فوائد الذكر عند ابن القيم
الحمد لله والصلاة والصلاة والسلام على خاتم رسل الله وبعد ، يقول ابن القيم لله درُّه :
"في الذكر أكثر من مائة فائدة:
(إحداها) أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.
(الثانية)
أنه يرضي الرحمن عز وجل.
(الثالثة)
أنه يزيل الهم والغم عن القلب.
(الرابعة)
أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.
(الخامسة)
أنه يقوى القلب والبدن.
(السادسة)
أنه ينور الوجه والقلب.
(السابعة)
أنه يجلب الرزق.
(الثامنة)
أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة.
(التاسعة)
أنه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام وقطب رحى الدين ومدار السعادة
(1/41)
والنجاة.
وقد جعل الله لكل شيء سبباً وجعل سبب المحبة دوام الذكر.
فمن أراد أن ينال محبة الله عز وجل فليلهج بذكره فإنه الدرس والمذاكرة كما أنه باب العلم، فالذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم.
(العاشرة)
أنه يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الاحسان، فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت.
(الحادية عشرة)
أنه يورثه الإنابة، وهي الرجوع إلى الله عز وجل، فمتى أكثر الرجوع إليه بذكره أورثه ذلك رجوعه بقلبه إليه في كل أحواله، فيبقى الله عز وجل مفزعه وملجأه، وملاذه ومعاذه، وقبلة قلبه ومهربه عند النوازل والبلايا.
(الثانية عشرة)
أنه يورثه القرب منه، فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه، وعلى قدر غفلته يكون بعده منه.
(الثالثة عشرة)
أنه يفتح له باباً عظيماً من أبواب المعرفة، وكلما أكثر من الذكر ازداد من المعرفة.
(الرابعة عشرة)
أنه يورثه الهيبة لربه عز وجل وإجلاله، لشدة استيلائه على قلبه وحضوره مع الله تعالى، بخلاف الغافل فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه.
(الخامسة عشرة)
أنه يورثه ذكر الله تعالى له كم قال تعالى: {فاذكروني أذكركم} ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفاً، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» .
(السادسة عشرة)
أنه يورث حياة القلب، وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟ .
(السابعة عشرة)
أنه قوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته.
وحضرت شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي.
أو كلاماً قريباً من هذا.
وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر.
أو كلاماً هذا معناه.
(الثامنة عشرة)
أنه يورث جلاء القلب من صداه كما تقدم في الحديث، وكل
(1/42)
صدأ، وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار وقد تقدم هذا المعنى.
(التاسعة عشرة)
أنه يحط الخطايا ويذهبها.
فإنه من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات.
(العشرون)
أنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى، فإن الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشة لا تزول إلا بالذكر.
(الحادية والعشرون)
أن ما يذكر به العبد ربه عز وجل من جلاله وتسبيحه وتحميده يذكر بصاحبه عند الشدة، فقد روى الإمام أحمد في المسند عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «إن ما تذكرون من جلال الله عز وجل من التهليل والتكبير والتحميد يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن.
أفلا يحب أحدكم أن يكون له ما يذكر به» ؟ هذا الحديث أو معناه.
(الثانية والعشرون)
أن العبد إذا تعرف إلى الله تعالى بذكره في الرخاء عرفه في الشده، وقد جاء أثر معناه أن العبد المطيع الذاكر لله تعالى إذا أصابته شدة أو سأل الله تعالى حاجة قالت الملائكة: يا رب صوت معروف، من عبد معروف، والغافل المعرض عن الله عز وجل إذا دعاه وسأله قالت الملائكة: يا رب، صوت منكر، من عبد منكر.
(الثالثة والعشرون)
أنه ينجي من عذاب الله تعالى، كما قال معاذ رضي الله عنه ويروى مرفوعاً «ما عمل آدمي عملاً أنجى من عذاب الله عز وجل من ذكر الله تعالى» .
(الرابعة والعشرون)
أنه سبب تنزيل السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بالذاكر كما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(الخامسة والعشرون)
أنه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل.
فإن العبد لا بد له من أن يتكلم.
فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى وذكر أوامره تكلم بهذه المحرمات أو بعضها، ولا سبيل الى السلامة منها البتة إلا بذكر الله تعالى.
والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك، فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو، ومن يبس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطب بكل باطل ولغو وفحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(السادسة والعشرون)
أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة ومجالس الشياطين.
فليتخير العبد أعجبهما إليه وأولاهما به، فهو مع اهله في الدنيا والآخرة.
(السابعة والعشرون)
أنه يسعد الذاكر بذكره ويسعد به جليسه، وهذا هو المبارك أين
(1/43)
ما كان.
والغافل واللاغي يشقى بلغوه وغفلته ويشقى به مجالسه.
(الثامنة والعشرون)
أنه يؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة.
فإن كل مجلس لا يذكر العبد فيه ربه تعالى كان عليه حسرة وترة يوم القيامة.
(التاسعة والعشرون)
أنه مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه، والناس في حر الشمس قد صهرتهم في الموقف.
وهذا الذاكر مستظل بظل عرش الرحمن عز وجل.
(الثلاثون)
أن الاشتعال به سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين، ففي الحديث عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قال سبحانه وتعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» .
(الحادية والثلاثون)
أنه أيسر العبادات، وهو من أجلها وأفضلها، فإن حركة اللسان أخف حركات الجوارح وأيسرها، ولو تحرك عضو من الانسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة بل لا يمكنه ذلك.
(الثانية والثلاثون)
أنه غراس الجنة، فقد روى الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لقيت ليلة أسرى بي إبراهيم الخليل عليه السلام فقال: يا محمد أقرئ أمتك السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» قال الترمذي حديث حسن غريب من حديث أبن مسعود.
وفي الترمذي من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة» قال الترمذي حديث حسن صحيح.
(1/44)
(الثالثة والثلاثون)
أن العطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه.
ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس» .
وفي الترمذي من حديث أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك، أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك، أعتق الله ربعه من النار.
ومن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار ومن قالها ثلاثاً أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار.
ومن قالها أربعاً أعتقه الله تعالى من النار» .
وفيه عن ثوبان أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «من قال حين يمسي وإذا أصبح: رضيت بالله رباً، وبالاسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، كان حقاً على الله أن يرضيه» وفي الترمذي «من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت،
(1/45)
وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة» .
(الرابعة والثلاثون)
أن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإن نسيان الرب سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها، قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون} وإذا نسي العبد نفسه أعرض عن مصالحها ونسيها واشتغل عنها فهلكت وفسدت ولا بد كمن له زرع أو بستان أو ماشية أو غير ذلك ومما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه، فأهمله ونسيه واشتغل عنه بغيره وضيع مصالحه فإنه يفسد ولا بد.
هذا مع إمكان قيام غيره مقامه فيه، فكيف الظن بفساد نفسه وهلاكها وشقائها إذا أهملها ونسيها واشتغل عن مصالحها وعطل مراعاتها وترك القيام عليها بما يصلحها، فما شئت من فساد وهلاك وخيبة وحرمان.
وهذا هو الذي صار أمره كله فرطاً فانفرط عليه أمره وضاعت مصالحه، وأحاطت به أسباب القطوع والخيبة والهلاك.
ولا سبيل إلى الامان من ذلك إلا بدوام ذكر الله تعالى واللهج به، وأن لا يزال اللسان رطباً به، وأن يتولى منزلة حياته التي لا غنى له عنها ومنزلة غذائه الذي إذا فقده فسد جسمه وهلك، وبمنزلة الماء عند شدة العطش، وبمنزلة اللباس في الحر والبرد وبمنزلة الكن في شدة الشتاء والسموم.
فحقيق بالعبد أن ينزل ذكر الله منه بهذه المنزلة وأعظم، فأين هلاك الروح والقلب وفسادهما من هلاك البدن وفساده؟ هذا هلاك لا بد منه وقد يعقبه صلاح لا بد، وأما هلاك القلب والروح فهلاك لا يرجى معه صلاح ولا فلاح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
في فوائد الذكر وادامته إلا هذه الفائدة وحدها لكفي بها، فمن نسي الله تعالى أنساه نفسه في الدنيا ونسيه في العذاب يوم القيامة قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} أي تنسى في
(1/46)
العذاب كما نسيت آياتي فلم تذكرها ولم تعمل بها.
وإعراضه عن ذكره يتناول إعراضه عن الذكر الذي أنزله، وهو أن يذكر الذي أنزله في كتابه وهو المراد بتناول إعراضه عن أن يذكر ربه بكتابه وأسمائه وصفاته وأوامره وآلائه ونعمه، فإن هذه كلها توابع إعراضه عن كتاب ربه تعالى، فإن الذكر في الآية إما مصدر مضاف إلى الفاعل أو مضاف إضافة الأسماء المحضة، أعرض عن كتابي ولم يتله ولم يتدبره ولم يعمل به ولا فهمه، فإن حياته ومعيشته لا تكون إلا مضيقة عليه منكدة معذباً فيها.
والضنك الضيق والشدة والبلاء.
ووصف المعيشة نفسها بالضنك مبالغة، وفسرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ، والصحيح أنها تتناول معيشته في الدنيا وحاله في البرزخ، فإنه يكون في ضنك في الدارين، وهو شدة وجهد وضيق.
وفي الآخرة تنسى في العذاب.
وهذا عكس أهل السعادة والفلاح فإن حياتهم في الدنيا أطيب الحياة ولهم في البرزخ وفي الآخرة أفضل الثواب.
قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} فهذا في الدنيا، ثم قال: {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} فهذا في البرزخ والآخرة.
وقال تعالى: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} وقال تعالى: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا} حسنا {إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} فهذا في الآخرة.
وقال تعالى: {قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} فهذه أربعة مواضيع ذكر الله تعالى فيها أنه يجزي المحسن بإحسانه جزاءين: جزاء في الدنيا وجزاء في الآخرة.
فالاحسان له جزاء معجل ولا بد، والإساءة لها جزاء معجل ولا بد.
ولو لم يكن إلا ما يجازي به المحسن من انشراح صدوره في انفساح قلبه وسروره ولذاته بمعاملة ربه عز وجل وطاعته وذكره ونعيم روحه بمحبته.
وذكره وفرحه بربه سبحانه وتعالى أعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه.
وما يجازي به المسيء من ضيق الصدر وقسوة القلب وتشتته وظلمته وحزازاته وغمه وهمه وحزنه وخوفه وهذا أمر لا يكاد من له أدني حس وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والاحزان والضيق عقوبات
(1/47)
عاجلة ونار دنيوية وجهنم حاضرة، والاقبال على الله تعالى والانابة إليه والرضاء به وعنه وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة.
وسمعت شيخ الإسلام أبن تيمية قدس الله روحه يقول: أن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القاعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة.
أو قال ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى.
والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره.
أو نحو هذا.
وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً.
وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
(1/48)
فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه والطمأنينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قوة عين المحبين، وحياة العارفين.
وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
وإنما يصدق هذا من في قلبه حياة، وأما ميت القلب فيوحشك ما له ثم، فاستأنس بغيبته ما أمكنك، فإنك لا يوحشك إلا حضوره عندك، فإذا ابتليت به فأعطه ظاهرك، وترحل عنه بقلبك، وفارقه بسرك، ولا تشغل به عما هو أولى بك.
واعلم أن الحسرة كل الحسرة الاشتغال بمن لا يجر عليك الاشتغال به إلا فوت نصيبك وحظك من الله عز وجل، وانقطاعك عنه، وضياع وقتك، وضعف عزيمتك، وتفرق همك.
فإذا بليت بهذا ـ ولا بد لك منه ـ فعامل الله تعالى فيه واحتسب عليه ما أمكنك، وتقرب إلى الله تعالى بمرضاته فيه، واجعل اجتماعك به متجراً لك لا تجعله خسارة وكن معه كرجل سائر في طريقه عرض له رجل وقفه عن سيره، فاجتهد أن تأخذه معك وتسير به فتحمله ولا يحملك، فإن أبى ولم يكن في سيره مطمع فلا تقف معه بلا ركب الدرب ودعه ولا تلتفت إليه فإنه قاطع الطريق ولو كان من كان، فانج بقلبك، وضن بيومك وليلتك، لا تغرب عليك الشمس قبل وصول المنزلة فتؤخذ أو يطلع الفجر أنى لك بلماقهم.
(الخامسة والثلاثون)
أن الذكر يسير العبد هو في فراشه وفي سوقه وفي حال صحته وسقمه، وفي حال نعيمه ولذته، وليس شيء يعم الأوقات والأحوال مثله، حتى يسير العبد وهو نائم على فراشه فيسبق القائم مع الغفلة، فيصبح هذا وقد قطع الركب وهو مستلق على فراشه، ويصبح ذلك الغافل في ساقة الركب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وحكى عن رجل من العباد أنه نزل برجل ضيفاً فقام العابد ليله يصلي وذلك الرجل مستلق على فراشه، فلما أصبحا قال له العابد: سبقك الركب، أو كما قال.
فقال: ليس الشأن فيمن بات مسافراً وأصبح مع الركب، الشأن فيمن بات على فراشه وأصبح قد قطع الركب.
وهذا ونحوه له محمل صحيح ومحمل فاسد، فمن حكم على أن الراقد المضطجع على فراشه يسبق القائم القانت فهو باطل، وإنما محمله أن هذا المستلقي على فراشه علق بربه عز وجل، وألصق حبة قلبه بالعرش وبات قلبه يطوف حول العرش مع الملائكة قد غاب عن
(1/49)
الدنيا ومن فيها، وقد عاقه عن قيام الليل عائق من وجع أو برد يمنعه القيام أو خوف على نفسه من رؤية عدو يطلبه أو غير ذلك من الأعذار، فهو مستلق على فراشه وفي قلبه ما الله تعالى به عليم.
وآخر قائم يصلي ويتلو وفي قلبه من الرياء والعجب وطلب الجاه والمحمدة عند الناس ما الله به عليم، أو قلبه في واد وجسمه في واد.
فلا ريب أن ذلك الراقد يصبح وقد سبق هذا القائم بمراحل كثيرة، فالعمل على القلوب لا على الأبدان، والمعول على الساكن ويهيج الحب المتوارى ويبعث الطلب الميت.
من موقع فرسان السنة