مفتاح النهضة
هذا الخبر لم أجد له أثرا فى الصحف المصرية: أخرج موقع «بيرسون» التعليمى المعنى بتقييم درجات التعليم فى أنحاء العالم الدول العربية مجتمعة من قائمة أربعين دولة متقدمة علميا، بينما تصدرت دولتا فنلندا وكوريا قائمة الدول الأكثر اهتماما بالتعليم. كما أن دولا جديدة أضيفت إلى القائمة هذا العام بينها تركيا وإندونيسيا. وهذه الدراسة التى أعدها الموقع المذكور تمت على أساس معايير تعليمية دقيقة استخدمت فى عمليات المسح والاستقصاء، الأمر الذى يضفى على التقرير أهمية رصد قيمة خاصة.
الخبر وقعت عليه فى صحيفة الشرق الأوسط اللندنية (عدد 6/1) التى نشرت خلاصة للنتائج التى توصلت إليها الدراسة التى ذكرها الموقع، والتى من أهمها أن النهوض بالمعلم يشكل أحد المفاتيح الأساسية للارتقاء بمستوى التعليم فى أى بلد. ذلك أن بلدا مثل فنلندا لم يبلغ ما بلغه من تقدم إلا بعد أن وجه إلى المعلم اهتماما واسع النطاق، شمل الجوانب التدريبية والتأهيلية والنفسية والاجتماعية. وهو ما حدث أيضا فى التجربة السنغافورية، التى ركزت جل تطبيقاتها على أعداد المعلم، ووفرت له مساحات واسعة من التدريب، حتى أصبح العصب الأساسى فى النهضة التعليمية التى جعلت سنغافورة من أفضل النماذج التعليمية على مستوى العالم.
لا يفاجئنا الخبر مصريا على الأقل. ولو أن الموقع المتخصص فعل غير ذلك، وأدرج مصر ضمن الأربعين دولة المتقدمة علميا لشككنا فى نزاهة معدى التقييم، ولقال آخرون إنها غلطة مطبعية سيتم تصويبها فى أول فرصة. وربما عنَّ للدول الأخرى التسع والثلاثين أن تقدم احتجاجا وتطلب تعويضا لأنها أهينت حين وضعت على قدم المساواة وفى قائمة واحدة مع بلد كمصر ساءت سمعة التعليم فيه، وانصرف اهتمام المسئولين فيه إلى كرة القدم، بينما تنافست فضائياته على تنظيم مسابقات أجمل الأصوات للاطمئنان إلى مستقبل الأغنية العربية وتحقيق التفوق المتشدد فى عالم الطرب وسهرات الفرفشة.
عندى فى هذا الصدد ثلاث ملاحظات هى:
ــ أرجو ألا يتصور أحد أننى ضد الرياضة أو ضد الطرب، وتحفظى الأساسى منصب على توجيه الاهتمام المبالغ فيه إلى هذين المجالين، وتجاهل التعليم وعدم الاكتراث به.
ــ إن الاهتمام بالتعليم مسئولية الدولة بالدرجة الأولى، وهو فى حقيقته دفاع عن الأمن القومى والتهوين من شأنه أو التفريط فيه بمثابة تهديد للأمن القومى للبلد.
ــ إننى إذا كنت قد تحدثت عن مصر فإن الأمر ليس مختلفا كثيرا فى بقية أنحاء الوطن العربى، الذى خرجت كل جامعاته من قائمة الجامعات المحترمة فى العالم.
لا أظن أن أحدا من المسئولين أو الخبراء ذوى الصلة بالتربية والتعليم يمكن أن يختلف مع ما قلت عن تدهور التعليم فى مصر. وكنت قد أشرت إلى هذا الموضوع فى كتابات سابقة كشفت عن المستوى المخجل الذى وصل إليه ذلك التدهور. واستعنت ذات مرة بتقرير أعده أحد الخبراء عن الموضوع لمس فيه الحقيقة وفضحها، وكان جزاؤه أن عوقب على صراحته وإخلاله بشعار «كله تمام» المرفوع فى دواوين الحكومة والذى يعتبر دائما فى حالة حدوث أى تقصير أن «الحق على الطليان»!
هذه الخلفية تسوغ لى أن أقول إن التقييم الذى بين أيدينا عرفنا بما نعرف، وإذا كانت له من فضيلة فهى أنه ذكرنا بما كنا قد نسيناه، ونبهنا إلى ما تغافلنا عنه واستعبطنا ونحن نراه.
الفضيلة الأخرى التى تحسب له أنه أشار إلى موضع الخلل ومفتاح الحل، وأكد أن المدرس هو المشكلة وهو الحل، فى حين أنه فى وعينا وخبراتنا هدف دائما للرثاء والسخرية، منذ ظهر نجيب الريحانى فى دور الأستاذ حمام فى فيلم «غزل البنات»، وسهير البابلى فى مسرحية «مدرسة المشاغبين» ومحمد هنيدى أخيرا فى فيلم «رمضان مبروك أبو العلمين». حتى بيت الشعر الذى قال أحمد شوقى فى شطره الأول: قم للمعلم وفِّه التبجيلا ــ لم يسلم من التلاعب ولم تعجبنا فيه كلمة التبجيلا فجعلناها التهويشا فى قول، والتلطيشا فى قول آخر. وربما كانت هناك اجتهادات أخرى فى ذات الاتجاه الذى استهجن فكرة تبجيل المعلم ورفض أن يأخذها على محمل الجد.
أستطيع أن أفهم ردودا كثيرة من جانب المسئولين فى الدولة، تبرر عدم فتح ملف الاهتمام بالمعلمين والارتقاء بمستواهم. ولدى استعداد لقبول الحجج التى يسوقونها، لكننى أفرق بين حل المشكلة وإحياء الأمل فى إمكانية حلها فى المستقبل. وأزعم أن تجاهل الموضوع أغلق البابين، فى حين أن إحياء ذلك الأمل لا يتطلب أكثر من «إعلان النوايا» والبحث بصورة جادة فى كيفية ومراحل رد اعتبار المعلم ورعايته فى المستقبل، وهذا الذى ننشده فيما خص المعلم ينطبق على مجالات أخرى يئسنا من إمكانية النهوض بها، لأننا لم نسمع حتى بإعلان النوايا الحسنة إزاءها.
إن الحكومة تقف صامتة ومتفرجة وتتعلل دائما بضيق ذات اليد. والنخب مشغولة بمعارك أخرى حول الدستور والاستفتاء وتشكيل التأسيسية، وليست مستعدة للدخول فى أمور أخرى «تافهة» مثل التعليم والإسكان والصحة. ولا أعرف إلى من أتوجه بالحديث لإنقاذ التعليم من كارثته، قبل أن نصحو يوما لنفاجأ بأن مصر استبعدت من قائمة الأقطار والشعوب المحترمة.
الخبر وقعت عليه فى صحيفة الشرق الأوسط اللندنية (عدد 6/1) التى نشرت خلاصة للنتائج التى توصلت إليها الدراسة التى ذكرها الموقع، والتى من أهمها أن النهوض بالمعلم يشكل أحد المفاتيح الأساسية للارتقاء بمستوى التعليم فى أى بلد. ذلك أن بلدا مثل فنلندا لم يبلغ ما بلغه من تقدم إلا بعد أن وجه إلى المعلم اهتماما واسع النطاق، شمل الجوانب التدريبية والتأهيلية والنفسية والاجتماعية. وهو ما حدث أيضا فى التجربة السنغافورية، التى ركزت جل تطبيقاتها على أعداد المعلم، ووفرت له مساحات واسعة من التدريب، حتى أصبح العصب الأساسى فى النهضة التعليمية التى جعلت سنغافورة من أفضل النماذج التعليمية على مستوى العالم.
لا يفاجئنا الخبر مصريا على الأقل. ولو أن الموقع المتخصص فعل غير ذلك، وأدرج مصر ضمن الأربعين دولة المتقدمة علميا لشككنا فى نزاهة معدى التقييم، ولقال آخرون إنها غلطة مطبعية سيتم تصويبها فى أول فرصة. وربما عنَّ للدول الأخرى التسع والثلاثين أن تقدم احتجاجا وتطلب تعويضا لأنها أهينت حين وضعت على قدم المساواة وفى قائمة واحدة مع بلد كمصر ساءت سمعة التعليم فيه، وانصرف اهتمام المسئولين فيه إلى كرة القدم، بينما تنافست فضائياته على تنظيم مسابقات أجمل الأصوات للاطمئنان إلى مستقبل الأغنية العربية وتحقيق التفوق المتشدد فى عالم الطرب وسهرات الفرفشة.
عندى فى هذا الصدد ثلاث ملاحظات هى:
ــ أرجو ألا يتصور أحد أننى ضد الرياضة أو ضد الطرب، وتحفظى الأساسى منصب على توجيه الاهتمام المبالغ فيه إلى هذين المجالين، وتجاهل التعليم وعدم الاكتراث به.
ــ إن الاهتمام بالتعليم مسئولية الدولة بالدرجة الأولى، وهو فى حقيقته دفاع عن الأمن القومى والتهوين من شأنه أو التفريط فيه بمثابة تهديد للأمن القومى للبلد.
ــ إننى إذا كنت قد تحدثت عن مصر فإن الأمر ليس مختلفا كثيرا فى بقية أنحاء الوطن العربى، الذى خرجت كل جامعاته من قائمة الجامعات المحترمة فى العالم.
لا أظن أن أحدا من المسئولين أو الخبراء ذوى الصلة بالتربية والتعليم يمكن أن يختلف مع ما قلت عن تدهور التعليم فى مصر. وكنت قد أشرت إلى هذا الموضوع فى كتابات سابقة كشفت عن المستوى المخجل الذى وصل إليه ذلك التدهور. واستعنت ذات مرة بتقرير أعده أحد الخبراء عن الموضوع لمس فيه الحقيقة وفضحها، وكان جزاؤه أن عوقب على صراحته وإخلاله بشعار «كله تمام» المرفوع فى دواوين الحكومة والذى يعتبر دائما فى حالة حدوث أى تقصير أن «الحق على الطليان»!
هذه الخلفية تسوغ لى أن أقول إن التقييم الذى بين أيدينا عرفنا بما نعرف، وإذا كانت له من فضيلة فهى أنه ذكرنا بما كنا قد نسيناه، ونبهنا إلى ما تغافلنا عنه واستعبطنا ونحن نراه.
الفضيلة الأخرى التى تحسب له أنه أشار إلى موضع الخلل ومفتاح الحل، وأكد أن المدرس هو المشكلة وهو الحل، فى حين أنه فى وعينا وخبراتنا هدف دائما للرثاء والسخرية، منذ ظهر نجيب الريحانى فى دور الأستاذ حمام فى فيلم «غزل البنات»، وسهير البابلى فى مسرحية «مدرسة المشاغبين» ومحمد هنيدى أخيرا فى فيلم «رمضان مبروك أبو العلمين». حتى بيت الشعر الذى قال أحمد شوقى فى شطره الأول: قم للمعلم وفِّه التبجيلا ــ لم يسلم من التلاعب ولم تعجبنا فيه كلمة التبجيلا فجعلناها التهويشا فى قول، والتلطيشا فى قول آخر. وربما كانت هناك اجتهادات أخرى فى ذات الاتجاه الذى استهجن فكرة تبجيل المعلم ورفض أن يأخذها على محمل الجد.
أستطيع أن أفهم ردودا كثيرة من جانب المسئولين فى الدولة، تبرر عدم فتح ملف الاهتمام بالمعلمين والارتقاء بمستواهم. ولدى استعداد لقبول الحجج التى يسوقونها، لكننى أفرق بين حل المشكلة وإحياء الأمل فى إمكانية حلها فى المستقبل. وأزعم أن تجاهل الموضوع أغلق البابين، فى حين أن إحياء ذلك الأمل لا يتطلب أكثر من «إعلان النوايا» والبحث بصورة جادة فى كيفية ومراحل رد اعتبار المعلم ورعايته فى المستقبل، وهذا الذى ننشده فيما خص المعلم ينطبق على مجالات أخرى يئسنا من إمكانية النهوض بها، لأننا لم نسمع حتى بإعلان النوايا الحسنة إزاءها.
إن الحكومة تقف صامتة ومتفرجة وتتعلل دائما بضيق ذات اليد. والنخب مشغولة بمعارك أخرى حول الدستور والاستفتاء وتشكيل التأسيسية، وليست مستعدة للدخول فى أمور أخرى «تافهة» مثل التعليم والإسكان والصحة. ولا أعرف إلى من أتوجه بالحديث لإنقاذ التعليم من كارثته، قبل أن نصحو يوما لنفاجأ بأن مصر استبعدت من قائمة الأقطار والشعوب المحترمة.