرك كذب ماتعرض له من إتهامات، وستكتشف أنه لم يكن يرجو سوى أن «نفكر وأن نُعمل أذهاننا وقد نخطئ أو نقصر، ولكن هذا أفضل من أن نتبع دون تفكير لأننا عندما نصل إلى هذه الدرجة من الكسل الذهني والتثابط النفسي، سيفسد كل شيئ بما في ذلك إسلامنا نفسه».
رحم الله جمال البنا ورحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه.
لن يجد هؤلاء شيوخا يذكرونهم بأن بعض كبار العلماء دفعوا ثمن بعض فتاويهم الصادمة غاليا، ثم أنصفهم الزمن فاستند الناس إلى تلك الفتاوى أحيانا، أو حتى تجاهلوها دون أن يجعلوها سببا في دفن عطاء أولئك العلماء كاملا. في كتاب (الفتاوى الشاذة) ـ دار الشروق ـ يتحدث الدكتور يوسف القرضاوي عن آراء إبن تيمية في قضايا الطلاق التي كانت سببا في إتهامه بإتباع غير سبيل المؤمنين فحاكمه علماء زمنه من أجلها، وتسببوا في دخوله السجن عدة مرات، حتى انتهى أمره بموته في السجن، لتصير تلك الفتاوى بعد مئات السنين طوق النجاة الذي يحمي كثيرا من الأسر من الإنهيار، ستجد في نفس الكتاب إشارات إلى عدد من الفتاوى الشاذة للإمام إبن حزم النابعة من إعتماده فقط على ظاهر النص مثل تحريمه الوضوء بالماء الراكد الذي تم البول فيه لكنه حلل شربه إذا بال الرجل خارج الماء ثم صبه فيه. يمكن أيضا أن ترجع إلى كتاب (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي ـ دار الكتب العلمية ـ الذي ينقل آراء عدد من كبار الأئمة مثل مالك وسفيان الثوري والأوزاعي في مهاجمة أبي حنيفة لحد وصفه بالدجال الذي لم يولد على الإسلام من هو أشر منه وذلك بسبب آراء فقهية صادمة له لازالت تثير الجدل حتى الآن كما حدث لأستاذ الفقه المقارن د.سعد الهلالي عندما استند إلى رأي أبي حنيفة في عدم تحريم البيرة إذا لم تسكر، وما أثير من جدل عنيف حول الإستناد للمذهب الحنفي في إباحة بيع المسلم للخمر والخنزير والميتة في دار الكفر، وما أكثر الفتاوى الصادمة الموجودة في كتب التراث والتي يبررها أنصار تيارات الشريعة الإسلامية لأنها تعتمد على أحاديث صحيحة، ويغضون الطرف عنها، لكنهم لا يتسامحون أبدا مع إجتهادات من يختلفون معهم في المنهج الفكري.
أقول كل ذلك لأذكر من يتطاولون على الأستاذ جمال البنا، بأن فتاويه الصادمة بإباحة التدخين للصائم والقبلات للشاب المضطر وإمامة المرأة للرجال يمكن رفضها دون إتخاذها ذريعة لدفن كامل عطاء الرجل معه، فهي ليست سوى جزء ضئيل من مشروع فكري متكامل تستطيع التعرف عليه إذا بدأت بقراءة كتابه الصغير (تثوير القرآن) الصادر عن دار الفكر الإسلامي التي تنشر كتبه (195 شارع الجيش بالقاهرة ت 25936494). في الفصل الأول من كتابه الذي يشرح فيه مفهومه لفكرة الثورة، يشير البنا إلى كتاب له عنوانه (ترشيد النهضة) تمت مصادرته في أغسطس 1952 بعد أن قدمه بكل الحب والعشم لضباط يوليو ليقول لهم أن ما قاموا به إنقلاب وليس ثورة، تلك المصادرة المبكرة لم تدفعه لأن يكون مفكرا مهادنا بل ظل حتى آخر نفس في حياته يدافع بكل نقاء عن أفكاره الثورية، مؤمنا أن «تحقيق مشروع الثورة الذي جاء الإسلام لتقديمه للبشرية لن يتحقق إلا بعد تحرير القرآن من إسار التفاسير والنظر إليه في ضوء قيم الحرية والعدالة التي جاءت في القرآن»، لكي يتحرر الإسلام من سطوة الذين حولوا أنفسهم إلى أوصياء عليه وحققوا من وراء ذلك مصالح وإمتيازات لاعلاقة لها بالإسلام.
لذلك كان لابد لهؤلاء المنتفعين من سبوبة الكهنوت أن يحاربوا أفكار جمال البنا فيتهموه مثلا بإنكار السنة، وهو ما ستكتشف أنه غير صحيح إذا قرأت كتابه (كلا ثم كلا لفقهاء التقليد ثم لأدعياء التنوير)، ويتهموه بالترويج للإباحية وهو ما ستكتشف كذبه لو قرأت كتابه (المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء)، ويتهموه بالدعوة للإلحاد وهو ماستكتشف كذبه لو قرأت كتابه البديع (الإسلام وحرية الفكر) الذي تبرأت دار نشر إخوانية منه بعد أن أصدرته في مصر سنة 1977، وهو مايذكرنا بموقفه من جماعة الإخوان التي أسسها شقيقه حسن البنا والذي ظل محبا له لكن ذلك لم يمنعه من نقد الجماعة نقدا لم تستفد منه شيئا، ولا أحسب أحدا فيها بعد وصولها إلى الحكم يشغل نفسه بقراءة كتيب جمال البنا (مسئولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث) الذي قال في نهايته «عندما تظهر الدولة التي تحقق العدل في الإقتصاد والحرية في الفكر والإيمان بالله كأصل للقيم العظمى التي تضبط السلوك، والعلم كوسيلة للتعرف على الحقيقة، وتكون علاقة الحاكم فيها بالأمة كعلاقة العامل بالمؤسسة التي يعمل بها وتنتفي منها كل صور الطغيان والإستغلال ويحس الشعب بالعزة والكرامة عندئذ نقول هاهي الدولة الإسلامية وإلا فلا».
لقد كان جمال البنا يقول دائما لمن يلومونه لأنه يصر على إعلان الأفكار الصادمة أنه يراهن على الأجيال الجديدة التي ستنفر من التصورات المتزمتة والمتطرفة التي يتم ترويجها بين الناس، وأن هذه الأجيال عندما تقرأ أفكاره من مصادرها ستدرك كذب ماتعرض له من إتهامات، وستكتشف أنه لم يكن يرجو سوى أن «نفكر وأن نُعمل أذهاننا وقد نخطئ أو نقصر، ولكن هذا أفضل من أن نتبع دون تفكير لأننا عندما نصل إلى هذه الدرجة من الكسل الذهني والتثابط النفسي، سيفسد كل شيئ بما في ذلك إسلامنا نفسه».
رحم الله جمال البنا ورحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه.